• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النبي داود (ع).. الحاكم الذي كان يقتات من عمل يده

النبي داود (ع).. الحاكم الذي كان يقتات من عمل يده

قال تعالى في كتابه العزيز: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة/ 250-251).

تشير الآيتان الكريمتان إلى القوم من بني اسرائيل الذين جعل الله عليهم طالوت ملكاً، ليقودهم ويقاتل بهم أعداءهم في فلسطين آنذاك وهم جالوت معه العمالقة. وبالفعل التقى الجمعان، ورجا المخلصون نصر الله سبحانه ولكن ما ينبغي التوقف عنده هنا، ما أشار إليه القرآن الكريم بإيجاز: (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ).. إذ إن جالوت المتجبر دعا إلى البراز مستهزئاً بكل جند طالوت، مستصغراً شأنهم، متعالياً عليهم! وكما في كل موقف مماثل تبرز أمور ليست في الحساب والتوقعات، حيث يتأخر المتقدّمون ليسبق المجهولون.. الذين لا يحسبون للمادة حسابها. فداود لم يكن من بين الجند – فيما يروى – وليس له من الشهرة ما يجعل تقدمه على غيره مقبولاً أو متوقعاً، فلقد كان مجرد راعٍ ابن راعٍ يدعى آشي من سلالة لاوى بن يعقوب (ع). ومع ذلك كان يرى الأمور بمنظار آخر، فيفكر بوجوب قتل جالوت لاستكباره دون أن يهتم أو يأبه بقوته وبطشه وبما يحتمي من حديد ودروع. وكما يرى السعي لذلك واجباً والتوكل إنما هو على الله سبحانه. ويصر داوود على البراز والاستعداد لقتل جالوت.. فيقبل طالوت أخيراً بعد أن ردّه مرات برفق ليفسح المجال للابطال ولكن دون جدوى ويُلبسه الدرع – درع موسى (ع) – التي كانت في تابوت السكينة كما في الروايات. واستوت الدرع على داود.. فيحمل مقلاعاً وبضعة أحجار كريمة ويتحرك.. وما انكشفت الصورة إلا عن داود يقف على رأس جالوت بعد أن أرداه وصرعه بحجر، ثمّ قتله بسيفه محققاً بذلك النصر الحاسم. وذاع صيت داوود: قاتل جالوت، وأضحى صهر الملك طالوت ووارثهُ وفقاً للوعد الذي قطعه طالوت على نفسه.. وهكذا جُعل النصر لبني إسرائيل على يدي داود في معركة غير متوازنة، حيث كان أكثر القوم يخشى نتائجها (.. قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ...) (البقرة/ 249).   - داود النبي (ع): وتهيأ الجو لداوود فجعله الله نبياً بعد ما آتاه الملك: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة/ 251). ومع المُلْك والنبوة ورغم وجود التوراة عند بني إسرائيل آتاه الله الكتاب الثاني لهم، المؤكّد والمصدّق للكتاب الأول. (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورً) (النساء/ 163)، (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) (الإسراء/ 55). والزبور "هو الكتاب بمعنى المكتوب"[1]. وفي الروايات: "... وأنزل عليه الزبور فيه توحيد وتمجيد ودعاء واخبار رسول الله (ص)..."[2].   - شخصية داود (ع): غالباً ما يتشابه الأنبياء (ع) في كثير من الصفات، ومع ذلك يختص كل واحد بصفة تتعلق بشخصه الكريم أو بما جاء به من معجزة ومؤيّد لرسالته ودعوته. قال تعالى عن داوود (ع): (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص/ 17-20). هذا هو داود الأوّاب (ع).. لا يترك أمراً بعيداً عن الله سبحانه، يرجع في أموره كلها إلى ربه، بل يكاد يكون ذكره وكلامه ومشيه وعمله وحياته كلها متصلة بالله سبحانه. ولقد رزقه الله صوتاً جميلاً مميزاً لدرجة تفاعلت معه كل المخلوقات الأخرى، فما شعر داود (ع) ومن معه إلا والجبال تردّد معه تسبيحه، والملائكة تتلو معه، والطير كذلك صافات، والوحوش ذليلة منكسرة متأثرة بذاك الصوت الصادر من أعماق النفس البشرية الشفّافة العرفانية، تلك النفس التي لا تسعد ولا تنشغل إلا بمناجاة الله وذكره سبحانه. بل ولقد أصبحت بعض المخلوقات تفهم لغته ويفهم لغتها. ولقد سُمي بصاحب المزامير (وهي ما كان يتغنى به من الزبور) وبقارئ أهل الجنة. وليس غريباً أن تُخرج تلك الحنجرة المباركة ذات النغم المقدّس الممتزج بريح ذلك الصوّام، - صوّام الدهر – العبد الأوّاب، النبي البكّاء داوود (ع) ففي رواية عن أبي عبدالله (ع): "... وأما داود فإنّه بكى حتى هاج العشب من دموعه، وإن كان ليزفر الزفرة فيحرق ما نبت من دموعه"[3]. وكان يسيح في الأرض وينتشر صوته في الفضاء الفسيح تنقله الريح التي أحبّت ذلك الصوت وصاحبه، تنقله للآخرين من حبّيه من الحيوانات التي عطف عليها وأحبها، بل يروى أنّه قد عالج بعض مشاكلها وداواها بعد ما علّمه الله منطقها، وآتاه القدرة على فهم لغتها: لغة التسبيح ولغة الحياة. ورغم انشغاله الدائم بتضرعه وبكائه وذكر ربه، وتلاوة مزاميره، لم يكن ليهمل حاجات الناس من رعيته فهو راعٍ وهو المسؤول عن رعيته.. لذا كان يفكّر بوسائل تسهّل لهم النصر على أعدائهم، وتخفّف عنهم ثقل الحديد وجهد القتال ومشقة الجهاد. وما كان ليظنّ أنّ الحديد أيضاً – رغم صلابته – سيتفاعل مع الجسد المبارك، كما تفاعلت الوحوش مع الصوت الحنون صادق اللهجة.. فإذا بالصلب ليّن، وهو عليه هيّن. قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (سبأ/ 10-11). وقال سبحانه: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء/ 79-80). فلقد كان شكل الدروع، وطريقة صنعها ترهقهم وتعيق تحركهم في المعارك. فألان الله له الحديد ليسهل عليه صنع السابغات (الدروع) (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ).. ونعم لبوس الحرب الدروع من صنع داوود... وبالفعل انتشرت دروع داود (ع) وكثرت وساهمت في عملية انتصارهم في معاركهم بسبب خفتها وطريقة صنعها الجديدة آنذاك، وتلك نعمة أخرى على بني إسرائيل فهل هم شاكرون؟!   - النبي الحاكم: إنّ نظرة شاملة إلى الآيات والروايات لتكشف عظمة المسؤول وقدرته، وعظم المسؤولية الملقاة على عاتق النبي – الملك. فهو – وإن كان نبياً صالحاً – لم يكن لينسى أن يذكر الله ويرجوه ويتضرّع إليه، ويسبحه في الليل والنهار، والعشي والإشراق. وفي المقابل لم يكن لينسى حياته المعيشية ليتجنب تناول مال الدولة والشعب.. بل كان يقتات من صنع يده، حيث ذُكر أنه باع بعض الدروع المصنوعة ليعيش وعائلته من ثمنها ونقلاً عن نهج البلاغة: "وإن شئت ثلثت بداود (ع) صاحب المزامير وقارىء أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده (جريد وأوراق النخل) ويقول لجلسائه أيّكم يكفيني بيعها ويأكل قرص شعير من ثمنها"[4]. وكذلك فإنّ اهتمامه بذكر ربه وشؤون الحرب ومعيشته الشخصية، لم يكن أكثر من اهتمامه بأمن الناس ومصالحهم في داخل الدولة. ولعله أول من قضى بين الناس. فقد كان يجلس للقضاء بينهم ويحكم بالعدل. قال تعالى: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص/ 20). فالإشارة واضحة إلى أمر القضاء، بل في آيات أخرى تبيان لكيفية تعليمه القضاء بين الناس، بأن يستمع إلى قول المدّعي (صاحب الشكوى) وقول المدّعى عليه (المتهم) قبل أن يصدر الحكم. قال تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ص/ 21-26). فلعلّ بهذه الحادثة بدأ تشريع القضاء مع اشتداد الحاجة وإلحاحها في أمور الملك والدولة. وواضح في الآية الأخيرة أنها أتت عقب تلك القصة والحادثة التعليمية لداود (ع)، إذ جعله الله خليفة وأمره بالحكم بين الناس بالحق.. ولا داعي لأن يذهب الناس مذاهب شتى في تعليل سبب بكائه وتوبته، وتحميل الكلام ما لا يحمله من معان. وإليك رواية عن الرضا (ع) حول الموضوع: إنّ داود إنما ظنّ أنّ ما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقالا: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ...)، فعجّل داود على المدّعى عليه فقال: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ...)، ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، ولم يُقبل على المدّعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة حكم لا ما ذهبتم إليه[5]. وقوله (ع): "لا ما ذهبتم إليه" إشارة إلى اتهام بعض الروايات – المشبوهة وغير الصحيحة – للنبي داود (ع) بأمور لا تليق بمقامه وعصمته. ومن المناسب ان نتوقف أخيراً مع حكم آخر لداود (ع) أشار إليه القرآن الكريم بقوله: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا...) (الأنبياء/ 78-79). ففي الآية الأولى دليل واضح على قضاء داود وحكمه بين الناس. وملخص القضية والحكم ان غنم شخص أكلت العنب وأهلكت الأصول فحكم داود لصاحب الكرمة بأخذ الغنم عوض حرثه. ولكن الله سبحانه يريد أن يُشعر الناس بكفاءة رجل المستقبل "سليمان الحكيم" (ع) ابن داود (ع)، وفي مجلس أبيه بالذات فأوحى إليه وفهّمه حكماً آخر يمكن أن ينسخ به حكم داود أمامه وبرضاه، ومفاده أن يأخذ صاحب الحرث الغنم فيستفيد من الصوف واللبن، ويأخذ صاحب الغنم الحرث فيصلحه حتى يعود سيرته الأولى بمثره وشجره، ثمّ يردُ كلّ منهما للآخر ما أخذه منه. ومات داود مفجوءاً – قبل أن يكمل معبد بيت المقدس – ليرث سليمان ملكه ويؤتى النبوة والحكمة ويشرع في استكمال بناء الهيكل..   الهوامش:
[1]- التفسير المبين، محمد جواد مغنية، ط2 دار الجواد، ص131. [2]- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج14، ص3. (نسبة إلى تفسير القمي، ص476). [3]- النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، نعمة الله الجزائري، الأعلمي للمطبوعات، ط8، ص390. [4]- المصدر نفسه، ص384.

[5]- البحار، ج14، ص24.

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 19 و20 لسنة 1991م

ارسال التعليق

Top