"أنا مصاب بمرض عضال وأريدك أن تساعدني على شفاءه". هكذا بدأ الكلام أحد المرضى بعد أن استقر في مكانه في العيادة. كان شاباً حسن المظهر، متوسط الطول، تبدو عليه علامات الضيق. رفعت حاجبي بانتظار ما يقول وكأني أحثه على مواصلة ما بدأ به.
"أنا يا دكتور مبتلى بمرض الحسد، فما إن أنظر إلى من يمتلك ما لا أمتلكه، أو من هو في مرتبة وظيفية أفضل من مرتبتي حتى يشتعل الغيظ في صدري وينطلق الشرر من عيني!! متمنياً أن تنزل قاصمة من السماء تجعلني أنا ومن يملك ذلك الشيء سواسية.. أعلم أنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.. لكني عجزت عن تغيير مشاعري المسيطرة هذه.. فماذا أفعل؟؟".
والواقع أنّ هذا الشخص ليس الوحيد الذي يعاني من هذه المشكلة، لكنه بلا شك امتلك بصيرة مدهشة حول مشكلته، بينما يفتقدها معظم الحسّاد. ولذلك بدأت بتهنئته بذلك لأنّ أوّل خطوات التغلب على أي مشكلة هو تحديدها والاعتراف بها.
والسؤال الآن: لماذا نحسد بعضنا البعض؟ لماذا نشعر بعدم الراحة عندما يحقق أحد زملائنا أو أصدقائنا أي نجاح أو تقدم؟؟ .. صحيح أننا نستطيع إخفاء هذا الشعور بنجاح في معظم الأحيان، ونستبدله بابتسامة عريضة وتهنئة مزيفة: (مبروك.. فرحت لك من كلِّ قلبي!!).. لكن دعونا نغوص في الأعماق بحثاً عن منبع هذا الشعور ومغزاه.
الفكرة التي توقظ الحسد فينا هي الشعور بالندرة. الشعور بأنّ موارد الأرض وأرزاق السماء شحيحة وسوف لن يمتلكها سوى شخص واحد أو عدد قليل من الأفراد، بينما يقف البقية عاجزين نادبين حظهم. هذه فكرة خطيرة ومغلوطة، والحقيقة أننا نعيش في عالم من الوفرة يمكن أن يكفي الجميع ويفيض خيراً وإنجازاً ونجاحاً. عالم يحوي عدداً لا نهائياً من الفرص والإمكانات التي تبحث عمن يكتشفها. يجب أن نؤسس اعتقاداً راسخاً بأنّ كلَّ شيء متوافر بشكل كبير وأنّ من حقنا أن نحصل على ما نستطيع، وعلى ما عقدنا العزم على الحصول عليه.
وأغلب الناس مطبوعون على (عقلية الشح)، وأولهم كان "قابيل" ابن أب البشر آدم (ع)، الذي ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يقبل حكم الله باختيار قربان أخيه على قربانه. فما كان منه إلا أن قتل أخيه وباء بإثم كلّ قاتل إلى يوم القيامة لأنّه سنّ القتل، كما ورد في الحديث الشريف.
ولكي تتخلى عن عقلية الندرة، لابدّ أن تخطو الخطوة الأولى. ألا وهي الشعور بالامتنان والشكر لله لكلِّ ما تملكه. قم بتقدير المعجزة التي هي أنت، خلقك في أبهى حلة، بقائك على قيد الحياة، امتلاكك لعينيك وأذنيك وقدميك. وتتوسع قائمة النعم والمحمودات. تدرّب على عملية تقديم الشكر وكأنّ هذه الأشياء ملك مؤقت لك أُعطيتها لفترة ما قبل أن تعيدها ثانية.
الخطوة التالية قائمة على فهمنا أنّه ليس بالضرورة أن يكون هناك رابح واحد وآخر خاسر.. نعم هناك فرصة لأن نربح أنا وأنت في نفس الوقت. هناك فرصة لكي نكسب جميعاً كلّ على طريقته. وهذا يتأصل فينا عندما ننظر إلى الحياة على أنّها تعاون وليست حلبة سباق حيث يكون الفوز يعني هزيمة الطرف الآخر.
وللأسف فإننا نساهم – دون وعي – في تعليم أولادنا الشعور بالحسد عندما نقارن بينهم: "انظر إلى أخيك كيف يخدم والدته أكثر منك"، أو حينما نمنح حبنا وإصغائنا لأحد الأطفال دون الآخرين. ولو نظرت إلى نظام التعليم عندنا لرأيت كيف أنّ المنافسة هي قلب العملية التعليمية دون اعتبار للجهد الذي يبذله هذا الطالب أو ذاك.
الخطوة الأكثر أهمية للقضاء على الحسد هي أن نعيد توجيه تركيزنا إلى ما نملك بدل أن ننظر إلى ما يملكه غيرنا ونفتقر إليه. وتخيل لو أنك مدين بعشرة آلاف ريال ولا تمتلك سوى ألف ريال. لو صرفت انتباهك لما تراكم عليك من ديون، وكيف ستسددها، وما عواقب التأخير، وغير ذلك فسوف تشغل وقتك وعقلك بما هو خارج عن إرادتك. بينما لو وجهت تركيزك نحو الألف ريال التي في يدك، كيف يمكن استغلالها وتنميتها فسوف تجد أنّ هناك العديد من الخطوات العملية التي يمكن أن تقوم بها الآن لحل مشكلتك والتغلب عليها.
دعونا الآن ننظر كيف أسس الإسلام مجموعة من التعاليم والمبادئ لمحاربة الحسد والشعور بالضغينة بين أفراد المجتمع الواحد:
أوّلاً: معظم العبادات في الإسلام هي عبادات جماعية لا تتم إلا بتعاون مجموع المسلمين. كما في الصلاة المفروضة وصلاة العيد والاستقساء وفريضة الحج والجهاد وغيرها. فوجودي أنا وأنت أساسي لإتمام هذه الفرائض الهامة.
ثانياً: يقيّم الإسلام جميع المسلمين على أساس المساواة الكاملة. ومن ثمّ يجعل التمايز بينهم في العبادة والتقوى والتي هي في مقدور كلّ مسلم. ولم يجعل تفاوت مقدارهم بناءاً على ما يملكون. إذ يمكن أن تكون من أقرب الناس إلى الله وأعلاهم مكانة – وهذا حلم كلّ مسلم – دون أن تكون غنياً أو صاحب منصب وشأن. ألا تجد ذلك مُعيناً كبيراً للتخلص من الحسد؟.
ثالثاً: حث الشارع على كلِّ ما يزيد من الود بين الناس ويقلل الضغينة بينهم. فجعل الأجر الجزيل للصدقات ومساعدة الآخرين بكلِّ أشكال المساعدة ومنها الوقوف مع الأخرق الذي يصعب عليه إكمال عمله ومساعدته لإتمامه، مع أنّ العمل سيظهر باسمه هو، ولكنه تدريب رائع على التخلص من الضغينة التي قد تنتابنا أحياناً. وانظر بشكل خاص إلى الأجر الجزيل للدعاء لأخ أو صديق في ظهر الغيب حيث يُكافأ الداعي بالاستجابة لدعائه ومنحه عطاءً مثلما طلب لأخيه: (دعوة المسلم لأخيه في ظهر الغيب مستجابة) رواه مسلم، تمثل قمة التجرد عن المنافسة والحسد.
رابعاً: وضع الإسلام مبدأ المحاسبة على قدر الاستطاعة. أي أنّ كلَّ فرد سيحاسب على قدر ما أعطاه الله من إمكانات مادية وعقلية. وبذلك منع الحسد بين مختلف طبقات المجتمع. فكونك متفوق عقلياً سيحتم عليك مسؤوليات أكثر ومحاسبة أدق مقارنةً بمن يملك قدرات محدودة.
لقد ضرب أصحاب الرسول (ص) أجمل الأمثلة في الإيثار ونبذ الحسد والضغينة. وتأمل كيف استطاع عبدالرحمن بن عوف (رض) ذلك القرشي الذي وصل المدينة مهاجراً لا يعرف فيها أحد، وخلال بضع سنوات أصبح من أثرياء المسلمين. ولو كان في مجتمع مريض لحاول أهل المدينة الأصليين منع تجارته من النمو والإزدهار.
هذه بعض الخطوط الرئيسية لكلِّ من يسعى للتخلص من هذا الشعور الذي يبغضه الله ورسوله. وتذكر أنّ التغيير لا يحدث بين يوم وليلة وإنما يحتاج إلى جهد ووقت. والله ولي التوفيق.
المصدر: كتاب القرار في يديك
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق