• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

جدل النص والواقع

تركي الحمد

جدل النص والواقع

أيهما وجد أولاً، البيضة أم الدجاجة؟ سؤال أزلي سرمدي لا جواب قاطعاً له، فالناس في ذلك حزبان، حزب البيضة وحزب الدجاجة. والحقيقة إن وجود جواب قاطع حاسم في المجال ليس مهماً على الإطلاق، إلا لمحبي الجدل الصرف، طالما أنّ البيضة والدجاجة موجودتان، وطالما أنّنا نستفيد من وجوهما والعلاقة بينهما فيما ينفع ويفيد. وسواء عرفنا أيهما وجد قبلاً، فإنّ ذلك لن يغير من علاقتنا معهما في شيء، فسوف نستمر في أكل البيض والدجاج، وفي استيلاد البيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، وسوف تستمر العلاقة (الوجودية) بين البيضة والدجاجة طالما بقي وجود، وطالما كانت هنالك حياة، وطالما كانت هناك بيضة ودجاجة.
أحجية البيضة والدجاجة التي نتندر بها أحياناً، هي ذاتها ذاك السؤال الذي قسم الفلاسفة إلى ماديين ومثاليين، ومزيج من الاثنين. أيهما كان قبلاً، وبالتالي أيهما كان جرثومة الوجود الأولى وصاحب الفعل في حركة هذا الوجود، الفكرة أم المادة؟ بناء على إجابة هذا السؤال، انقسم الفلاسفة إلى حزبين كبيرين، وانقسم الحزبان إلى أحزاب فرعية، وهكذا. وبناءً على أفكار الفلاسفة نهض الأيديولوجيون، ومن بين أيديهم خرجت أحزاب وتيارات سياسية. وقبل ذلك انقسم الفلاسفة المدرسيون في العصور الوسطى إلى إسميين وواقعيين وبينما جاء التصوريون.
خلاصة القول، أنّ أحجية البيضة والدجاجة هي ذاتها أحجية كثير من الأشياء التي نتعامل معها في هذه الحياة ربما بتجريد أكبر، ولكن بنية السؤال هي ذاتها، وأهمية الجواب أو عدمه هي ذاتها.
والحضارة العربية الإسلامية هي في مجملها حضارة (نص)، بمثل ما كانت حضارات مصر ووادي الرافدين حضارات (أسطورة)، وحضارة العصر هي حضارة (فعل)، وذلك وفقاً للمحور الأساس الذي تقوم عليه هذه الحضارة أو تلك. وعلى ذلك، فإنّه من الطبيعي أن يكون (النص) هو الشغل الشاغل لهذه الحضارة، وحوله ومنه وفيه تدور كافة النشاطات وتنبثق كافة الفعاليات التي أنتجتها وتنتجها هذه الحضارة، بمثل ما هو (الفعل) مناط كل حركة في الحضارة الغربية المعاصرة. مَن يحكم حركة الحياة من حولنا، النص أم واقع وآليات هذه الحياة؟ قبل الإجابة على هذا السؤال والاسترسال في الحديث، هناك مسلّمة أعتقد أنّها ضرورية لبناء النقاش كله، ألا وهي أنّه لا النص بذاته قادر على جعلنا نستغني عن واقع الحياة، ولا واقع الحياة بذاته منفرداً قادر على جعلنا نستغني عن توجيه محور الأساس في الحضارة التي ننتمي إليها، وهو النص في حالتنا العربية الإسلامية. فمهما بلغ الزهد مثلاً بأحدهم، فلابد له من أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن. وتحقيق هذه الاحتياجات لابد أن يكون من خلال (ممارسة الحياة) شاء أم أبى، وليس الوقوف خارجها. ومهما بلغ من انغماس المقبل على الحياة بكليتها من السير مع عجلة الحياة المعيشة، فلابد له من (معنى) لما يفعل، وإلا كان ما يقوم به مجرد عبث ودائرة تدور دون غاية أو هدف.
من هذه المسلّمة نستطيع أن نخرج بإجابة أولية وضرورية للسؤال المطروح آنفاً حول علاقة النص بالواقع، أو حول علاقة محور الحضارة المنتمي إليها بالواقع الذي لابد أن تعمل هذه الحضارة في إطاره وضمن حدوده ومعالمه ودوافع الحياة فيه. فالواقع بذاته لا معنى له دون النص المحدد، والنص بذاته لا غاية له دون الواقع المهيمن، والاثنان يكمل أحدهما الآخر. فالثبات طبيعة النص، ولكنه يكتسب المرونة والحيوية عن طريق الواقع الذي هو متحرك بطبيعته، ولكنه يكتسب المعنى الثابت من النص؟ أيهما كان أولاً، هل جاء النص ثم حدد الواقع، أم إنّ الواقع أفرز النص وهذا في الحقيقة سؤال لا معنى له حيث إنّه لا يقدم ولا يؤخر في العلاقة الجدلية بينهما. ونحن حين نتحدث عن النص، فإن المعنى منصرف إلى تلك النصوص التي أنتجها البشر، أما النص الديني أو الإلهي المباشر فهو حالة استثنائية لا تدخل في هذا التحليل بشكل كامل. وعندما يقال ذلك، أي إنّ النص الإلهي المباشر لا يدخل في التحليل بشكل كامل، فإنّ المقصود ما هو معروف لكل أحد، فالله سبحانه وتعالى لا يرسل الرسل (ع)، ولا يوحي بكلماته المباشرة إليهم إلا عندما تكون البشرية في حاجة إلى هذه الكلمات والتوجيهات في حالة الحيرة والبحث عن معنى.
وبدراسة الظروف التي سبقت ظهور سيدنا محمد (ص)، أو طوالع البعثة المحمدية، كما يسميها الأستاذ عباس محمود العقاد، تتبين لنا هذه الحقيقة. فالكل في تلك الفترة، من عرب وثنيين وأهل كتاب، كانوا يعلمون أنّ نبياً على وشك أن يبعث، لدرجة أن يهود المدينة كانوا يهددوا به الأوس والخزرج، ولدرجة أنّ سلمان الفارسي (رض) خرج من دياره حتى استقر به المقام في يثرب عبداً رقيقاً في انتظار النبي الموعود. المراد قوله بإيجاز هنا هو أنّه حتى في النص الإلهي المباشر القادم بواسطة نبي مرسل، فإنّ الواقع وحركة الحياة ليست بعيدة عن ذلك، إذ إنّ حركة الحياة هي التي أوجبت في النهاية إرسال الرسل وتلقي كلمات الله سبحانه وتعالى المباشرة. يأتي هذا النص، ويأتي ذلك التدخل الإلهي المباشر لإسباغ المعنى على حركة فقدت المعنى، وواقع فقد البوصلة بحيث تعود العلاقة السليمة بين النص والواقع.
وعند النظر إلى الحضارات عامة، نجد أنّها تكون في أوج زخمها وفعاليتها حين تكون العلاقة الجدلية بين محورها الذي تدور حوله وبه، وبين حركة الحياة ذاتها قائمة، وتبدأ هذه الحضارة في الانحدار حين يطغى جانب من المعادلة على الجانب الآخر، وبذلك تضيع العلاقة أو تتشوه. وفي حضارتنا العربية الإسلامية، كان الإزدهار والارتقاء حين كان النص مفتوحاً على حركة الحياة، يستوعبها ويوجهها في آن واحد، هذه الحضارة أعطتنا كل ما نفخر به اليوم من نتاج حضاري، من فلسفة وفقه وعلم كلام وشريعة وعقيدة. وبدأ الانحدار حين أغلق النص، واكتفى بآلياته الذاتية تاركاً حركة الحياة تجري على أعنتها، فكانت النتيجة ذلك الفج العميق بين منتجات النص المدرسية (السكولاتية) التي لا علاقة لها إلا بذاتها، وبين إفرازات الحياة التي لا تجد لها ضابطاً ولا محدداً، فتبحث عن كل ذلك هنا أو هناك، في نص شعبي أو نص خارجي أو غير ذلك، حيث إنّ النص المؤسس قد وضع في حالة من إنتاج الذات، وهو ضخم لا ريب، ولكن لا علاقة له بما يجري فعلاً بين البشر وعلى مسرح الحياة. والمشكلة الأعوص في كل ذلك هي في انعكاس مثل هذه الحالة على ذات الإنسان المنتمي للنص وحضارته. فقدْ فقدَ هذا الانسان توازنه وانسجامه مع نفسه، وأصبحت الذات الواحدة عدة ذوات لا رابط بينها. فهي، أي هذه الذات، تتعامل في هذا الاتجاه بآليات وذهنية تختلف عن الآليات والذهنية المتبعة في ذلك الاتجاه، وهذه حالة نعيشها حتى اليوم. مثل هذه الازدواجية في الذات، وآثارها المعطلة للحركة الفاعلة، لا نجدها في الحضارة عندما تكون في حالة الإزدهار، وعندما تكون معادلة النص والواقع سليمة، كما لا نجدها عند إنسان الحضارة الغربية المعاصرة، الذي قد يعاني من مشاكل وإشكاليات ذاتية عديدة، ولكن الازدواجية ليست أحدها، فهو منسجم مع ذاته في هذا المجال. وكي تكون الصورة واضحة، فإنّ الازدواجية المتحدث عنها ليست نوعاً من النفاق أو المجاملة الاجتماعية التي قد تفرض علينا ارتداء مختلف الوجوه والأقنعة في مختلف المناسبات، ولكنها معاناة ذاتية حقيقية، وانفصام ذاتي ملموس، ناتج عن افتقاد المعيار المناسب للحالة المناسبة.
إنّ انقطاع العلاقة بين طرفي المعادلة خلق لدينا عالمين شبه منفصلين، إن لم يكونا منفصلين على الاطلاق، هما عالم النص وتوليد النص من النص وفق آليات معرفية معينة، وعالم الواقع المتحرك الذي لا يعرف الثبات خاصة في مثل عالم اليوم. بكلمات أخرى، أصبح لدينا عالم (المفروض) في مقابل علام (الموجود)، والعلاقة بين العالمين مفقودة. ويجد الإنسان نفسه ممزقاً بين هذين العالمين: فهو لا يستطيع الانفكاك من عالم (الموجود)، لأنّ فيه معاشه وانتماءه إلى بشر لا يستطيع عدم التعامل معهم، كما أنّه لا يستطيع الانفكاك من عالم (المفروض)، لأنّ المفترض أن يكون فيه انتماؤه وهويته ونحو ذلك، فكيف يكون الوضع؟ لابد من ازدواج الذات إلى ذاتين لكل منهما قوانينها وآلياتها الخاصة، ولا علاقة بين الاثنين. فتجد أحدهم مثلاً يعمل في بنك وهو موقن في أعماق ذاته بحرمة العمل في مثل هذا البنك، ولكنه لا يستطيع إلا أن يعمل فيه، فهو لا يستطيع أن يحيا دون طعام وشراب، دون مسكن وملبس، وزوجة وأطفال، وعلى ذلك قس.
لقد كان الواقع وحركته، والحياة زخمها، مرجعاً لسلفنا ومنتجي تراثنا حين كانت الحضارة العربية الإسلامية في حالة صعود وازدهار، وضاع كل ذلك حين كان الانفصال عن هذا الواقع. هذه المنهجية، أي الالتزام بسيرورة الواقع، هي الوشيجة الحقيقية التي تربطنا بتراثنا وأسلافنا، وليس ما أنتجوه، لأنّ ذلك النتاج مرتبط بواقع مختلف وظروف لا نعيشها اليوم، كما أنّ ظروفنا لن يعيشها مَن سيأتي بعدنا. مشكلتنا اليوم، ببساطة، هي أنّنا نلزم أنفسنا بما أنتجوه ونترك منهجية كيف أنتجوه، ونعتقد بذلك أنّنا قد حافظنا على التراث، مع أنّنا بذلك نفقد التراث حقيقة، ناهيك عن واقعنا الذي نعيشه. قد يقول قائل هنا إنّ في حديثك رائحة الدعوة إلى ترك النص جملة وتفصيلاً، وهذا في الحقيقة قول غير سليم. فحتى لو أردنا ترك النص افتراضاً، فإنّنا لا نستطيع، فهو منا ونحن منه، طالما كنا منتمين إلى الحضارة التي أنتجته. المشكلة أنّنا نجعل كل النصوص في حالة من القداسة ما أنزل الله بها من سلطان، فليس هناك ما هو مقدس إلا كلمات الله المباشرة في كتابه الحكيم، وما بلغه عنه رسوله الكريم، أما عدا ذلك فإنتاج بشري نستفيد منه ونستشيره، ولكنه غير ملزم. والنصوص المقدسة السامية، من قرآن كريم وسنة مطهرة، ذات عمومية واتساع تجعلها قادرة على استيعاب الحياة ومتغيراتها في كل الأزمنة والأمكنة، عندما تكون موجهة إلى الغاية أو المقاصد التي أرادها صاحب النصوص، ألا وهي، بشكل عام، خلافة الإنسان لربه على هذه الأرض. وفي ذلك، أي الاستخلاف، معيار لبني الإنسان في التفريق بين ما هو صالح وما هو طالح في فهم مقاصد المشرع لخلقه. فكل ما يؤدي إلى عمارة الأرض وإثراء الحياة عليها هو لا ريب جزء من إرادة الرب جلت قدرته، لأنّ ذلك مرتبط بالغاية النهائية، ألا وهي الاستخلاف، وعكس ذلك صحيح.
المشكلة إذن ليست في النصوص المقدسة، التي ما كانت إلا لإعطاء المعنى وتوجيه الإنسان، ولكنها في فهم هذه النصوص بما يتوافق مع الغاية على هذه الأرض، ألا وهي الاستخلاف الذي مجاله ذات الواقع وذات الحياة. المشكلة أخيراً، هي حين يجعل أي فهم بشري اجتهادي لهذه النصوص الخالدة والثابتة هو المقدس وتنسى قدسية النص ذاته بوعي أو دون وعي. لقد كان الأوائل واعين بهذه المسألة.

المصدر: كتاب السياسة بين الحلال والحرام/ دار الساقي

ارسال التعليق

Top