- نبوة وخلافة وعالمية:
لقد مرّت البشرية بفترات سادت فيها مفاهيم ومعايير وقواعد "العالميّات المختلفة". وقد كانت كل تلك المحاولات تغفل عن الرؤية السليمة لطبيعة الكون والحياة والإنسان وعلاقتها بالخالق العظيم – جلّ شأنه –، وتحاول أن تقدَّس الذات وتحقَّر الغير. فغابت القواعد السليمة لبناء العلاقات بين الأُمم والشعوب، فلم تعرف الأرض سلاماً، حتى يئست البشرية وظنّت أنّ الصراع بينها ضربة لازب، حتى بُعث محمد بن عبدالله (ص) بالرسالة الكاملة الخاتمة التي صدّقت على تراث النبُّوات كلِّها، وأوضحت قواعد الاستخلاف والابتلاء والتسخير والأمانة، لترسي بذلك قواعد الأمن ودعائم الاستقرار ومنطلقات السلام، وتعيد الإنسانية كلّها إلى الأصل الواحد (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...) (الحجرات/ 13)، وحددت لهم المهمة العمرانيّة الواحدة المشتركة (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود/ 61)، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، وأوضحت لهم أنّ الأرض – كلّها – بيت للإنسان باعتبار إنسانيّته لا باعتبار شيء آخر. ثمّ كانت "الخلافة" مفهوماً جديداً تكتشفه الأرض، فهي قيادة قد تؤدي دور السلطة أو الولاية، وقد تظهر بمظهر الحكومة، ولكنّها تتجاوز سلبياتها وسيطرتها وجبروتها وعنتها وتعاليها، وتلك المعادلة الصعبة التي لا يستطيع الإنسان حين يُترك لنفسه أنّ يصل إليها ولا أن يكتشف صيغتها. لكن "النبوة الرءوفة الرحيمة" قدمت هذه الصيغة للبشرية لتتبنّاها بديلاً عن حكم التسلُّط – تسلّط الإنسان على الإنسان –: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (ق/ 45)، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية/ 22). لكن البشرية لم تتقبل هذه الرسالة كما أنزلت، ولم تتشبَّث بهذه الهداية والنعمة المسداة إليها، فانقسم الناس إلى فِرَق من جديد، فكان منهم المؤمنون والمسلمون، وكان منهم الرافضون والمستكبرون (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) (فاطر/ 32). وبدأت البشرية مرحلة تدافع جديد، لكنها مرحلة اتسمت بكثير من الخصائص التي لم ترها الأرض من قبل. فللمرة الأولى رأت البشرية أقواماً لا يقاتلون حتى يقاتَلوا، وإذا قاتلوا فإنّهم لا يقاتلون علوّاً في الأرض ولا فساداً، ولا لتحقيق أغراض شخصية أو قومية أو إقليمية، ولكنّهم يقاتلون ليحرّروا إرادة الإنسان، ويصونوا له إنسانيته وكرامته، ويحموا له حتى اختياره الذي هو قبول أمانة الله، والقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض. ويصور لنا الفقيه الحنفي المعروف بالسرخسي (ت: 490هـ) تطور الأمر في العلاقات بين المسلمين وغيرهم في إطار التصوُّر الفقهي في القرن الهجري الرابع فيقول: "والحاصل أنّ الأمر بالجهاد وبالقتال نزل مرتَّباً، فقد كان النبي (ص) مأموراً في الابتداء بتبليغ الرسالة والإعراض عن المشركين، قال الله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر/ 94)، وقال تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85)، ثمّ أمر بالمجادلة بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)، وقال تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46)، ثمّ أذن لهم في القتال بقوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) (الحج/ 39)، ثمّ أُمروا بالقتال إن كانت البداية منهم (يريد من غير المسلمين) بما تلا من آيات، ثمّ أمروا بالقتال بشرط انسلاخ الأشهر الحرم كما قال تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (التوبة/ 5)، فاستقر الأمر على هذا، ومطلق الأمر يقتضي اللزوم، إلا أن فرضية القتال المقصود بها إعزاز الدين وقهر المشركين[1]. كان لابدّ من إزالة الحواجز التي تشد الناس إلى العبث والباطل واللَّهو واللعب، وتعبَّدهم للعبيد، وتصدهم عن عبادة الواحد الأحد، وتجاوز بهم غاية الحق من الخلق، فكان لابدّ من وقوع التمييز على أساس من تلك المواقف ولو مؤقتاً حتى تزول تلك الحواجز التي كانت ثابتة راسخة في عالم الأمس، والتي لم تُزِلْها جهود الأنبياء السابقين لخاتم النبيين على كثرتها وتنوعها. ولذلك حرص القرآن المجيد على إيجاد تعبئة نفسية لدى المسلمين مقابل تلك الحالات الشاذَّة، وذلك ليستقيم الأمر ولو بعد حين، وتعود الإنسانية إلى الأصل الذي خُلقت من أجله ونشأت عليه، ألا وهو الإيمان بوحدانية الرب ووحدة الأب، ووحدة البيت "الكون" إضافة إلى وحدة الحق والحقيقة. إنّ ذلك قد منح المؤمنين شعوراً بالكرامة الإنسانية والعزة الإيمانية، وسمح لهم بالصمود في وجه تلك الأعاصير التي تثيرها جحافل الشياطين، يقول تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون/ 8)، ويقول تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 139)، كما منع من محبة أولئك المتكبِّرين المغترين الذين استحبُّوا الكفر على الإيمان، لعل ذلك يدفعهم إلى إعادة النظر في مواقفهم تلك، فقال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (المجادلة/ 22). ونهى عن موالاتهم، لأنّهم تصدوا بالعداوة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة/ 1). وحين تأخذ التعبئة مداها فإنّها تنعكس على السلوك الإنساني – كلِّه – وعلى علاقات الإنسان المتنوِّعة، ومنها علاقته بالمكان الذي يعيش عليه، والمكان الذي يعيش عليه الآخرون. وذلك ما حدث فيما عرف بتقسيم الفقهاء الأرض إلى: دار الإسلام ودار الحرب. لقد بدأ تدوين المدوّنات الفقهية والأصولية وسواها في وقت كانت الدولة التي ورثت دولة الخلافة قد تعرضت لعمليّات تَدَافُع وجهاد أوصلتها إلى حالة من التمايز والمفاصلة مع أجزاء كثيرة من أمم الأرض، ما دفع بفقهاء المسلمين آنذاك ومفكريهم إلى تأصيل تلك الحالة الواقعة، ووضعها في إطارها الفقهي. فقُسِّمت الأرض إلى "دار الإسلام" يَأْمَن الناسُ فيها بأمان الإسلام وتُطَبَّق فيهم أحكامه. وإلى "دار حرب" لا يأمن الناس فيها بأمان الإسلام ولا تُطبق فيهم أحكامه وأضاف بعض الفقهاء "دار العهد". وهذه قسمة قامت على تقنين فقهي لحالة واقعيّة، ولم تكن تأصيلاً نظرياً منبثقاً من الإطار المرجعي التنظيريّ. - العلاقات الدولية وفكرة "العالمية" قبل الإسلام: في وثائق الحيثيين[2] مبدأ سنراه من مسلّمات العالم عند نزول القرآن، وهو أنّ العلاقة فيما بين الحيثيين وغيرهم من الشعوب، إما علاقة حماية وإما علاقة تحالف، وما عدا ذلك فباقي العالم كله أعداء وديارهم دار حرب، للأقوى أن ينال منهم كل ما تقدر جيوشه على الاستيلاء عليه منها أو فيها. والحال كذلك في نصوص العبريين؛ ففي سفر التثنية: "أما من تلك الشعوب التي يعطيك الباقي ميراثاً، فلا تترك الحياة لأحد ممن يتنفس"[3]. وما كان موقف الروم يختلف عن ذلك، وينتهي إلى قاعدة أنّ الأجنبيّ كان – وفقاً للمبادئ الدقيقة القائمة على الدواعي القانونية غير المتداخلة – محروماً في غير أرض دولته من الحقوق كلها الأصلية والثانوية، فلا شخصية قانونية للإنسان خارج أرضه"[4]. والحق أنّ الأجنبي كان في الأصل، في تلك النظم – كلها – يُعتبر عدوّاً. وأمّا المسيحية فيمكن الاطلاع على موقفها من خلال النظر في انقسامها إلى "مسيحيّة شرقية" وإلى "مسيهودية" اعتبرت نفسها حركة إصلاحية في داخل الدين اليهودي "دين شعب الله المختار"، ومنطقها في هذا المجال قائم على قاعدة "ليس علينا في الأميين سبيل". وقد آلت "المسيِّهودية" إلى ما يعرف اليوم في أمريكا بـ"الجودو كرستيان". واعتبرت نفسها "مسيحية غربيّة" ورثت عن الرومان والإمبراطورية الرومانية فكرة تأسيس مجتمع عالمي بديلاً عن عالمية أو مركزية الإمبراطورية الرومانية في ظل تعاليم "المسيهودية". وقد استطاعت الكنيسة أن تؤسس دولة، وأرادت أن تجعل من دولتها أو دولها – فيما بعد – دولة عالمية، ولكنها لم تفلح حتى جاءت حركة الإصلاح البروتستانتية في القرن السادس عشر الميلادي لتحرر الكنيسة من سلطانها، وتُجهض أحلامها في بناء مجتمع عالمي موحَّد تقوده كنيسة وتاج أو تيجان أوربية، لكن تلك الأحلام الكنسية سرعان ما ورثتها قيادات الفكر والمعرفة الأوربية، إضافة إلى القيادات السياسية التي تمخضت عنها "حركة الأنوار" الأوربية، ولكن الكافة كانت تشترك في شيء أساسي واحد: هو النظر إلى الذات الأوربية باعتبارها "المركز والقطب والسَّند"، والنظر إلى كل ما عداها باعتباره الهوامش. وإذا كانت فكرة "العالمية" قد باءت بالفشل من منطلقاتها الكنسية، كما باءت بفشل مماثل من منطلقاتها التنويرية العقلانية. فقد التقت الإرادتان الأوربيّتان (الكنيسة التوراتية والسلطة الزمنية) مرة أخرى في عمليات السيطرة والهيمنة والتخلص من الأديان الرجعية الثاوية في الشرق كالإسلام[5]، واندفعت مجموعات التجار والمبشِّرين معاً تعمل على تغيير أنماط حياة الآخرين وذهنياتهم، وتكسير وتحطيم بناهم الاجتماعية والاقتصادية لإيجاد أسواق لمنتجات أوربا، والسيطرة على خامات أولئك الكفار المتخلفين في الظلمات. لقد كانت نزعات تصنيف البشر والتمييز بينهم تقوم على أفكار بسيطة وساذجة فيما مضى، أما بعد ذلك فإن تلك الجهود لمفكري الغرب استطاعت أن تفلسفها وتجعل منها نسقاً معرفياً ومؤسسياً له فلسفته ومناهجه ونظرياته وأحكامه المعيارية المصنعة لتسقط – هذه المرّة – من خلال ما سمته بعلوم ومعارف إنسانية واجتماعية، نعوتاً سلبية على أبناء الحضارات الأخرى، خاصة أبناء الشرق من عرب ومسلمين وكنائس شرقية. - المعارف الإنسانية والاجتماعية: تضنيف البشر وفرض "النظم العالمية": بدأت حركة تكوين المعارف الحديثة (التي صارت فيما بعد علوماً إنسانية واجتماعية غربية، لكنها أضفيت عليها الصفة العالمية مثل علوم الأنثروبولوجيا، الإناسة، وعلم النفس، وعلوم اللسانيات، التي استعملت عند كثير من علماء الغرب ومستشرقيه لبناء أهرامات من التفسيرات العرقية، كما بنيت قواعد أسس علم "الجغرافيا" الأوربي ليصبح واحداً من العلوم الأولية في تحقيق التوازن الضروري لمفهوم "المواطنة". وتتابعت متتالية المعرفة الأوربية لترسم علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والإدارة والقانون والفنون والآداب كلها، ولتقوم بتعميمها – بعد ذلك – في أمم الأرض جميعاً لتحقيق "الكونية الغربية الحديثة"، وفرض ما تسميه بـ"النظم العالمية" كيفما تشاء وقتما تريد. فأقامت نظامها العالمي الأوّل – في هذا القرن – في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ثمّ أفرزت "النظام العالمي الثاني" في أعقاب الحرب الكونية الثانية. وجعلت العالم ثلاثة عوالم، عالماً أول يتمثل في الغرب الليبرالي، وعالماً ثانياً تمثل في الاتحاد السوفيتي المقبور، وعالماً ثالثاً هو عالم المسلمين ومن ألحق بهم. وفي تلك المرحلة بلورت الخبرة الغربية "علم العلاقات الدولية" مشحوناً بكل تلك التحيزات الفكرية، - التي أفرزت الحربَ الباردة، وآلافاً من الحروب الصغيرة المحدودة شملت كل بلاد العالم عدا الغرب المحرِّك والمستفيد الأوّل منها. إنّ المشكلات التي أفرزتها ولا تزال تفرزها تلك المعارف مشكلات كبرى، وما الإرهاب ولا الاضطراب إلا بعض تجلياتها، وقد أفلت الزمان حتى من يد الغرب نفسه، فلم يعد مفكروه المنصفون اليوم قادرين على إيقاف عجلة التدهور. فالأزمة كونية، والتفكيك شامل، ولابدّ من كتاب كوني معجز صادر عن مصدر متعال متجاوز يعرف كيف يقضى على الأساطيرالعرقية والعنصرية التي شادت بنائها أساطير علوم الإناسة واللغويات وأصل الأنواع وما بني عليها، ليعيد للإنسانية إيمانها بخالقها ثم بوحدتها الإنسانية، ووحدة الكون الذي تعيش فيه، وإعادة بناء العلاقات الطبيعية بين هذه – كلها – ومن بينها "العلاقات الدولية" ولا مصدر ولا مرجع لذلك سوى "القرآن المجيد". - عالمية الإسلام: عالمية الهدى والحق: لقد بلغت البشرية مستوى متقدماً جدّاً في العلوم والمعارف والمناهج العلمية، وتجاوزت في عمرها المديد العقل الإحيائي الجزئي إلى العقل الطبيعي، فـ"العقل الوضعي" ثمّ لتدخل مرحلة "العقل العلمي"، وها هي قد بدأت تدرك أن "العقل العلمي" – وإن استطاع أن يقودها إلى التفكيك من خلال النقد والتحليل – فإنّه قد عجز عن تمكينها من التركيب، وتشعر أنها إن استمرت في طريقها هذا فإنّها سائرة إلى العدم والعبث والهاوية أو "نهاية التاريخ". ولا شك أنّ الإسلام قادر على أن يقدم حلّاً معرفياً لتلك المعضلة، وأن يقدم معرفة تستند في مرجعيتها ومنهجيتها إلى القرآن العظيم، وتمثل بديلاً حضارياً على مستوى العالم. فكيف يمكن أن يتم ذلك؟! التصور الإسلامي عالميٌّ منذ بدايته، وتشيع فكرة "العالمية" في جوانبه كلها، سواء منها جوانبه العقيديَّة أو الشرعية، أو رؤيته الكلية للكون والإنسان والحياة. ونزول القرآن المجيد بلغة العرب على رسول منهم يعيش في بلدتهم المحرمة "مكة – أم القرى"، لم يَحُلْ بين العربي وبين إدراك "عالميّة" هذه الرسالة وعمومها وشمولها. وقد خرج حَمَلةُ رسالة الإسلام الأولون ليحققوا مهمتين: الدعوة إلى الإيمان بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) (آل عمران/ 110). وقد استطاع الإسلام استيعاب الشعوب الوثنيّة في حركة فتح ودعوة واسعة، أمّا الشعوب الكتابية فقد دخل من دخل منها في عقود ذمة مع المسلمين، حفظت لهم شخصياتهم القومية وخصائصهم الدينية والثقافية واستوعبتهم، لتصبح دولة المسلمين "الدولة العالمية الأولى". لقد استطاع المسلمون استيعاب التعدُّديات الدينية والثقافية والحضارية كلها في إطار "عالمية الخطاب الإسلامي". إنّ عالميّة "الخطاب الإسلامي" عملت وتعمل على استيعاب التعدُّد بعد الإقرار به، ودفعه باتجاه "العالميّة"، ليتحول إلى عامل دفع في إطار تنوعٍ بشري إيجابي تظلل عليه أنوار الهدى ودين الحق. لقد ورد الوعد الإلهي – في القرآن – بظهور الهدى ودين الحق على الدين – كله – يذكر بأهم الخصائص المساعدة على الظهور، وهي تحري الهدى، والسعي وراء الحق. فالدين مضاف إلى الحق، والحق مضاف إليه. وذلك لئلاً يتوهم البعض بأن "عالميّة الإسلام" المنتظرة ستتخذ الأبعاد والوسائل ذاتها كما هو الحال في نبوءات أنبياء أهل الكتاب التي يتوهمون حدوثها كخوارق تقع بشكل غيبيٍّ وبدون أسباب، أو بذات الأسباب التي وجدت في عصور أولئك الأنبياء والرسل. - عقبات في طريق العالمية الإسلامية: إنّ الواقع التاريخي قد رسخ في أذهان جمهرة الناس بعض المسلمات الخاطئة، منها: أن رسول الله (ص) قد أقام دولة كسائر الدول، كانت دينية، ويمكن أن تكون قومية أو إقليمية، وأنّ المسلمين مطالبون باتباع ذات الوسائل التي اتّبعت في عمليات الانتشار الإسلامي الأولى وهي الفتح، واستقر في الأذهان أن على الأُمّة المسلمة أن تقيم دولة كدولة المدينة لتتولى هذه الدولة المهام التي نهضت بها "دولة المدينة" في الماضي، فتقيم مثلها في العالم المعاصر. كما استقر في الأذهان، أنّ المسلمين في حاجة إلى التعبئة الدائمة المستمرة لتحقيق هذا الحلم وهو بناء دولة التمكين والمنطلق. وقد زادت تعقيدات العلاقات مع الغرب الأمر سوءاً، وخاصة بعد تحطيم دولة آل عثمان، وتمزيق كيان المسلمين إلى أشلاء وفقاً لتخطيطات "سايكس بيكو"، فتكرست سائر المعطيات الفكرية في الواقع التاريخي الإسلامي في العقل المسلم المعاصر، واعتبرت معطيات ذلك الواقع التاريخي على اختلافها وسائل حفظ وحماية لكيان الأُمّة المعاصرة لابدّ من حمايته والدفاع عنه، والتشبث به كلِّه، خيره وشره، جيِّده ورديئه، طيِّبه وخبيثه، دون مراجعة أو نقد أو تمحيص. زد على ذلك أنّ المغلوب مولع بتقليد الغالب، خاصة إذا كان المغلوب يعيش حالة أزمة فكرية مستعصية وتوقف عقلي، وهذا قد جعل عملية تقديم البديل الحضاري القرآنيّ المعاصر في غاية التعقيد والصعوبة. فكيف يمكن تقديم الإسلام مصدراً للبديل الحضاري، وكيف تقتنع البشرية بأنّ القرآن المجيد المكنون المفصّل يحمل الحل، وهو في نظرها مجرد كتاب دين، ذلك هو التحدي المعاصر الذي يواجه حملة القرآن في عصرنا هذا. مما لا شك فيه أنّ الإسلام – اليوم – يُقدِّم لأهله ولغير أهله بشكل لا يتناسب وعظمته وقدراته، وذلك من خلال الفقه الموروث الذي مثَّل محاولة فقهائنا العظماء في التاريخ في معالجة مشكلات مجتمعاتهم الزراعية أو الرعوية أو ذات التجارة الفردية المعتمدة على التبادل البسيط للمنافع في تلك المجتمعات. لكن حين يراد لهذا التراث وهذا الفقه أن يستجيب لحاجات معقدة لمثل هذا النوع من المجتمعات المعاصرة واقتصادياتها، فإنّنا نكلفه ما لا يطيق، والقول سوف ينعكس على الإسلام وعالميته انعكاساً سلبياً فلا ينفي عنه عالميته فحسب، بل يظهره بأنّه دين لا يصلح إلا لمجتمعات قروية ورعوية بسيطة أو لمجتمعات بادية، وهنا مكمن الخطر. - العالميات والأزمات: إنّ العالميات في إطارها الوضعي البشري أكثر ما تبرز الحاجة إليها عندما تتفاقم الأزمات القومية والإقليمية أو المركزية، وتبدأ الأنساق الحضارية الإقليمية بالتراجع والتلاشي. إنّ كلاً من الحضارات الآسيوية السابقة والإفريقية كذلك لم تشكل "بعداً عالميّاً" يقابل في عالميته عالمية الإسلام. الغرب الأوربي هو الوحيد الذي شكل "عالميّتين" مقابلتين تاريخياً للعالمية الإسلامية الأولى، وها هو يتحدى ويعمل على إعاقة انبثاق العالمية الإسلامية المرتقبة. إنّ الغرب المعاصر يعتبر نفسه وارث العالمية الهيلينية التي استوعبت حضارات الشرق التقليدية الإقليمية كافة وشملت حوض المتوسط كله، وكذلك العالمية الرومانية الهيلينيّة. ولقد تكونت الحضارتان الهيلينيّة والرومانية ضمن نسق حضاريٍّ له نظرياته الخاصة في الإنسان، وهي نظرة تسمح باستعباد الإنسان لا بتحويله إلى رقيق أو "قنٍّ خالص" بل باعتباره طاقة عمل يمكن تسخيره بدون أجر، وأفضل العبيد في نظر هاتين الحضارتين مصارع في ساحات القتال يصرع الأقران أمام أسياده ويقف باعتزام على الجسد المتهاوي، ثمّ يستدير ليركع لأوئلك الأسياد. والغربيون المعاصرون يعدون أنفسهم ورثة هاتين الحضارتين، ولم تختلف نظرتهم للإنسان كثيراً عن أولئك الأسلاف حيث سخروا الإنسان في المناجم والصناعات المختلفة وأدخلوه، كلّاً أو أجزاء، حيّاً أو ميتاً إلى المختبرات لإجراء التجارب وإنماء الخبرة، كما سخّره أسلافهم في بناء الهياكل والقلاع. هذا النسق الحضاري بشقيه الوارث والموروث بنى على هذه النظرة للإنسان المؤدية للصراع والتضاد والتنابذ لا محالة، حتى لو اتخذت شعارات تبدو في ظاهرها مغيرة لتلك القيم الحاكمة للمسيرة الحضارية الغربية. في مقابل ذلك كله تأتي "عالمية الإسلام الأولى" لتنسخ تلك الوضعيات الثلاث الإغريقية والرومانية والغربية المعاصرة وعلى النحو التالي: أوّلاً- في مقابل العالمية القهرية الهيلينيّة والرومانية جاء الإسلام محرّراً للشعوب، إذ لم يسجل لنا التاريخ ومنه التاريخ الوضعي واقعة واحدة قتل فيها المسلمون شعوب المناطق التي فتحوها، فقد كان القتال – كله – موجهاً ضد الطغاة والقوى التي تساندهم، لا ضد الشعوب، بل لقد ساندت الشعوب الفاتح المسلم ضد سادتها، فهو أوّل فاتح في التاريخ يأتي إلى من حوله من الشعوب لا فاتحاً، بل محرِّراً، ملتزماً بكتاب سماويٍّ يقيِّده بقيود أخلاقية كثيرة تمنعه من أن يعلو في الأرض أو يفسد فيها، وبذلك أسس الإسلام أول عالمية "مقابلة" للعالمية القهرية الطاغية المستبدة. ثانياً- تميزت الحضارة الإسلامية ضمن مراكزها العربية المتنوعة بعقيدة توحيد، كان من شأنها ألا تستعلي بإلهها (وهو – بالحق – إله الجميع)، على آلهة الشعوب الأخرى. فبقيت اليهودية والنصرانية، وأضيفت إليهما المجوسية وكذلك الصابئة ضمن ديانات متعايشة في إطار الكيان الإسلامي الجامع، فعاش كل أولئك بحمايته وأمانه، وتمتعوا بعدله. فكان الكيان الإسلامي أوّل كيان يتآلف فيه الجميع. ثالثاً- تميز النسق الحضاري بعدم استعباد شعوب المناطق المفتوحة، فالمدينة المنورة – وهي عاصمة الإسلام الأولى – لم يبنها عبيد استقدموا من المستعمرات. وفريضة الزكاة فقد كانت توزع في مناطق جبايتها، وللمؤلفة قلوبهم من غير المسلمين حظ فيها، وكذلك الجزية التي تنفق على حماية دافعيها. فالنسق الحضاري الإسلامي في إنسانيته هو نقيض النسق الهيليني والروماني. إذ يطرح التوحيد في مقابل الوضعية الملحدة أو المشركة، ويطرح النسق الحضاري الإسلامي القائم على منظومة القيم الإلهية مقابل النسق القهري الاستعبادي، ويربط العباد بخالقهم ولا يسخّرهم لحاكم أو سلطان. يتبع...
الهامش:
[5]- ورد في إحدى القصائد الإيطالية أثناء الحملة العسكرية على مدينة طرابلس في ليبيا سنة 1911م ما ترجمته: (يا أماه! أتمي صلاتك ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي، ألا تعلمين أن إيطالية تدعوني، فها أنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً، لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان، سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن...) راجع: شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1965، ص52.
المصدر: كتاب خطابات عربية وغربية في حوار الحضارات
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق