• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

بناء ثقافة الحوار بين المسلمين في الغرب

أ. د. سعيد إسماعيل علي

بناء ثقافة الحوار بين المسلمين في الغرب

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية برزت إلى الوجود ظاهرة إسلامية جديدة في العالم الغربي لم تجد إلا القليل من الجهود التي تهتم بتيسير السبل أمامها – من حيث هي أقلية في التعامل المحيط المجتمع الذي تعايشه، وهي تشعر بغربة إزاءه.
لقد ازدادت أعداد المسلمين في أوربا وأمريكا في العقود الخمسة المنصرمة، زيادة ملحوظة لم تقدر بالآلاف أو مئات الآلاف، بل تقدر بالملايين العديدة، وارتفعت المآذن في كثير من البقاع في القارتين الأوربية والأمريكية، واضطر عدد من البلدان الغربية إلى الاعتراف بالواقع الجديد وذلك بالاعتراف القانوني بالإسلام بما يترتب على ذلك من آثار تتيح للمسلمين إنشاء المدارس والجمعيات الخيرية والمؤسسات الإسلامية المختلفة.
وفيما يتعلق بهذا الحضور الإسلامي في الغرب، يمكن التمييز بين ثلاث مراحل:
1- حضور إسلامي عريق وقديم توطن في بعض المناطق الأوربية منذ قرون خلت، وهو بمثابة ما تبقى من قلاع الإسلام في أوربا؛ كالبوسنة والهرسك وغيرها.
2- حضور إسلامي عن طريق الهجرة وهو حديث نسبيّاً، لكنه استقر بأوربا مع استقرار المهاجرين وتخليهم عن فكرة العودة.
3- إسلام بعض الأوربيين في السنوات الأخيرة نتيجة إشعاع الصحوة الإسلامية، ونتيجة اقتناعهم برسالة الإسلام الخالدة، وغالباً ما يكون هؤلاء من نخبة المثقفين أو العلماء. وإذا كان عدد هؤلاء لا يزال قليلاً، فإن تأثيرهم غالباً ما يكون كبيراً، كما التحق بالإسلام في السنوات الأخيرة عدد آخر من الغربيين نتيجة الزواج مع العائلات المسلمة المهاجرة.
لكن المسلمين في الغرب يعانون من مشكلات عديدة تتصل بالحفاظ على هويتهم الإسلامية، وتعليم الدين الإسلامي، ومشاكل التكيف مع الحضارة الغربية، والاندماج في مجتمع مسيحي علماني، والاغتراب المكاني والروحي، الأمر الذي يجعل من حياة المسلمين في الغرب عسيرة ثقافياً ودينياً.
وفضلاً عن ذلك، فالمسلمون، منذ عدة سنوات، وبسبب ما اجتاح بعض الدول من حوادث عنف وإرهاب، ارتكب بعضها بعض المنحرفين من المسلمين، وبعضها الآخر دست عليهم، يجدون أنفسهم وقد وضعوا في دائرة الاتهام، فلم يعد يكفيهم سوء الفهم الذي ورثه الغربيون تجاه الإسلام والمسلمين منذ قرون.
ومن هنا أصبح من الحيوي بمكان أن يكون هنا جهد ملحوظ على طريق بناء ثقافة الحوار هناك، سواء بين المسلمين أنفسهم – حيث إن تعدد أصولهم ينشئ تباينات شتى في المفاهيم والمواقف – أو بينهم وبين الغربيين المعايشين لهم.
ويأتي في مقدمة التأسيس لذلك تصحيح النظر إلى المجتمع الغربي، فلقد ترسخ في ذهن عدد من المهتمين بتطور المجتمعات الغربية أنّ المجتمع الغربي مجتمع علماني لا سلطة فيه للعامل الديني، وهم بذلك يقصون أحد العوامل الفاعلة في تطور الحركة الفكرية والاجتماعية لهذا الجزء الأساسي من المعمور، فما زالت الأوساط الشعبية في مجتمعات مثل بلجيكا وألمانيا وإسبانيا وغيرها تحركها الجمعيات والهيئات الدينية، وخاصة منها الكنيسة على مختلف مذاهبها، بل هناك أطراف حاكمة ذات توجه ديني وبرنامج سياسي مبني على أفكار وتوجهات دينية بيدها مقاليد الحكم، كما أن هناك تنظيمات وأحزاباً، سواء في الحكم أو في المعارضة، تخدم الدين دون أن تدعي انتماءها إليه؛ لأنّ الجماهير المنضوية تحت هذه التنظيمات والأحزاب والتي ما برح متزعموها يصرخون بأولوية الاحتكام لرغبات الشعب، لها ميول دينية ومواقف تستند إلى الدين للبت في قضايا هي من صميم الواقع الاجتماعي.
إنّ هذا يقتضي من مسلمي الغرب، أن يضعوا بعين الاعتبار، وهم يديرون حوارات بينهم وبين بعضن وبينهم وبين الغربيين الملاحظات التالية:
1- المجتمع الغربي ليس واحداً، ويلزم الاستفادة من تفاوت سياساته ومجالات اختلافها على أحسن وجه.
2- والمجتمع الغربي – على أيّة حال – مجتمع متفتح، على الرغم من الأزمات العارضة، ونحتاج إلى كسب العديد من الأنصار من داخله لقضايا الجاليات الإسلامية عبر دفع أفراد الجالية للوعي بفوائد نهج سياسة تدعم قيم الإسلام الوسط المتفتح.
3- المجتمع الغربي مصاب، عبر تغذية إعلامية مستمرة، بمرض الخوف من الإسلام، لكن تقوية الجانب الخلقي لدى المسلم، وتغذية معارفه بالآخر وثقافاته وتاريخه، والحوار معه، كل ذلك من شأن أن يساعد على إزالة عديد من التصورات الخاطئة المسببة لذلك الخوف.
وحتى ينجح مسلمو الغرب في أن يحافظوا على هويتهم الإسلامية، هم بحاجة إلى إجراء حوارات بينهم وبين بعض وبينهم وبين المهتمين من الغربيين ما يعتور التصور الغربي للإنسان من صور خلل، بحيث لا يدفع التقدم التقني المسلمين إلى درجة انبهار تخفي عنهم العور البادي في غياب منظومة القيم والأخلاق عن تصور الإنسان السائد هناك، وليس هذا هو حكم مفكرين مسلمين وحدهم، وإنما هناك من مفكري الغرب من ذوي الوعي الضمير اليقظ قد تنبهوا لهذا كتبوا عنه، لا من وقت قريب وإنما من وقت بعيد مثل الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند رسل، حيث انتقد سيطرة الآلة على الإنسان كأحد أبعاد أزمة الإنسان الغربي، من جراء انفصال العلم والتكنولوجيا عن المنظومة القيمية والأخلاقية بقوله: إنّ النجاح الباهر للعلم في تطبيقاته التكنولوجية قد جلبت خطراً من نوع آخر؛ إذ أصبح الكثيرون يعتقدون أنّه لا يكاد يوجد شيء يعجز الإنسان عن تحقيقه، لو وجهت إليه جهوده ومورست بالطريقة المناسبة، والواقع أنّ الكشوف الكبرى في التكنولوجيا الحديثة تعتمد على تضافر عقول وأيد كثيرة، ولابدّ أن يظهر لأولئك الذين يأخذون على عاتقهم البدء في مشاريع جديدة، أن قدراتهم لا حدود لها، غير أنهم يغفلون هنا حقيقة مهمة، هي أن هذه المشاريع كلها تقتضي جهداً إنسانيّاً وينبغي أن تخدم أهدافاً إنسانية، وفي هذه الناحية بالذات نجد عالمنا المعاصر يتجاوز كافة حدود الاعتداء.
إنّ الأمر يقتضي توازناً صحياً بين هدف الحفاظ على الذاتية الإسلامية للمسلمين في الغرب من جانب، والمشاركة الفعالة في أنشطة المجتمعات الغربية من جانب آخر، فالمسلمون في الغرب لا يجوز لهم أن ينعزلوا في حارات مثل حارات اليهود، ولكنهم من ناحية أخرى لا يجوز لهم أن يذوبوا في المجتمع الغربي بمعنى أن يفقدوا هويتهم الدينية والثقافية، ولا ننسى أن هناك أخطاراً حقيقة في هذا الصدد تهدد الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين في الغرب، ومن هنا فإنّه من الضروري أن نحصن الأطفال عن طريق الأمصال المناسبة ضد الأمراض المختلفة، وهذا يحتم إقامة مؤسسات ثقافية إسلامية في بلاد الغرب للمساعدة على تحقيق هذا الهدف، وتتمثل هذه المؤسسات الثقافية في مؤسسات إسلامية للتثقيف العام والتدريب على إجراء الحوارات والمناقشات والجدال بالتي هي أحسن وعن علم ومنطق.
ولابدّ أن يطرح المسلمون سواء المقيمين في الغرب أم في البلدان الإسلامية تساؤلاً يدور حول الجهة التي نتوجه بالخطاب الإسلامي إليها؛ لتوضيح حقائق ديننا الحنيف، فهل نتوجه به إلى مؤسسات صنع القرار في الغرب أم للإنسان الغربي؟
الحق أن مؤسسات صنع القرار منحازة ضد الإسلام ليس بسبب أنّ الإسلام يدعو إلى الإرهاب ويؤدي إلى التخلف والتعصب والتطرف كما يزعمون؛ وإنما – ببساطة – لأنّ المشروع الحضاري الإسلامي (الذي لم يجد سبيله للتطبيق في الواقع المعاصر للمجتمعات الإسلامية) يتصادم مع مصالح الاحتكارات والمؤسسات الاقتصادية والعسكرية والسياسية في الغرب، ولعل هذا ما جعل هذه المؤسسات ومن ورائها القوى الصهيونية المسيطرة، تحاول غرس صورة مشوهة عن الإسلام لدى تلاميذ المدارس والجامعات في الغرب من خلال المناهج الدراسية.
إنّ الإنسان الغربي العادي ليس في خصومة مع الإسلام والمسلمين، وإنما خصومتنا مع صناع القرار لتصادم المصالح، ومع المسؤولين عن صياغة المناهج عندهم، إن أفكاراً مثل نهاية التاريخ، وصدام الحضارات، هي في النهاية شكل من أشكال التطرف الغربي، تماثل التطرف أو الغلو في الدين عند المسلمين أو المسيحيين أو البوذيين، وهذه الأفكار لا تمثل رجل الشارع الغربي، فالتيار الأساسي في الغرب معتدل ومتوازن في علاقته بالإسلام، له نتوجه بالخطاب، إلى رجل الشارع أم إلى المسؤولين في الغرب؟ ويجب ألا يغيب عن ذهننا أن رجل الشارع عندهم لا يقل أهمية عن صناع القرار؛ لأنهم في النهاية هم المسؤولين عن تنصيب صناع القرار من خلال صناديق الانتخاب، لهذا يجب أن نتوجه بالخطاب في جزء كبير منه إلى رجل الشارع الغربي باللغة التي يفهمها وبمنطقة الذي يحركه.
وقد حرصت إستراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب التي صدرت عن منظمة الإيسيسكو عام (2001م) على أن تؤكد عن مجموعة من المقاربات التي لابدّ منها في الحوارات المتصلة بمسلمي الغرب؛ وهي:
1- مناقشة واقع الوجود الإسلامي في الغرب في إطار بعده التاريخي، وفي إطار تجلياته وتفاعلاته داخل المجتمعات الغربية حاضراً ومستقبلاً.
2- مراعاة خصوصية الوجود الإسلامي في الغرب وخصوصية الواقع الثقافي الإسلامي في الغرب (مشاكل التنشئة التربوية للأجيال الجديدة ومحاولات الدمج القسري، وأزمة الهوية الثقافية، وفقدان الصلة بالمرجعية الإسلامية الأصيلة).
3- مراعاة تنوع المسلمين مشاكلهم بتنوع البلدان الأوربية، وتنوع حجمهم وتنوع البلد الأصلي واللغة والثقافة ودرجة التعليم، وأيضاً تنوع التحديات التي تجابههم في تلك البلدان.
4- مراعاة الواقع الجديد للمجتمعات الغربية التي أصبحت متعددة الثقافات والديانات والأجناس وما نتج عن ذلك من حركية جديدة.
5- تحليل مختلف الخطابات الغربية التي تناولت الإسلام وتبيان خلفياتها ومرجعياتها وأهدافها الخفية، سواء تعلق الأمر بالخطاب الاستشراقي الأكاديمي أو بالخطاب السوسيولوجي أو بالخطاب الإعلامي أو الخطاب السياسي أو الخطاب الديني.
6- مراعاة الاختراق الثقافي الذي تفرضه العولمة الثقافية الزاحفة حالياً وشروط تحصين الهوية الثقافية والدينية للمسلمين في البيئة غير الإسلامية.
7- الأخذ بعين الاعتبار واقع العلمانية في المجتمعات الغربية التي تفيد فصل الدين عن الدولة، لكنها تسمح في الوقت نفسه بحرية التدين، وهذا ما يفسر الحضور القوي للدين في تلك المجتمعات، ويمكن للإسلام أن يستفيد من تلك الوضعية.
8- رصد العوامل لمختلفة التي ساهمت في زيادة الوعي بأهمية الإسلام في الغرب ودوره كاختيار ثقافي وروحي وكمنهج للعمل في مواجهة التحديات الفكرية المعاصرة، ومحاولة طرح بعض العناصر والإجراءات الكفيلة بترشيد الصحوة الإسلامية، وتصحيح صورة الإسلام وتخليصها من كل ما يشوبها حتى لا تتعمق أكثر الفجوة القائمة بين الإسلام والغرب.
9- استشراف آفاق المستقبل واستلهام بعض مبادئ ترشيد الصحوة الحالية والعمل على توطين الإسلام في الغرب، وتفعيل دور الثقافة الإسلامية في تحصين الهوية وإكسابها المناعة اللازمة.

المصدر: كتاب الحوار.. منهجاً وثقافةً

ارسال التعليق

Top