• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المقامات المشرفة في كربلاء

المقامات المشرفة في كربلاء
◄ثمة طريقان اثنتان تؤدِّيان إلى مدينة كربلاء المقدّسة: طريق تربطها بالعاصمة بغداد مروراً بمدينة المسيب التابعة إدارياً لمحافظة كربلاء وطولها ستون ميلاً، وطريق أخرى تصلها بمدينة النجف الأشرف المقدّسة. وأيّاً ما كانت السبيل التي يسلكها المسافر متّجهاً إلى مرقد الإمام الحسين (ع) ومثوى شهداء الطفّ الكرام، فلابدّ له – في كلتا الحالين – من المرور بطريق مخضوضرة تحفّها بساتين الفاكهة ومزارع النخيل، حتى إذا كان على مقربة من مشارف المدينة، إسترعى انتباهه ولفت نظره مشهد فريد: فعلى حين غرّةٍ تبدو لناظِرَيهِ عند الأفق البعيد وعبر لوحة متكاثفة من النخيل والزروع مآذن الحرم الحسيني الشريف وقبابه وهي تتلألأ وتشرق بنور ربها حتى لكأنّ المسافر يرى إلى بهوٍ فسيح من مرايا في ساعة شروق وتظل المآذن تطلّ شموخاً على الدرب، مواكبة ركب الزائر تؤانسه وترفع عنه وحشة الطريق وتثير في نفسه مشاعر من الدِعَةِ والطمأنينة وتُذكي لديه روحاً من الخشوع والتفكّر والادّكار.. إنّه يغذّ السير ويخفّ مشوقاً إلى بقعة كريمة شهدت واحدة من أنبل ملاحم الشهادة والفداء. ألا وهي موقعة الطف الخالدة التي خاضها الحسين مع أصحابه الميامين. وعند مدخل المدينة تطالع القادم صفوف من المنازل المتميِّزة بـ"شناشيلها" وأعمدتها الخشبية ذات الزخارف والنقوش. ولا يفتأ يشق طريقه بين معالم عمرانية فولكلورية تقليدية تتواءم مع طُرُز من العمارة مستحدثة. وحين يصل الزائر إلى الحرم الشريف يجد نفسه أمام سور تنتشر على انحائه بوابات خشبية ضخمة تزيِّنها النقوش الفنية ويكسوها الزجاج. وما أن يلج من إحداها حتى يجد نفسه في وسط الصحن الشريف الذي تحيط به حُجُرات في مقدمة كل منها مساحة صغيرة ينعقد فوقها طاق. ويطلق على كل حُجرة إسم إيوان. وفي مركز الصحن ينتصب المرقد والضريح ومن حولهما رواق – على هيئتهما – مربّع الشكل. ويتوسط المرقد من الداخل صندوق الضريح ذو الشباك الذهبي.. وقد بُثّت هنا وهناك في جنبات الروضة نُجَفٌ وثُريّات أنيقة تضيء المكان بنور غامر، بينما فُرشت الأرضية بالسجاد الفاخر. يا لروعة المشهد، ويا لخشوع الموقف: روضة تعجّ بالزوّار والباكين.. والركّع السجود. وجموع خاشعة تؤدّي الصلاة.. فالحرم الحسيني دعاء وتضرّع وابتهال يرتفع إلى عنان السماء.   منشأ اسم كربلاء ومعناه: اختلف الباحثون في منشأ اسم (كربلاء) ومعناه، فبعضهم يرى أنّ كلمة كربلاء لا تعدو معنى (قرب الإله) وهي كلمة متوارثة من البابلية القديمة. ويحتمل آخرون أنّ اسم كربلاء ربما كان ذا صلة باللغة الآرامية والاستورية كربلاتو Karbalatu، وهو يعني نوعاً من غطاء الرأس. ويبدو أنّ بعض المؤرِّخين والباحثين قد استطاعوا التوصل إلى معرفة لفظة "كربلاء" من نحت الكلمة وتحليلها اللغوي، فقيل انها منحوتة من كلمة "كور بابل" العربية وهي عبارة عن مجموعة قرى بابلية قديمة منها "نينوى" التي وجدت منذ العصور الغابرة، وهي الآن سلسلة تلول أثرية ممتدة من جنوب سدة الهندية حتى مصب نهر العلقي في الأهوار، ثم "الغاضرية" وتعرف اليوم بأرض الحسينية و"كربلة" بتفخيم اللام وتقع إلى شرقي كربلا وجنوبها، ثم "كربلاء" أو "عقر بابل" وهي في الشمال الغربي من الغاضرية، ثم "النواويس"، وكانت هذه المنطقة مقبرة للنصارى قبل الفتح الإسلامي ومكانها اليوم من أراضي ناحية الحسينية قرب نينوى، ثم "الحير" ويعرف "بالحائر" وهو اليوم موضع قبر الحسين (ع)، إلى حدود روضته الشريفة أو حدود الصحن. اما ياقوت الحموي فقد أشار في معجمه إلى أنّ معنى كربلاء يحتمل عدة وجوه منها: قوله: كربلاء بالمد وهو الموضع الذي قتل فيه الحسين بن علي عليهما السلام في طرف البرية عند الكوفة. فاما اشتقاقه: فالكربلة رخاوة في القدمين، يقال جاء يمشي مكربلاً، فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة، فسميت بذلك. ويقال: كربلت الحنطة، إذا هززتها ونقّيتها فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض مُنقّاةً من الحصى والدغل فسُمِّيَت بذلك. والكربل اسم نبت الحمّاض. فيجوز أن يكون هذا الصنف من التبت يكثر وجوده هناك فَسُمِّيَ به. وربط بعض الكتاب بين الاسم والفاجعة التي قُدِّرَ لها أن تصبغ أرض المدينة بالدم، فادّعى أنه مركَب من كلمتين هما كرب وبلاء، وإلى هذا أشار الشريف الرضيّ في قوله: "كربلا ما زلت كرباً وبلا".. إلاّ أنّ هذا الربط لا يقوم على دليل علمي لأنّ كربلاء عرفت بهذا الاسم قبل قدوم الحسين إليها. وقد سبق للإِمام علي بن أبي طالب (ع) أن نزل هذه الأرض أثناء سفره إلى حرب صفين وشوهد فيها متأمِّلاً فيها بها من أطلال وآثار فسُئل في ذلك فقال إنّ لهذه الأرض شأناً عظيماً (فها هنا محطّ ركابهم وها هنا مهراق دمائهم، فسُئل عن ذلك فقال: ثِقْلٌ لآل محمد ينزلون ها هنا). هذا ويذكر أنّ كربلاء قد نُعتت منذ الصدر الأول في كل من التاريخ القديم والحديث باسماء عديدة مختلفة ورد منها في الحديث اسم كربلاء والغاضرية ونينوى، وورد منها في الرواية والتاريخ اسم النواويس والطفّ وطفّ الفرات ومشهد الحسين والحائر، إلى غير ذلك من الأسماء المختلفة الكثيرة.   شهرتها تنبع من استشهاد الإمام الحسين (ع) ودفنه فيها: ويبدو أنّ منطقة كربلاء لم تكن آهلة بالسكان، كما كانت تفتقر إلى العمران الكبير. ومن المُرجّح أنّ هذه المنطقة الغنية بالمياه وبتربتها الخصبة، كانت تنتشر فيها القرى والقبائل التي استقرّت فيها، أو بالقرب منها. وبعد العاشر من محرم سنة 61هـ (680م)، أي بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) ودفنه في مكانه الحالي، أخذ الناس يتوافدون لزيارة القبر الشريف، كما أخذ الكثيرون يستوطنون تلك البقعة المقدّسة أو يوصون بدفنهم هناك. وعلى الرغم من مقاومة ومعارضة الحكّام العباسيين مثل الرشيد والمتوكل للعلويين فانّ كربلاء تطورت وتوسعت بمرور الزمن.   موقعة الطفّ: وكان الحسين (ع) قد سار من المدينة إلى العراق في سبعين من أصحابه الخُلّص، فضلاً عن أهل بيته وذويه الأقربين، حتى إذا وصل كربلاء – وكان يقصد الكوفة – أرسل ابنُ زياد والي يزيد على الكوفة لقتاله جيشاً كبيراً. وما لبثت أن وقعت معركة طاحنة غير متكافئة – عددياً – استشهد فيها الإمام الحسين بعد أن سبقه فيها إلى الشهادة كلّ أصحابه وعدد غير قليل من أهل بيته ومنهم أخوه أبوالفضل العباس وعبدالله وجعفر وعثمان وعبيد الله وأبوبكر أبناء الإِمام علي (ع)، وعلي وعبدالله ابنا الحسين بن علي (ع)، ومحمد وعون ابنا عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وعبدالله وجعفر وعبد الرحمن بنو عقيل بن أبي طالب. ولا يعرف التاريخ معركة مماثلة نُحِر فيها كل المقاتلين من الرجال ثم لم يكتف الجيش المهاجم بذلك بل تعدّاه إلى قتل الصِّبْيَة – كالقاسم مثلاً – والأطفال – كعبد الله الرضيع – سلام الله عليهم أجمعين دون أن يكون لهم أي جريرة سوى أنهم يمتّون بصلة قربى ورحم إلى سبط رسول الله (ص). ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. فقد سُبيت كل النساء من حرم رسول الله (ص) وسيقت حاسرات في موكب إلى الشام. وكان بين السبايا زينب بنت الإِمام علي (ع) وسكينة ابنة الإِمام الحسين وأمها – أي زوجة الحسين (ع) وغير هن.   فضل زيارة الإِمام الحسين: لزيارة الحسين فضل كبير وثواب عظيم، فهو وأخوه الإِمام الحسن سيدا شباب أهل الجنة.. وفي حقّه يقول جدّه رسول الله (ص): "حسين مني وأنا من حسين"... و"اللهم اني أحبّه فأحبَّه".. وقد ورد في بعض الروايات انّ زيارة مرقده المقدّس تزيل الغمّ وتهوّن سكرات الموت وتذهب بِهَوْلِ القبر. وأنّ ما يُصرف في زيارته (ع) يكتب بكل درهم منه ألف درهم بل عشرة آلاف درهم. ولذلك فاننا نشاهد على مدار السنة أعداداً كبيرة من المؤمنين، يتوافدون من شتى البلاد والأمصار، للتشرّف بزيارته.. وخصوصاً في موسم عاشوراء في محرم، والأربعين (في العشرين من صفر).. ومن العادات التي ألِفَها أهل العراق، زيارته سنوياً سيراً على الأقدام من النجف إلى كربلاء، كتأكيد على ولائهم وتمسّكهم بالقيم التي استشهد من أجلها.   مقام الإِمام الحسين وضريحه: يشير ابن قولويه إلى أنّ الذين دّفنوا الحسين (ع) أقاموا لقبره رسماً ونصبوا له علامة وبناءً لا يدرس أثره. وفي عهد بني أمية وُضعت على قبره المسالح لكي لا يؤمَّ أحدٌ من الزائرين مثواه. وكان القبر مطوّقاً بمخافر تتولى المهمة السالفة الذكر. ويروى عن الصحابي الضرير الجليل جابر بن عبدالله الانصاري أنه قال لقومه عندما زار قبر الحسين (ع) في 20 صفر عام 62هـ مع جماعة من المسلمين من أهل المدينة واجتمع في السنة ذاتها بالإمام السجاد (ع): "ألِمسوني القبر". وقد ابتدأ عمران القبر في أيام أبي العباس السفاح، وفي عهد هارون الرشيد ضُيِّقَ الخناق على زائري القبر وقطعت السدرة التي كان يستدلّ بها الزائرون على موقع القبر. وفي عهد المأمون أُعيد البناء على القبر وبقي حتى سنة 236هـ حيث أمر المتوكل في زمن خلافته (236هـ- 247هـ) بتهديم قبر الحسين وحرث أرضه، وأسال الماء عليه، فحار الماء حول القبر الشريف ومنع الناس من زيارة القبر. وعندما خلفه ابنه عام 247هـ سمح هذا بزيارة مرقد الحسين ووضع شارة يستدلّ بها على موضع القبر. ومنذ ذلك اليوم أخذ عمران القبر يتقدم تدريجياً، وانطلق العلويون يفدون إلى القبر والسكنى بجواره. وفي عام 273هـ قام محمد بن زيد القائم بطبرستان بتجديد البناء الذي شيّده المنتصر. ومنذ ذلك الحين إتّسع عمران كربلاء. وكان "عضد الدولة البويهي" أوّل من عظّم شعائر الحائر وشيَّد بناءً على قبر الحسين (ع)، وذلك في سنة 371هـ. ويذكر ابن الأثير في تاريخه أنّ عضد الدولة بالغ في تشييد الابنية حول المشهد الشريف في الحائر، فجدّد تعمير القبة وشيّد الأروقة من حوله وبالغ في تزيينهما وتزيين الضريح بالساج والديباج وعمّر البيوت والأسواق من حول الحائر وعصم مدينة كربلاء بالأسوار العالية فجعلها كحصن منيع. واقتفى أثره عمران بن شاهين من أمراء آل دبيس في الحلّة، فبنى المسجد والرواق الخلفي الملحق بالروضة الحسينية المعروف باسمه. وفي عام 407هـ أصاب الحريق حرم الحسين حيث كان مزيّناً بخشب الصاج، وذلك إثْرَ سقوط شمعتين كبيرتين في حرم الحسين وجُدِّدَ البناء على عهد البويهيين غِبّ ذلك الحريق، حيث قام الحسن بن الفضل وزير الدولة البويهي بإعادة البناء نفسه مع تشييد السور. وفي عام 497هـ زار ملك شاه كربلاء وأمر بترميم سور المشهد الحسيني. أما بناء القبر الموجود فقد جدّده السلطان أويس الجلائري. وفي 766 أو 767هـ تمّ تجديد القبر من قِبَل نجله السلطان أحمد الجلائري، حيث شُيِّدَ البهو الأمامي للروضة المعروف بايوان الذهب. وفي الواجهة الأمامية للروضة رواق حبيب بن مظاهر الأسدي. وفي سنة 914هـ أمر الشاه إسماعيل الصفوي بتذهيب حواشي الضريح الحسيني، وأهدى اثني عشر قنديلاً من الذهب، وفي سنة 932هـ أهدى الشاه الصفوي شبكة فضية لتوضع على القبر. وقد بذل الشاه طهماسب الصفوي الكثير من الأموال لأجل تعمير الروضة الحسينية خلال الأعوام 930-984هـ. ووسّع المسجد الكبير الملحق بالحائر الحسيني. وفي عام 1048هـ شيّد السلطان مراد الرابع العثماني القبّة المنوّرة وجصّص خارجها. وفي سنة 1227هـ (1812م) أمر السلطان فتح على القاجاري بتجديد بناء المشهد وتبديل صفائح الذهب وأهدى شبكة من الفضة وُضعت على القبر الشريف. كما أمر سنة 1250هـ ببناء قبتي مرقد الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس بن عليّ (ع). والقبة الحسينية شاهقة يبلغ ارتفاعها 27 متراً وهي مغشّاة من أسفلها إلى أعلاها بالذهب الابريز ويحيط بها في الأسفل 12 شباكاً بين الواحد والآخر متر واحد و25 سم من الداخل، ومتر واحد و30 سم من الخارج. وفي سنة 1287هـ (1870م) أمر ناصر الدين الشاه بتجديد المشهد وتبديل صفائح الذهب وتذهيب القبة الحسينية، كما استملك دوراً أضافها إلى الصحن من الجهة الغربية. ويمتاز المشهد الحسيني الطاهر بسعة صحنه وكثرة أواونيه الجميلة كما ذكرنا. ويبلغ طول الصحن 95 متراً وعرضه 75 متراً وله عشرة أبواب. أما عدد الأواوين فيصل إلى 65 إيواناً في كل منها حُجرة قد غشّيت جدرانها من الداخل والخارج بالفسيفساء. وقد أعِدَّت هذه الحُجُرات ليتلقى بها طلاب العلم دروسهم. هذا، ولبناء الروضة الحسينية، الذي يتوسط صحن المشهد الطاهر عدة أبواب. من أشهرها: باب القبلة، ويُعرف بباب الذهب ذلك لأنّ أحجار إيوانه مكسوّة بالذهب والفضة الناصعة. والداخل من باب إيوان الذهب – باب القبلة – ينتهي به المطاف إلى رواق يحيط بالحرم المطهر من الشرق والجنوب ويجد عن يمينه قبر الشهيد حبيب بن مظاهر الأسدي الذي وقف إلى جانب الإمام الحسين في موقعة الطفّ ونال الشهادة. وللروضة الحسينية خزانة تحوي الذخائر الثمينة من التحف ونوادر الهدايا من المجوهرات واللآلىء، وتقع في الواجهة الشمالية من الروضة الحسينية، وإلى غربي الخزانة تقوم مكتبة الروضة الحسينية.   مرقد العباس (ع):  فإذا ما ودّع الزائرُ الإمام الحسين (ع) لا يسعه إلا أن يتشرف بزيارة أخيه وقائد جنده أبي الفضل العباس.. ومنائر المقام تنتصب شاهداً على ما يستحقه صاحبه من تكريم.. وإن كانت كنوز الأرض المادية أعجز من أن تعبّر عن المكانة المعنوية الرفيعة لأهل بيت النبوة. لقد كان مرقد أبي الفضل العباس يلقى من الرعاية والعناية ما يلقاه مرقد الإمام الحسين (ع). ففي سنة 1032هـ (1622م) أمر الشاه طهماسب بتزيين قبة مرقد العباس (ع) بالكاشاني وبنى شباكاً على الصندوق ونظّم الرواق والصحن، كما بنى البهو أمام الباب الأوّل. وفي سنة 1155هـ (1742م) أهدى نادر شاه إلى الحرم الشريف تحفاً نادرة. وفي سنة 1236هـ (1820م) أمر السلطان محمد شاه بن عباس مرزا بن فتح علي بصنع شباك من الفضة لضريح العباس (ع). وتشمل كربلاء إلى جانب مدفن أبي عبدالله الحسين ومدفن أخيه العباس بن علي بن أبي طالب مدافن جميع الشهداء الذين استشهدوا في تلك الواقعة التاريخية، وكلّهم مدفونون فيما يلي رِجْلَيْ الحسين في مشهده، حفر لهم بنو أسد حفيرة وقد وجدوهم جثثاً في العراء، وألقوهم فيها جميعاً وسوّوا عليهم التراب إلا العباس (ع) فقد دفن في موضع قتله على المسناة بطريق الغاضرية، وقبره ظاهر وليس لقبور إخوته وأهله الذين ذكرناهم آنفاً أثر وإنما يزورهم الزائر من عند قبر الحسين (ع). وحول الحضرة المقدسة رواق جميل تزيّنه نقوش بديعة من المرايا وله سبعة أبواب تؤدي إلى الصحن. والرواق هذا له ثمانية أبواب تؤدي إلى الحضرة المطهّرة.   الحركة العلمية في كربلاء: ونظراً لوجود المقامات الشريفة في كربلاء فقد قامت فيها حركة علمية ناشطة. ويرجع تأسيس المعاهد العلمية والمدارس الدينية في هذه المدينة المقدّسة إلى القرن السادس الهجري. وكانت هذه المعاهد تدرّس طلابها مواضيع علمية وفقهية شتّى، منها النحو والصرف والمنطق والبيان والمعاني والفلسفة والحكمة واللغة وأصول الفقه ثمّ الفقه – وهو الهدف الأساسي. أما أشهر المعاهد العلمية الدينية الحديثة فهي: مدرسة السردار حسن خان التي تم تأسيسها عام 1180هـ، ومدرسة المجاهد ومدرسة الصدر الأعظم النوري ومدرسة الزينبية ومدرسة الهندية التي كانت تضم مكتبة باسم "المكتبة الجعفرية" بالإضافة إلى مكتب رابطة النشر الإسلامي التي كانت تتولى طبع الكتب ونشرها مجّاناً لكل الراغبين في البلاد الإسلامية، ثمّ مدرسة الترك التي تولّت إصدار سلسلة (منابع الثقافة الإسلامية)، ومدرسة الحاج ميرزا كريم الشيرازي، ومدرسة البقعة، ومدرسة السليمية، ومدرسة المهدية التي شيّدها الشيخ مهدي كاشف الغطاء، ومدرسة الهندية الصغرى. وقد ازدهرت الحركة العلمية في كربلاء أواخر القرن الثالث ومطلع القرن الرابع الهجري. إذ كانت هذه المدينة المقدّسة آنذاك مزدحمة بالزائرين الذين يفدون إليها من كل حدب وصوب لزيارة مرقد الإمام الحسين (ع). وكانت أسواق كربلاء عامرة تسودها الطمأنينة فتؤمّها القوافل، ومنهم من يؤثر السكنى فيها، وقد زارها كبار رجال الحديث والسيرة من رجال الإمامية وأخذوا في تدريس مسائل الدين والفقه لسكانها المجاورين والزائرين، فاتّسعت الحركة العلمية فيها وصار الطلبة يقصدونها من مختلف الأمصار.   مشاهدات ابن بطوطة: ومن بين المشاهير الذين زاروا المدينة في مطلع القرن الثامن الهجري الرحّالة الشهير ابن بطوطة (عام 726هـ) فوصفها بقوله: "وكربلاء مدينة صغيرة تحفّها حدائق النخل ويسقيها ماء الفرات والروضة المقدّسة داخلها وعليها مدرسة عظيمة وزاوية كريمة (فيها الطعام للوارد والصادر)....".   علماؤها: وكان من بين العلماء الفطاحل الذين أقاموا بالمدينة وتخرّجوا في معاهدها الدينية ونبغوا فيها السيد محمد صالح، (الفقيه المحقِّق المعروف بالداماد) والشيخ محمد تقي الشيرازي والسيد إسماعيل الصدر المرجع الديني المشهور، وقد توفي سنة 1338هـ.   دور سياسي بارز: لعبت كربلاء بفضل ثقلها العلمي وبفضل وجود الحوزة العلمية فيها دوراً سياسياً بارزاً على مرّ الأيام والعصور. ومن أشهر ما يذكر في هذا المجال إسهامها في ثورة العشرين ضد الاستعمار الانكليزي (سنة 1920م). فقد كانت مقرَّ قائد الثورة المرجع الديني الميرزا محمد تقي الشيرازي.. كما عقدت فيها العديد من المؤتمرات الشعبية للتباحث في شؤون العراق المصيرية. وقد تعرّضت المدينة المقدّسة للكثير من الغارات والحملات نظراً لروح الإباء ورفض الظلم الذي امتاز بها أهلها وعلماؤها.. ومن أهمّ ذلك مذبحة نجيب باشا الوالي العثماني سنة 1258هـ التي أْرِّخَتْ باسم (غدير دم)، والتي ذهب ضحيتها أكثر من ثمانية عشر ألف قتيل.. وقد استولى نجيب باشا هذا على المدينة بالخدعة بعد أن استعصت عليه بالقتال نظراً لمناعة سورها.   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد الأوّل لسنة 1988م

ارسال التعليق

Top