• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإعلام الدولي.. وأخلاقيات الصحافة

د. فاروق خالد

الإعلام الدولي.. وأخلاقيات الصحافة
إنّ الصحافة تمثِّل عصب الإعلام الرئيسي، حيث أنّ الصحافة لا تنحصر في الصحف فقط، فهناك الصحافة المطبوعة مثل الجرائد والمجلات، وهناك الصحافة المسموعة مثل الإذاعة، وهناك الصحافة المرئية والمقروءة مثل الإنترنت. وهناك الصحافة المسموعة والمرئية مثل التلفزيون والفضائيات. وكل هذه الوسائل الإعلامية بإعتبارها وسائل إتصال جماهيرية لها تأثيرها المباشر على الناس وسلوكهم، وتكوين رأي عام لديهم. فإنّ مهنة الصحافة والصحافة العالمية والصحفي الدولي يجب أن تخضع لأخلاقيات مهنة الصحافة حتى يكون الإعلام الدولي الصادر من أي جهة كانت يتمتع بمصداقية وثقة، وبالتالي الإقبال على هذه الجهة أو تلك، وهذا بالطبع سوف يعود على تلك الجهة بالنفع خصوصاً إذا كانت تستمد من الإعلان والدعاية مورد مالي لها. فإذن لابدّ من الممارسة الأخلاقية في مهنة الصحافة، وهذه الممارسة لها قواعدها ومبادئها وأُسسها وأُصولها. وقد كان لقناة (CNN) الميزة في حرب الخليج عندما اعتمد عليها كلا الطرفين المتحاربين كوسيلة وحيدة منفردة في تغطية أخبار حرب الخليج بين العراق وأمريكا وحلفائها. كما أنّ نجاح رويترز كان غالباً ما يعود إلى سرعتها مع الدقّة في نقل الخبر. فالصحافة تتطلب من الصحفيين الذين يمارسون هذه المهنة إلى جانب الإجتهاد والجد والمعرفة والخبرة، أن يحاولوا أيضاً دائماً التوصّل إلى مستوى عالي من الأمانة والمصداقية والشرف بما يتفق مع إلتزام المهنة. ولقد وضعت دول عديدة في العالم قواعد لأخلاقيات مهنة الصحافة لديها، وعملت مواثيق شرف ومبادئ أمانة يجب أن يتقيّد بها الصحفيين. وفي معظم دول العالم، نجد إرشادات تنظِّم قواعد أخلاقيات مهنة الصحافة. ولنفس الغرض، قامت جمعية رؤساء تحرير الصحف الأمريكية بنشر بيان حول مبادئ أخلاقيات الصحافة في أمريكا. وكذلك إعتبار هذا البيان نموذج أو معيار يشجِّع الوصول إلى مستوى من الأداء الأخلاقي والمهني. الصحافة قديمة قدم التاريخ.. ففي الصين قديماً كان هناك صحف ومجلات، وكذلك في اليونان. وعندما اتّسعت الإمبراطورية الرومانية، نشأت النشرة العامة على الورق كأوّل طريقة تمثِّل الصحف الرسمية حالياً. وأصبحت النشرة العامة تنشر أخبار مجالس الشيوخ، وظهرت النشرة اليومية، غير أنّ الصحف هذه اختفت عندما سقطت الإمبراطورية الرومانية. ثمّ ظهرت الصحافة المطبوعة في نهاية العصور الوسطى في العالم الغربي. ومع تطوّر الصحافة في أوروبا، أخذت كل من الصين واليابان تطوِّران صحافتهما. ثمّ حدث تطوّر هائل للصحافة في بريطانيا وألمانيا مع تطوّر الصناعة. كانت الصحف في أواخر القرن الثامن عشر تعتمد على تقارير الكتب المنشورة. وظهرت أخلاقيات في الصحافة، وكانت الرقابة مطبَّقة في القارة الأوروبية بسبب أوضاع الصحافة الإنجليزية خلال تكونها، حيث ساد عصر من الإستبداد. وفي عام 1715، صدر مرسوم روماني يأمر جميع مَنْ لهم بالصحافة أن يتقيّدوا بالقوانين المتعلقة بالتشهير والقذف وإساءة السمعة، ولكن لم ينجح تطبيق المرسوم. وبعد 30 سنة، أوضح الإمبراطور بأنّ القيود التي فرضت على الصحف ستطبَّق على الكتب. بينما في المستعمرات الأمريكية، كان روّاد الصحافة يعتمدون لغة الإثارة والعاطفة والمبالغة. وبعد سنوات إعلان الإستقلال عن بريطانيا، فإنّ الدعوة إلى حرِّيّة الصحافة اكتسحت أوروبا مقرونة بالدعوة إلى التحرُّر[1]. صدرت جريدة مطبوعة بإسم (لندن جازيت)، وكان لها تأثيرها في الولايات المتحدة. وتقدّمت الصحافة الأمريكية بعد ذلك، وراعى الصحفيون هناك أخلاقيات المهنة. كانت هناك حالة من الحرِّيّة الصحفيّة في أمريكا، ولكن حصل تجاوزات في حدود الحرِّيّة. وخلال الحرب الأهلية، وقعت الصحافة تحت مضايقات من جهات رسمية. وخلال الفترة مابين 1833 – 1860م، دافعت الصحافة عن الفقراء والعُمّال، وكانت صحيفة (وكيلي تربيون) ملتزمة بالمقارنة مع الصحف الأخرى. وفي 18 أيلول 1851م، صدرت جريدة (نيويورك تايمز)، وكانت متمسكة بأخلاق المهنة. ثمّ توالى ظهور الصحف في أمريكا حتى بلغ عددها مابين أعوام 1870 – 1890م حوالي 12 صحيفة. وكانت الصحف المحايدة تمثِّل حوالي ثلث هذه الصحف. ولجأت بعض الصحف الأمريكية إلى بث أخبار وقصص إخبارية كاذبة. ومع ظهور الصحفي (بوليتزر)، تغيّر الحال، حيث اشترى هذا الصحفي عدداً من الصحف الأمريكية من بينها صحيفة (نيويورك وورلد). وكان شعار هذا الصحفي مراعاة السهولة والتحرير الجيِّد وإبراز الحقيقة والتركيز على الدقّة. وفي الفترة مابين 1892 – 1914م، كانت الصحافة الإنجليزية تتميّز عن الصحافة الأمريكية. فبينما كان هناك نوعاً من الإلتزام في الصحافة الأمريكية، كانت الصحافة الإنجليزية تجري وراء أغراضها الخاصة على حساب المصلحة العامة. وفي الحرب العالمية الأُولى، ظهر المحللون السياسيون، وكانت الصحف تنشر وجهات نظرهم. وبعد دخول أمريكا الحرب بأيام قليلة، فرضت الرقابة على الصحف. وفي 6/5/1945، تعهّد المراسلون الحربيون بعد نشر نبأ الهدنة إلا بعد صدور بلاغ رسمي عن الجهات الرسمية. ولكن مراسل وكالة الاسوشيتدبرس (إدوارد كيندي) بعث بالخبر إلى وكالته، حيث نشرت الوكالة الخبر قبل صدوره رسمياً، مما جعلها تتفوّق على الوكالات الأخرى آنذاك. وفي نهاية الحرب العالمية الأولى، اتّفق الصحفيون على إبراز مهنة الصحافة كمهنة ذات رسالة. وكوّنوا الجمعية الأمريكية لمحرري الصحف عام 1922م. ووضعت هذه الجمعية قوانين ومواثيق يلتزم بها الصحفيون كأخلاق للمهنة. وفي فترة مابين الحرب العالمية الأُولى والحرب العالمية الثانية، أخذت الصحف الكبرى في فرنسا وبريطانيا وأمريكا ودول أوروبا بالمنافسة فيما بينها. وانضمّ بعض الصحفيين إلى جمعيات نقابية لتنظيم عمل الصحافة والصحافيين. وفي عام 1918م، تأسَّست نقابة الصحفيين الفرنسية، وبلغ أعضاؤها عام 1934م حوالي 1800 صحفي. إنّ الملاحظ على تاريخ تطوّر الصحافة العالمية يُبيِّن التشابه في أسلوب العمل، ولذلك أخذت تظهر في الأُفق فكرة خلق هيئة دولية للصحافة العالمية. في عام 1926م، تأسَّس الإتحاد الدولي للصحفيين، وكان يضم 25 إتحاداً، وأخذ ينظِّم مهنة الصحافة، وشرف المهنة. وفي عام 1931م، أنشئت محكمة الشرف الدولية للصحافة في مدينة لاهاي مؤلفة من هيئة من الصحفيين المحترفين، وتتابعت الإجتماعات الدولية لوضع قواعد وأُسس شرف المهنة. وقد ثبتت جمعية الصحفيين المحترفين عام 1926م دستوراً أخلاقياً، وتمَّ تحديثه عام 1973م كدستور أخلاقي ينظِّم المهنة الصحفيّة. وفي عام 1984م، صدرت دراسة بعنوان (تعارض المصالح) لشارل بيلي محرِّر مينوبولس تربيون، يحدِّد فيها قواعد أخلاقيات الصحافة. لقد نظّمت كثير من دول العالم ومؤسساتها الإعلامية والنقابية، دساتير وقوانين ومواثيق تنظِّم مهنة الصحافة وأخلاقيات المهنة. وقد ركّزت معظم المواثيق على ضرورة المسؤولية والحرِّيّة والدقّة في نقل الأخبار، والأمانة والمصداقية وتحمّل المسؤولية، مما يعكس مصداقية العمل الصحافي. وفي التطبيق، اختلفت دولاً عن غيرها، وصحف عن غيرها، في التقيد بدقّة في المواثيق المعمول بها في تلك الدول، فخرج كثير من الصحفيين عن معايير النزاهة والمصداقية، وانحازوا لقضايا خاصة بهم أو قضايا وطنية لهم رأي بها. الصحافة لها دور في صناعة الرأي العام، والتأثُّر في سلوك الجماهير، كما أنّ لها تأثير على سلوك الحكومات وسمعة الدول التي تنتمي لها الصحافة. والأمثلة على تجاوز الصحفيين إلى أخلاقيات مهنة الصحافة كثيرة عبر تاريخ الصحافة. ففي مطلع الثمانينات من القرن العشرين، كان الصحفيون الإيطاليون يؤمنون بنظرية مفادها أنّ نقد الصحافة لحكومة منتخبة في البلاد يجب أن يكون هذا النقد مقيداً في الدول الديمقراطية المهددة. كذلك كان الصحافي الفرنسي (هوبرت بواميري) محرِّر صحيفة (لوموند)[2] الفرنسية، كان يرى خلال الأزمة الحرجة التي حدثت في فرنسا عام 1958م بأنّ الدكتاتورية، كما كان حال الرئيس شارل ديجول، ضرورية لحماية نوع من الديمقراطية. كذلك عندما عيّنت بعض الصحف اليابانية مراسلين لها في بكين بشرط عدم نشر أخبار ضارّة بالصين، كان هذا الشرط بمثابة مخالفة لمبادئ الديمقراطية اليابانية. أمّا الدول النامية، فرغم وجود دساتير ومواثيق لأخلاقيات الصحافة فيها ومطالبة هذه الدول للعالم المتقدِّم بالمصداقية تجاه قضايا العالم الثالث، إلا أنّ صحافة هذه الدول تنحاز إلى وجهة نظر حكومات تلك الدول، وتضر بمصداقية الصحافة وأخلاقيات المهنة. فكثير من صحافة الدول النامية ما تتأثّر بسياسة الدولة التي تتبع لها، فتحجب ما تشاء من الحقائق عن الجمهور، وتنشر أخبار بطريقة مفبركة أو يتم التعليق عليها بطريقة منافية للحقيقة الدولية ولمبادئ أخلاقيات الصحافة. كما أنّ هناك تناقض بين مواقف حكومات بعض الدول الديمقراطية وصحافتها التي يشار إليها بالسلطة الرابعة. فقد تحسَّست حكومة بريطانيا من أخبار نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية بعد الإحتلال الأمريكي - البريطاني للعراق عام 2003م، حيث انتقدت الإذاعة موقف توني بلير من الحرب على العراق، وعدم مصداقيته بوجود أسلحة دمار شامل في العراق. وقارنت الإذاعة بين عدم مصداقية سلاح دمار شامل في العراق، ووجود ترسانة نووية في إسرائيل. كذلك وجَّهت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إنتقادات هائلة ومجحفة بحق بعض القنوات الفضائية، بسبب نشرها لصور القتلى والأسرى الأمريكيين، لأنّ الحكومة الأمريكية حاولت إخفاء هذه الحقيقة، وفضائع أمريكا ضدّ المدنيين في العراق. وأحياناً ما تخالف الصحافة أخلاقيات المهنة عندما تقوم بهجوم إعلامي على دولة أو دول مخالفة لسياسات الدولة التي تتبع لها. فقد شنّت وسائل إعلام أمريكية حملات على حكومة فرنسا بسبب عدم مشاركتها في الحرب على العراق، مما دفع فرنسا إلى تحريك دعاوى ضد تلك الوسائل، وبالتالي تدهورت العلاقات بين فرنسا وأمريكا بسبب معارضة فرنسا، وكذلك معارضة كل من روسيا وألمانيا الحرب على العراق. وحيث أنّ مواثيق الشرف للصحافة العالمية تنص على منع التنصُّت على الصحفيين، إلا أنّ الإتحاد الدولي للصحفيين قد احتجَّ عام 2002م على شرطة الدنمارك لتنصّتها على مكالمة هاتفية بين صحفي ورئيس تحرير حول إشاعات بوجود قائمة بأسماء يهود دنماركيين، حيث يتم تمرير هذه القائمة بين قوائم الإسلاميين الأُصوليين. إذن، هناك خروج على مواثيق الصحافة وأخلاقيات المهنة، وتجاوزات قد تحدث من الصحفيين أنفسهم بسبب إنحيازهم لقضايا قومية تهمّهم، أو لسبب وقوعهم تحت تأثير دولهم نحو قضايا عالمية. وسيظل هذا التجاوز ما لم تحسم الدول ويحسم الصحفيون وإتحاداتهم ونقاباتهم في العالم. هذه الظاهرة بجميع الدول تقريباً، وضعت مواثيق ودساتير لأخلاقيات المهنة.     الهوامش:
[1] - أخلاقيات الصحافة، طارق موسى الخوري، وكالة الأنباء الأردنية، ص20.

[2] - المصدر نفسه، ص43.

المصدر: كتاب (الإعلام الدولي.. والعولمة الجديدة)

ارسال التعليق

Top