• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لباس المرأة وحدوده الشرعية

نجيب السيد

لباس المرأة وحدوده الشرعية

يمثل زي المرأة ولباسها الخارجي صورة عن الحضارة التي تنتمي إليها، وكذلك الرجل في بعض سماته الخارجية يحكي عن نمط معيّن من الحياة وطريقة خاصة في فهمها.

وإذا كان هذا الزيّ لدى الغرب يمثل فهماً معيّناً للمرأة خصوصاً وللحياة عموماً على هذه الأرض، فإنّ نظرة الإسلام لذلك تباين تماماً ذلك الفهم، وتفسّر دور المرأة والإنسان والغاية من هذه الحياة بشكل مضاد كامل.

وإذا كان هذا الفهم الغربي ينطلق أساساً من حصر الاهتمام بهذا الحياة المادية الدنيوية بكلِّ ما فيها من ملذات وإشباع للغرائز فيعتبرها رأس مال أوحد للإنسان ويربط بالتالي علاقة الرجل والمرأة والمجتمع والحياة بهذه المادية البحتة، فإنّ الإسلام ينظر إلى حياة أعمق وأولى بالاهتمام، ويصبح الاهتمام بالدنيا جزءاً من هذا الاهتمام بالحياة الأخرى، بل ويربط صلاح نظامه الاجتماعي والثقافي والفكري وما يستتبع ذلك من مسائل أخرى بهذا الفهم المعمّق. وهكذا نشعر بأنّ أي حكم لأيّ واقعة – مهما كانت بدواً بسيطة وصغيرة – لابدّ أن يرتبط في صلبه بهذا النظام العام المترابط والذي يصب كلّه في ذلك الهدف الذي تلخصه الآية المباركة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...) (آل عمران/ 110).

وفي هذا السياق نفهم خطورة دور لباس المرأة الخارجي، وما يمثله من توجه في إصلاح المجتمع أو السير به نحو الانحراف والفساد والتحلّل.

إنّ ما يحكم مسألة اللباس هو الضابطة المذكورة في الآية (31) من سورة النور التي تقول: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنّ... وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)، فإنّ كل ما يطلق عليه الزينة والتزين هو مما لا يقبله الشرع ولا العرف الإسلامي. انّ معنى الزينة هو محاولة إظهار المفاتن الجسدية أو إعطائها جمالاً مصطنعاً للفت أنظار الآخرين ونيل إعجابهم، وهذا خروج عن الدور المرسوم للمرأة كإنسان يملك هذه المسؤولية الكبيرة في المجتمع لا تكون أداة فسادٍ للمجتمع الذي تعيش فيه حيث نصفه من الرجال الذين يفقدون غالباً التربية الخلقية الصحيحة فيمدّون أعينهم إلى ما لا ينبغي لهم مع ما يستتبع ذلك من إثارة للغرائز والشهوات.

إنّ مسألة إظهار المفاتن محاكاة للغرب صاحب اليد الطولى في هذه المسألة وتطويرها نحو الأسوأ – هي مسألة لا تتناسب إطلاقاً مع التوجه الإسلامي المحافظ الذي نصّت عليه الآية السابقة (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ). قد يكون للغرب مبرّراته في هذا الاتجاه لأنّه يتناسب – كما قلنا – مع مبدئه الدنيوي حصراً، والذي يغفل الاعتبار لأيّ قيمة خلقية أو سلوكية إلّا ما يصب في خدمة هذه الدنيا، إلّا أننا لسنا مجبرين – كمسلمين – على السير في هذا الطريق الذي يتنافى تماماً مع مبدئنا وقيمنا ونمط سلوكنا المختلف مع الغرب كما أسلفنا.

إنّ عملية التفاعل مع الآخرين ليست ممنوعة على إطلاقها بل هي شيء ممكن في الإطار المعقول والمدروس وغير المتنافي مع مرتكزاتنا الفكرية والسلوكية. أما الاندفاع في التقليد الأعمى ولو على حساب المبدأ فهو شيء قبيح وسخيف ينم عن ضعف شخصية الإنسان المسلم أمام حالات الإاغراء التي تخاطب عاطفته وغريزته. ومسألة إظهار المفاتن هي من هذا النمط الأخير حيث برزت المحاكاة للغرب في كلِّ شيء ومنها أشكال اللباس والتصاميم مع ما يصاحبها عادة من مواد التجميل والمساحيق وفن إبراز المفاتن، مما مسخ مظاهر المجتمع الإسلامي الملتزم بل والمجتمع الشرقي بشكل عام والمعروف عادة بشيء من المحافظة باعتباره مهبط الأديان عموماً.

لقد ركّز الشرق الإسلامي تبعاً للتشريع الديني على أخلاقيات الحياء والمحافظة مما أضفى على إنسانه بشكل عام – والمرأة خصوصاً – كثيراً من الحشمة والمهابة والخلق الرفيع والبعيد عن التبذّل والاندفاع الحيواني، وقد زاد الإسلام ذلك تأكيداً وتأسيساً عبر كثير من أحكامه الشرعية التي رفعت من منزلة المرأة ولم تحصر وجودها في أنوثتها ودورها في إبراز مفاتن جسدها. ومن هنا نجد انّ القاعدة التي تنطلق منها تلك الأحكام الدينية في الآية السابقة وهي – كما قلنا – الضابط الذي يدور حوله أي حكم، وهو انّ كلَّ ما يثير الآخرين باعتباره زينة وجاذباً للنظر عبر إبراز جماله فهو محرّم لا ينبغي للمرأة أن تتعاطاه، وعليه فلابدّ من ستر كامل جسدها لأنّه عورة – حسب التعبير الفقهي – أي يقبح النظر إليه لا باعتباره عورة حقيقية موضوعاً بل باعتبار المشاركة في الحكم وهو عدم جواز الإبراز، فكما يحرّم النظر إلى العورة الحقيقية فكذلك إلى سائر جسد المرأة ومفاتنها.

صحيح انّ الشريعة لم تحدّد نوع اللباس الذي يستر الجسد ولم تتدخّل في تفاصيل شكله، إلّا أنها ركّزت على تلك القاعدة الأساسية وهي انّ كلَّ ما يثير الانتباه لأنوثة المرأة فهو غير جائز. ومن جملة ما يوجب الإثارة ويفهم منه معنى التزين ألوان اللباس، فإنّ لها أثراً كبيراً في جذب الانتباه وخاصة تلك الألوان الفاقعة أو المتعدّدة، ومن هنا كان تركيز المجتمع الملتزم للنساء على الاعتماد على لبس العباءة السوداء لأمور رئيسية نذكر بعضاً منها:

أوّلاً: لأنّ العباءة ليست زياً "موديلاً" معيناً يمكن أن يشكّل الإثارة، بل دور العباءة ستر أيّ "موضة" للباس المرأة الخاص الذي يختفي تحتها فلا يظهر إلّا لأقرانها ومحارمها فقط.

ثانياً: لأنّه ليس للعباءة السوداء لون يحقق الإثارة ويضفي جمالاً على جمال المرأة الطبيعي بل هو يظهر كإنسان له دور في المجتمع يؤدّي ما عليه من واجبات إن اضطرّت للتواجد خارج منزلها للقيام بها، ولكنها تؤديه كإنسان لا كأنثى. وهكذا يبدو اللون الأسود – بشرط عدم كونه براقاً ملفتاً للانتباه – هو اللون العادي البعيد عن أي جمال مصطنع.

ثالثاً: كون العباءة لباساً فضفاضاً فهي لا تبرز تقاطيع الجسد ولا تجسّد بعض أعضاء المرأة، إذ انّ ذلك التجسيد – لو حصل – قد لا يقل إثارة عن كشف تلك الأعضاء بلحمها العاري ولذا فهو ليس أقل خطورة منها وإن لم تظهر بشرة تلك الأعضاء.

إننا لا نريد القول بأنّ الشريعة قد حدّدت لبس العباءة للمرأة، فقد ذكرنا سابقاً عدم تحديد لباس معيّن بل القاعدة العامة يمكن أن تطبّق على أي لباس ساتر، إلّا أننا باستطاعتنا الإدعاء أنّ لبس العباءة هو اللباس الأمثل الذي يطبق تلك القاعدة الأساسية وهي عدم التزيّن وإظهار المفاتن وإبراز محاسن الجسد.

على أنّ ما ينبغي التنبيه عليه ونحن بصدد الحديث عن اللباس هو تلك العادة المحرّمة المنتشرة في بعض البلدان الإسلامية ومجتمعاتها، وهي وإن لم تستورد زيها من الخارج ولكنها وقعت في أفحش من ذلك ألا وهو اهتمامها بزيّها الوطني الذي قد يكشف بعض أجزاء الجسد لا رغبة بالإثارة بل للمحافظة على تقليد معين في اللباس. ويمكننا ملاحظة ذلك في الهند والباكستان وأندونيسيا مثلاً وأفريقيا السوداء بشكل عام حيث ينتشر الزي التقليدي الوطني حتى بين المسلمات فيظهر قسم كبير من شعرهنّ وكذا جزء ليس باليسير من بطونهنّ أو صدورهنّ أو أعناقهنّ أو أقدامهنّ رغم قيام كثير منهنّ بأداء الشعائر والواجبات الدينية الأخرى واجبة كانت أم مستحبة. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يكشف عن غلبة العادات الوطنية على المعتقد الديني الذي يفترض أن يصلح تلك العادات والتقاليد وفق التعاليم الإسلامية، بينما نجد النتيجة عكس ذلك. وهذا مظهر من مظاهر ضعف الشخصية لدى تلك المجتمعات.

هذا مضافاً إلى شيء آخر يتعلق بمسألة اللباس وهو عدم جواز كون الثوب شفافاً أي يظهر ما تحته سواء كان ذلك بالنسبة للثياب العادية أم لباس القدمين وهو عيب شائع عند أكثر النساء، وكذلك تغطية الرأس بغطاء شفاف.

على أنّ ما يوجب الإثارة أيضاً ويدخل في نطاق اللباس المحرّم هو عدم تغطية الرأس والشعر بشكل جيِّد وكامل، بل قد يدخل عنصر التفنن المحرّم فيه وهو من أبرز مظاهر التزيّن، خاصة مع ما يصاحبه عادة من تصفيف للشعر بنمط معين في محاولة لإثارة الإعجاب وإبراز الجمال المدّعى إظهاره. وكذلك الحال في نوع غطاء الرأس وشكله وطريقة إرتدائه، كلّ ذلك قد يدخل الكثير منه في نطاق الحرام المنهي عنه كما نصت عليه الآية: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) (النور/ 31). والكلام نفسه قد يجري في مسألة ستر القدمين وما يصاحبه من اختيار معيّن لنوع خاص من الجوارب الشفافة – كما مرّ – وغيره من الملوّن والمزخرف. وكذلك الحال أيضاً في اختيار نوع الحذاء ذي الأشكال المتعددة التي تمارس دور التفنن والإغراء نفسه. من الكعب العالي إلى شكله ولونه وطريقة إثارة الصوت منه لإلفات أنظار الناس (لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).

إنّ دور اللباس عموماً هو الستر اما أن يستعمل لفنون الإثارة فهذا خروج عن غايته العقلائية والإسلامية المرسومة له.

ومما يدخل في نطاق التزين المشكل شرعاً والذي قد يلامس الحرام بشكل واضح لبس الخاتم المثير للانتباه وكذا النظارات ذات الشكل واللون المعينين. صحيح انّ المرأة أو الفتاة قد تضطر إحداهما إلى ذلك محافظة على الاستحباب أو لوضع طبّي معيّن – وهذا غير ممنوع – إلّا أن تطوير ذلك لشد الانتباه يُدخل المسألة في نطاق المنع الشرعي. وكذا لبس الحليّ الذهبية أو وضع المساحيق الجمالية كأحمر الشفاه وطلي الأظافر والروائح العطرية وغيرها مما تعرفه النساء أكثر من غيرهنّ، فإنّ هذا مما لا ينبغي الإشكال في حرمته والنهي عنه صريحاً في الآية المباركة.

إنّ مسألة المساحيق وخاصة تلك المخصّصة للوجه هي من أبرز أشكال الحرام المنهي عنها، خاصة وانّ جمال الوجه الطبيعي يثير الكثيرين فكيف إذا أضيفت إليه بعض المساحيق. ولذا ذهب أكثر مراجعنا أعزهم الله تعالى إلى وجوب تغطية الوجه دفعاً لهذا الحرام أو الإشكال المترتب على كشفه. انّ مسألة تغطية الوجه هي مسألة مهمّة ينبغي لنساء مجتمعنا – حفاظاً على مهابتهنّ وكرامتهنّ واحترامهنّ – أن يلتزمن به مع عدم الحرج والضرورة لأنها ترتبط بحكم الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليست القضية قضية تعصب أو تمسك بعادات معينة بل هي ترتبط – كما قلنا – بالحكم الإلهي المرتبط بالنظرة الإسلامية العامة والمتكاملة للمرأة والمجتمع وصلاحهما.

إنّ على أخواتنا الملتزمات بالشريعة الإسلامية الابتعاد عن هذه الأساليب من الإثارة والإغراء التي لا نراها تبتعد كثيراً عن أنماط التبرّج الذي كان شائعاً في الجاهلية وتحدثت عنه الآية المباركة: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) (الأحزاب/ 33)، حيث لم تكن المرأة سوى سلعة لإمتاع الرجل بعيداً عن أيِّ دور اجتماعي مميّز لها ينسجم مع كونها نصف المجتمع انيطت بها مهمة مقدمة هي أعلى بكثير من تلك المهمة الدونية التي مارستها سابقاً وتمارسها الآن وهي الإغراء والتفنن في إثارة إعجاب الآخرين.

انّنا نحذّر أخواتنا المؤمنات وكذلك آباءهنّ وأزواجهنّ من التردي في هذه الوحول السائدة الآن والتي تُلَبّس بلبوس الحضارة والتقدم وإعطاء معنى معيّن لحرية المرأة يصب في خدمة شياطين تلك الحضارة التي طوّرت هذا المفهوم حتى أوصلته إلى حالة من الإباحية والتفلّت من كلِّ قيد أدبي أو شرعي. ونذكّر أخواتنا بالحديث الشريف المروي "انّ أكثر أهل النار من النساء" وما ذلك الا لما ورد في الحديث الآخر: "همّها الزينة والإفساد" اننا نربأ بنسائنا أن يسقطن في مثل هذه السفاسف بعد ان أعزّهن الله تعالى ورفعهنّ إلى المقام الذي ينبغي أن يُرتّبن فيه داخل المجتمع الإسلامي..

 

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 31 و32 لسنة 1992

ارسال التعليق

Top