محمد عبدالله الخطيب*
◄أعداء هذا الدين يصرون على ربط الإنسان بالأرض، وقطعه عن السماء، ويعملون على ربط قلبه بمآرب الدنيا، وإبعاده عن طلب الآخرة، ويأبى الإسلام إلا أن يسوق البشرية إلى الله، قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات/ 50).
إنّ أركان الإسلام عمل حقيقي يوجد اليقظة في النفوس، والصحوة في المجتمعات، والعبادات التي تكوّن هذه الأركان، تمثل تدريباً جليل الأثر في تربية الأخلاق، وتقويم الطباع، وتهذيب النفوس.
وقول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45)، خبر حق، فإذا رأيت فصيلاً لا يعلو فوق تفاهات هذه الدنيا، ولا ينتهي عن منكراتها، فصلاته مجرد تمثيل وحركات، لا حقيقة فيها.
وقول رسول الله (ص): من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (رواه البخاري)، هذا خبر حق أيضاً، ومعناه أنّ الصيام الحقيقي يمسح آثار الماضي السيِّئ، كما يمسح أكداره عن مرآة القلوب، فتعود مجلوة نقية، ثمّ يستأنف الصائم حياة تكاد ترفعه، وتلحقه بالملأ الأعلى.
إنّ الأساس الأوّل لهذه العبادات هو أداء حق الله، والقيام بوظيفة العبودية، واعتراف البشر بأنّ الله الذي خلقهم ورزقهم يجب أن يعبدوه، ويشكروه، ذلك أن جعل القلب يتعلق بربه، يجعل المسلم إذا ملك الدنيا يسخرها لخدمة دينه، ويجمع المال والبنين ليكونا درعاً للحق، وعوناً للرسالة التي يؤمن بها، ويتحول إلى ذاكر لله بالغدو والآصال، ويضع نفسه مواهبه وكل ما يملك، مع رهبان الليل، وفرسان النهار، وصدق الله العظيم، إذ يقول: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) (النور/ 36-37).
وها هو نور رمضان يشرق من جديد، وينساب إلى القلوب، وها هي مشاعر الخير والبر والرحمة تتجدد، وها هي الآمال في غدٍ مشرق، ومستقبل كريم، وفي ثقة في نصر الله لنا على أنفسنا أوّلاً، ثمّ على أعداء الإنسانية ثانياً.
إنّ شهر رمضان يذكرنا برسالتنا الخالدة، والواقع يؤكد حاجة البشرية إليها، إن حاجة العالم إلى هذا الدين أهم من حاجته إلى الماء والدواء والهواء، لقد شغلتنا الدنيا الفانية عن الآخرة الباقية، وأحاطت بنا زخارفها ومناهجها، والرجل المؤمن في سورة غافر ينادي بأعلى صوته: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر/ 38-39).
إنّ من رحمات الله عزّ وجلّ أن جعل لنا في هذا الشهر العظيم محطة نقف فيها طوال ثلاثين يوماً، نقف مع أنفسنا نحاسبها على تقصيرها، ونفتش عن منابع الإيمان في قلوبنا، فنجلو الصدأ عنها.
ورمضان مصحة للعلاج الروحي، ففي الحديث: "رغم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثمّ انسلخ فلم يُغفر له" فمن لم يحصل المغفرة في رمضان، متى يحصلها؟
إنّ الإسلام يريد منا أن نعيش في هذا الشهر، في جو خاص، نحصّن فيه أنفسنا، نحسِّن الصلة فيه بخالقنا سبحانه وتعالى، روى ابن خزيمة والبيهقي أن رسول الله (ص) قال: ".. استكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضه شربة لا يظمأ بعدها أبداً".
وفي شهر رمضان تتم في هذا الكون تغييرات، يجب علينا أن نلاحظها، وأن نتهيأ لنكون مع الوافدين والقادمين على الله، الذين يستحقون أن تُفتح لهم أبواب الجنة يحملون شهادة العابدين، لأن صومهم قد وقاهم من النار.
روى أبو هريرة (رض) أن رسول الله (ص) قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب الجحيم، وصفدت الشياطين"، وفي رواية أخرى: "غُلقت أبواب الجحيم فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة" (متفق عليه).
يقول العلماء: الفتح كناية عن تنزيل الرحمة وإزالة العوائق، عن مصاعد الأعمال، وقالوا: إنّه كناية عن ارتفاع الصائم فوق المعاصي والذنوب، والتخلص من بواعث الشر بقمع الشهوات، أما تصفيد الشياطين، فهو منعهم من الإفساد والغواية.
وهذه التغييرات الكونية التي أشار إليها الحديث يجب أن يقابلها تغييرات إلى الأفضل في نفوسنا، حين نقدم على طاعة ربنا، ونخلص في صيامنا، وهذا ما يريده الإسلام من كل مسلم يريد نصر دينه، والعمل لتخليص أمته من الأغلال.
- هل من مشمّر للجنة؟
جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد (رض) يقول رسولنا (ص): "ألا هل من مشمّر للجنة، فإنّ الجنة لا حظْر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضجة، وزوجة جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة في حلة عالية بهية"، قالوا: نعم يا رسول الله، نحن المشمّرون لها؟، قال: "قولوا إن شاء الله"، قال القوم: إن شاء الله" (الترغيب والترهيب).
ها هو شهر رمضان يدعونا لذلك، فهيا بنا نشمّر ونجتهد، ونهجر فراشنا، ونوقظ أهلنا، ونرفع راية الجهاد ضد أنفسنا، ورغباتنا، ونعمل على أن:
1- نحافظ على أداء الصلوات في المسجد، ونتذكر أن من صلى أربعين يوماً في المسجد لا تفوته تكبيرة الإحرام، كُتبت له براءة من النار، كما جاء في الحديث، ورمضان فرصة لتحقيق هذا الهدف العظيم.
2- نحرص على إحياء السنن التي كثيراً ما ننشغل عنها، مثل: الجلوس في المسجد، وذكر الله، وتلاوة القرآن، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، والتبكير لصلاة الجمعة.
3- نختم القرآن أكثر من مرة، مرة في البيت مع الأولاد والزوجة، ومرة في المسجد، ومراجعة المحفوظ إن كنا قد نسيناه، ولنذكر جميعاً أن صاحب القرآن، يُقال له يوم القيامة: "اقرأ ورتل وارق، كما كنت تفعل في الدنيا، فمنزلتك عند آخر آية تقرؤها"، ولنعلم أن "من ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب".
4- المحافظة على صلاة التراويح، والتبكير إليها في المسجد، والحرص على الصف الأوّل، ولا ننصرف حتى ينصرف الإمام، ولنصحب معنا الزوجة والأولاد كلما تيسر ذلك.
5- الإقلال من الطعام والشراب، والنوم، والكلام، والسيطرة على اللسان، ولا نصوم عن الحلال، ونفطر على الحرام، من غيبة ونميمة وأذى للناس، وجو رمضان من أنسب الأجواء التي تعيننا على هذا، حيث الصيام بالنهار والقيام بالليل، والقرآن غض طري على ألسنتنا، ويملأ جوانب النفس، والشياطين مصفدة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة.
6- التنافس مع الأهل والأولاد في العبادات، ورصد الجوائز لذلك، ولا نرهق الزوجة بالإكثار من إعداد الطعام والولائم، فرمضان شهر التسابق، في ميدان آخر، وليس شهر التلذذ بطيب الطعام والشراب.
7- لنذكر الفقراء والمساكين، والأيتام، والأرامل، في هذا الشهر تذكرة عملية فنسارع إلى إطعامهم ونشاركهم فيه، ونشعرهم بأخوتنا لهم، وهناك من إخواننا المكروبين والمعذبين في كل مكان من البلدان الإسلامية، من يقاسون الحرمان والظلم والاضطهاد، فلابدّ من العناية بهم.
8- الحرص على برّ الوالدين، وإجابة طلباتهم، والعمل على راحتهم، والإكثار من الدعاء على من تُوفي منهم، قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/ 24)، ونصل الأرحام، ونتفقد الأقارب، ونسأل عن الغائب، ونعود المريض.
9- ليكن شهر رمضان فرصة للعفو والصفح، والصلح حتى مع الذين أساءوا إلينا، يقول (ص): "ليس الواصل بالمكافئ، لكن الواصل من إذا قُطعت رحمه وصلها" (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلُهم ويقطعونني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحل عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: "لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفّهم الملّ ولا يزال معك ظهير عليهم" (رواه مسلم)، وتسفهم المل، أي: كأنما تطمهم الرماد الحار.
ولنحرص على سلامة صدورنا تجاه الآخرين، ولنكن نحن البادئين بالسلام والتحية.
10- التعود على الإنفاق، وإن كان قليلاً، ولنتذكر رسول الله (ص) فقد كان "أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان".
11- محاسبة النفس على ما مضى من أعمال، وخاصة التقصير في العبادات، والتقصير في الجوانب الإيمانية، ونسأل أنفسنا: هل كنا مداومين على التوبة؟
هل نخشى الله حق خشيته؟
هل نتوكّل عليه حق التوكُّل؟
هل نتحاكم إليه حين نتخاصم؟ كما نحاسب أنفسنا على الجانب الأخلاقي والسلوكي:
هل نؤدِّي الأمانة؟
هل نفي بالوعد؟
هل نقبل العذر؟
هل نحرص على الصدق؟
هل نسارع إلى خدمة المحتاج؟
هل نخف لنجدة الملهوف ونصرة المظلوم؟
وهل نؤدِّي حقوق الآخرين؟
فإن وجد المسلم انحرافاً عن الطريق، صحيح المسار، قال تعالى: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الإسراء/ 14).
12- يجب الإكثار من الدعاء والتضرع، والوقوف بباب الله، وقرع الأبواب، "فدعاء السحر سهام القدر"، وعسى الحق تبارك وتعالى أن يفك أسرى المسلمين، وأن يرد غائبهم، وأن يفرج كروبهم، ولندع دعاء المضطر، المشرف على الغرق، الذي لا ينجيه إلا تعلقه بالحبل المتين، والركن الشديد، الفعال لما يريد، القائل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة/ 186).
13- استصحاب نية الاعتكاف في العشر الأواخر.
(*) من علماء الأزهر
المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1381 لسنة 1997م
ارسال التعليق