• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قُرآناً عربياً غير ذي عِوَجٍ

أ.د. محمد بديع

قُرآناً عربياً غير ذي عِوَجٍ


عاشت أجيال عديدة من أُمّة الإسلام في كنف اللغة العربية الجميلة؛ لأنها تربت على مائدة القرآن الكريم العربي المعجز؛ لذلك استقام لسان أبنائها بلغة صحيحة بليغة، حتى قبل أن يدخلوا المدارس، فيما كان وما زال يُعرف بالكتاتيب؛ لذلك أفاض الله عليهم بنور القرآن في أفهامهم، وعقولهم، وأرواحهم، وأبدانهم، ولسانهم.
وبالتالي ازدهرت اللغة العربية نثراً وشعراً، بينما نجد الآن المدارس والجامعات على كثرتها لم تول القرآن الكريم أو لغته العربية الفصيحة اهتمامها، بل مُنع فيها ضرب أمثلة البلاغة من القرآن الكريم، ادعاء ضرب أمثلة البلاغة من القرآن الكريم، ادعاء زور أنّه مراعاة لمشاعر الطلاب النصارى الذين عهدناهم يحفظون بعض آيات القرآن الكريم ليستشهدوا بها في مواقف شتى، من الخطابة والبيان، ومن ضرب الأمثلة، بل لتكريم السيدة مريم البتول خاصة عند ربها – عزّ وجلّ – يفعلون ذلك عن طيب خاطر ورضاً، فلا تتمسحوا في الإخوة النصارى، وأظهروا ما تكنّونه من بغض للغة العربية، وتغريب في مفاهيمكم، وتبعية لا تحقق عزة ولا كرامة في شتى المناحي، وها هو الجيل الجديد لا يُحسن قراءة بضع آيات من كتاب الله، ولا يذوق حلاة لغته، بل يتندر بالقلقة في لغته الجميلة، فلا استقام لسان أبنائه، ولا استقام ولاؤهم لعروبتهم ودينهم وقرآنهم.

- لسان عربي مبين:
وقد نقلت الأستاذة الدكتورة نعمات فؤاد – جريدة "الأهرام"، وهي مناضلة صلبة عن لغتنا العربية، ولا نزكيها على الله – نقلت أنّ اليابان تمنع أن يتعلم أبناؤها أيّة لغة أجنبية قبل سن الخامسة عشرة، وقد أكسب اللغة الألمانية انتشارها تعصب أهلها لها، بل كيف أجبر اليهود العالم على معرفة اللغة العبرية، وهي لغة كانت قد ماتت فعلاً بين لغات العالم، وتأمل يا أخي ما نجنيه الآن من جهل بالقرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، ولو أنزله الله أعجميّاً لقالوا: لولا فصلت آياته (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/ 17).
بل تأمل صحافتنا ولغتها كيف انحدرت وتدهورت واعوج لسانها وكتابها، ولغة الخطاب والتراسل ومفردات الأدب، والانحطاط في أداء الأغاني والأفلام والمسلسلات والمسرح والسينما والتلفزيون، في كل نواحي حياتنا الأدبية.. واللغة شرف الأُمّة ولسانها، فلو قطع لسانها فلتعلم أن عدوها هو الذي أراد لها أن تخرس، وأراد لها أن تبتعد عن فهم قرآنها الذي هو عزها وسيادتها على العالمين (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف/ 44)، نعم سوف يسألون ماذا صنعتم بهذه العزة؟ وكيف ضيعتم هذا الشرف؟ وهل بقي لكم بعده شيء تعتزون وتفخرون على باقي الأُمم؟
إنّ اليهود قالوا لعمر بن الخطاب (رض): لقد نزلت عليكم معشر المسلمين آية لو نزلت علينا معشر اليهود لجعلنا يوم نزولها عيداً (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3).
فأخبرهم أنّ الله جعل يوم نزولها عيداً فعلاً، فقد نزلت في حجة الوداع يوم عرفة.

- أبلغ شهادة:
لذاك اشتكانا رسول الله (ص) في القرآن الكريم لربه – عزّ وجلّ – بكلام ربه وجعلنا نقرأ شكواه منا لربه بلساننا لنشهد على المشكو منه (المسلمين) لصالح الشاكي (الرسول (ص)) إلى المشكو إليه (الله عزّ وجلّ)، فليس أبلغ من ذلك شكوى ولا أوقع من هذه شهادة (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان/ 30).
ولقد تعلمنا من كل دروس فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي – يرحمه الله– وعن جميع أساتذتنا ومشايخنا ومرشدينا إلى طريق الخير، تعلمنا تذوق حلاوة القرآن بلسانه العربي، فاللسان هو الذي يذوق الحلاوة، ولا يذوق حلاوة القرآن العربي إلا اللسان العربي الفصيح الصريح، ولقد كانت للفظ العربي عند من يفهمه أبعاد وتداعيات واشتقاقات معنوية عديدة، لا تسعها أيّة كلمات بديلة في أي لغة من لغات العالم، فكيف بكلمات الله؟ ينقلها جبريل الأمين لينطق بها لسان الصادق المصدوق (ص) أوّل من ينطق.

- اعوجاج اللسان:
وكذلك وحي الحديث لمن أوتي جوامع الكلم من قبل ربه عزّ وجلّ، تأمل يا أخي في الأمر الرباني: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) (النمل/ 92)، إن لفظ "يتلو" ليس فقط يقرأ، ولا فقط يقرأ بأحكام التلاوة، ولكن يقرأ القرآن بأحكام التلاوة ثمّ يتلوه أي يتبعه في كل أمر ونهي، وكأنّه يسير خلفه، فمن الاشتقاق جاء فلان وتلاه فلان أي تبعه وسار في أثره.. كذلك أمر سبحانه، كيف هذا؟ (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (الأنعام/ 151)، "تعالوا": أي أقبلوا ولكن ليس فقط أقبلوا بل أقبلوا وارتفعوا من العلو، ارتفعوا عن دنياكم وطينة ماديتكم حتى تكونوا في حالة سمو وعلو تستطيعون عندها أن تستقبلوا الوحي الرباني الكريم، وتكونوا أهلاً لأن تسمعوا حق السمع وتطيعوا حق الطاعة، فهل وعينا أهمية لغتنا العربية وخطر بعدنا عنها، واعوجاج لساننا بها؟ وأدركنا أيّة جريمة ترتكب في حق ديننا وقرآنناً وعروبتنا حين نبتعد عنها؟ أو نبعد عنها، كيف؟ بحسن نية أو بسوء نية بأيدينا أو بأيدي أعدائنا، وهل أحسسنا بخطر الجيل الجديد، الغريب اللسان، المتغرب الميول والرغبات والقيم والثقافات، على أمته، وخطره على نفسه بضياعه؟ "فمن ابتغى الهدى في غيره أضله الله"، وأقول لهؤلاء المفسدين: موتوا بغيظكم، فإنّ اللغة العربية باقية بإذن الله ببقاء القرآن والحديث وحفظ الله لهما، ولو كره المجرمون.
وأقول لكل العرب: هذه جريمة لا يكفرها إلا الإقلاع عنها، والتوبة منها، والندم على ما حدث منا، والعزم على عدم العودة إليها فلنعلِّم أبناءنا لغة دينهم وقرآنهم، ولنعتز بهذا، ولنضرب على أيدي المفسدين لأجيال الأُمّة بإبعادهم عن لغتهم، ولنفضح مخططاتهم، ولنعوض أبناءنا ما فاتهم، اليوم قبل الغد ولو من قوت يومنا، إن لم تقم المدارس بهذا، فهذا واجبنا الذي سنُسأل عنه بين يدي الله يوم القيامة، ولتتضافر جهود جميع المخلصين؛ لإعادة لغتنا إلى مكانتها التي أراد الله لها بتشريفها بنزول القرآن، ألا هل بلغت؟ اللّهمّ فاشهد.

- تربية العقلية التجميعية:
لكي يربي القرآن العقل ويجعله منتبهاً متيقظاً، كان التشابه العجيب بين كثير من آيات القرآن واللحظة التي تقرأ فيها، وأنت غافل ستجد نفسك ذهبت إلى سورة أخرى فيها نفس الآية أو نفس الختام.. كذلك كان ما أيسره على الله أن تكون سورة الاقتصاد، وسورة المجتمع، وسورة الحرب، وسورة السلم، وسورة العلاقات الأسرية... إلخ، ولكن ما نراه في القرآن أن كل موضوع يحتاج لكي يجتمع له قواعده وتوجيهاته الربانية أن تقرأ القرآن كله، فقد توزعت في سوره جميعاً تقريباً كل ما نحتاجه؛ لتدرب عقلك أن يكون تجميعياً وليس تجزيئياً ضيق الأفق، وتتعرف على كل أوامر ربك ونواهيه فهي متكاملة، وتعلم أن كل ذلك طاعة وكل ذلك عبادة (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82)، أبداً ولكن حالاً مرتحلاً كما وصفك رسول الله (ص) كما انتهيت من تلاوة القرآن احجز تلاوة جديدة للقرآن كله بأن تبدأ بقراءة الفاتحة وأوّل سورة البقرة، يقول الشيخ الشعراوي – يرحمه الله –: إن آخر حرف في القرآن هو السين في سورة الناس وعليه كسرة وليس سكون، لماذا؟ لكي تقول بعدها: والناس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، فلا تقطع صلتك بالقرآن أبداً؛ فإنّ منزلتك عند آخر أية تقرؤها من كتاب الله كما بشرك الحبيب المصطفى (ص).

- ابحث عن نفسك في القرآن:
هل تجد نفسك في آية من آيات القرآن تشعر أنك واحد ممن تحدثت عنهم الآية؟ انظر في المرآة لترى نفسك وتراقب حالك وأنت تتلو قول الله – عزّ وجل –: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر/ 53-62)، ولا تعليق بعد الدرر الغاليات التي شملت كل حالات البشرية.

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد (1900)

ارسال التعليق

Top