• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ما بين فلسفة ديننا والفلسفات الأخرى

أ . تحسين يحيى أبو عاصي

ما بين فلسفة ديننا والفلسفات الأخرى

كل عصر له فلسفته الخاصة في الحياة بشكل عام منذ بداية التاريخ حتى اليوم، ومن تلك الفلسفات تنبثق الحضارات عبر التاريخ، مثلما حدث من تلاقح بين ثقافات الأغريق والهند ومصر واليمن والرومان والفرس... وتترك تلك الفلسفات بصماتها على جميع نواحي الحياة من فكر وسياسة وسلوك وأدب ودين وفن وعادات... إلخ .

  وعندما تتصادم تلك الفلسفات يحدث للبشرية الشقاء بكل ألوانه، لذلك فتلاقح الثقافات يتولد عنه مزيجا راقيا من الخير والتقدم، وعندما تتقولب بعض الفلسفات بقوالب جامدة وهي تدعي ملكية الحقيقة المطلقة والحق المطلق، فهنا الطامة الكبرى ...   وسنضرب هنا على عجل بعض الأمثلة التي يمكن لجميع الفلسفات التي أنجبت حضارات عبر التاريخ، أن تتلاقح فيما بينها وتتلاقي في الكثير من القواسم المشتركة :   فلسفة الهندوس تدعو إلى طريق الحب والخلاص، وإلى طريق الفعل الصحيح، وتدعو إلى التأمل وإلى الحكمة والتفكير ...   والفلسفة البوذية كان لهم دور في الحركات الثقافية للفلسفات والمذاهب الدينية، مثل المانوية و الزرادشتية، وهي فلسفة تدعو إلى الاستنارة ومحاربة الشهوات، والبحث عن السعادة، ومحاربة الجهل ...   الفلسفة الزردادشتية تدعو إلى قوة الخير والعمل الصالح، وإلى النور والحكمة ...   الأخناتونية في مصر القديمة تدعو إلى الخوف من إله واحد، وعدم اقتراف الشر، ونشر المحبة ...   الإغريق واليونان ساهموا في علوم الرياضيات والفن وقواعد الهندسة وعلم الفلك والطب .   والديانات المسيحية واليهودية والإسلامية تلتقي بأمور كثيرة جداً منها: المحبة والخير للناس وإكرام الضيف واحترام الجار ورحمة الطفل والمرأة والشيخ، حتى أنها تشترك في كثير من أسماء الله الحسنى كالرحيم – واللطيف – والحكيم – الكريم – والسلام – الوهاب – الزاق – الفتاح – الحكم – العدل – اللطيف – الخبير – الحليم – الحكيم – البر- التواب - البر – الرؤوف - الصبور .   تلاقح الفلسفات لا يتعارض بين القديم والحديث، بل ويطوره باستمرار، من خلال البحث عن أسس وقواعد مشتركة بين الشعوب والأمصار عبر التاريخ، فالرسول محمد (ص) قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم..".   وفي دعوة أخلاقية كريمة يقول الله سبحانه وتعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/199)   ودعوات أخرى كثيرة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تدعوا إلى التأمل والتفكير والخير من أجل الناس جميعاً :   قال (ص): "إنما بعثت لأمم مكارم الأخلاق"- رواه التِّرمذيُّ-   والله يقول: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة/256).   حتى الميت : وجاء في صحيح البخاري: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَا إِنَّ النَّبِيَّ (ص) مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟.   وكان إذا مرت عليه جنازة يهودي أو نصراني يتقلب وجهه، فيسأل في ذلك يقول: نفس فلتت مني إلى النار. فإذا كان رسول الله احترم ميتاً ليس بمسلم، فمن الأولى بنا احترام الحي كائناً من كان ...   تسامح : وموقف الرسول (ص) في فتح مكة: "ما تظنون أني فاعل بكم؟ قال الجميع: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء". ومرَّ رسول الله (ص) عقب فتح مكة بفضالة بن عمير وهو عازم على الفتك به. فقال له: ما تحدَّث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل، فضحك النبـي (ص) وقال: أستغفر الله لك. ووضع على صدره، فكان فضالة يقول: (والله ما رفع رسول الله يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إليَّ منه).   رحمة : ويقول (ص) أني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز من وجد أمه عليه فأسرع.   حُب : وقال (ص): "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذهبهنّ عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي".   حتى الحيوان : ومرّ رسول الله بظبية عند قانص فقالت: يا رسول الله إن ضرعي قد إمتلأ وتركت خشفين، فخلِّني اذهب وأرويهما ثم أعود إليك فتربطني فقال لها رسول الله (ص): صيد قوم وربيطتهم؟ قالت: (يا رسول الله فاني أعطيتك عهد الله لأرجعنَّ) فأخذ عليها عهد الله ثم أطلقها وأرسلها، فما لبثت إلاّ يسيراً حتى جاءت وقد فرّغت ما في ضرعها. فقال عليه الصلاة والسلام: لمن هذه الظبية؟ قالوا: لفلان فاستوهبها منه ثم خلى سبيلها وقال: (لو انّ البهائم تعلم ما تعلمون من الموت ما أكلتم سميناً).   الأسرى: لم يحدث في عهد الرسول أن قتل أسيرا، لأنه كان يغلب جانب العفو دائما ...   كان ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة في طريقه إلى المدينة يريد اغتيال الرسول (ص) فأخذته سرية وجاءت به إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: (أحسنوا أساره) فربط بسارية المسجد، ثم دخل إلى بيته فقال لأهله: (أجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إلى ثمامة، وأمر له بناقة يأتيه لبنها صباحاً ومساءاً. ثم جاء إليه صلوات الله عليه فقال: مالك يا ثمامة، هل أمكن الله منك؟ فقال: (يا محمد أن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وان كنت تريد المال فسل تُعط منه ما شئتَ). وفي اليوم الثالث أطلق سراحه وعفا عنه، فانطلق ثمامة إلى ماء قريب فاغتسل وطهر ثيابه ثم دخل إلى المسجد فقال: يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبحت أحب الوجوه كلها، وما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين إليَّ، وما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد اليَّ) شهد شهادة الحق وأسلم. ثم استأذن رسول الله في العمرة فأذن له. فلما كان ثمامة بمكة وعلمت قريش باسلامه. فقالوا له: صبأت يا ثمامة قال: بل أسلمت وتبعت دين محمد، وهموا بقتله، ولكنهم خافوا قومه، لأنّ عامة تموينهم من القمح كان من اليمامة، فقال لهم ثمامة: والله لن تصل إليكم حبّه من حنطة اليمن إلاّ باذن رسول الله فلما عاد إلى اليمامة منع القمح عن مكة حتى جاعت قريش، فبعثوا إلى النبـي (ص) يسألون بالله والرحم أن يكفيهم أمر ثمامة، فكتب (ص) إلى ثمامة أن يكف عنهم. ألآ يستحق هذا النبي الوصف القرآني الذي وصفه الله به: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/4).   حب الخير للجميع : عن أنس بن مالك: أن رسول اللّه (ص) قال: "انطلقوا باسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه، ولاتقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولاصغيراً، ولا امرأة، ولا تغلُّوا وضمُّوا غنائمكم وأصلحوا {وأحسنوا إنَّ اللّه يحبُّ المحسنين}". ( فهرس أبي داود كتاب الجهاد)   روي أنه (ص) أوصى المجاهين أثناء غزواتهم ومن ذلك أنّ الرسول (ص) كان يوصي أصحابه (رضوان الله عليهم) إذا خرجوا للجهاد بألا يهدموا صومعة عابد، ولا يقتلوا شيخاً كبيراً، ولا امرأة ولا طفلا، ولا يقطعوا شجرة ولا يحرقوها.     نستنتج من كل ذلك سعة ثقافة دين الاسلام وسماحته ورحمته، فلماذا نحن نُضيق ما وسَّعه الله حيث قال (ص): لا تضيق واسعاً - أو لا تحجر واسعاً .

ارسال التعليق

Top