• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اللسان.. داء ودواء

د. عباس طاهر

اللسان.. داء ودواء

◄من دعاء الإمام زين العابدين (ع):

"اللّهمّ صلِّ على محمدٍ وآله.. واجعل القرآن لألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفةٍ مخرساً، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً".

اللسان: هذه الكتلة اللحمية التي تقع في وسط فم الإنسان صغير جرمه، عظيمة طاعته وعظيمة معصيته. ولا يُعلم الحق والباطل، والكفر والإيمان إلا من خلاله. وما من موجود أو معدوم، خالق أو مخلوق، متخيّل أو معلوم، مظنون أو موهوم إلّا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي. وهذا ما لا نجده في باقي أعضاء الجسم.

اللسان فيه صلاح الأُمم وفيه هلاكها، فيه الحرب وفيه السلم، فيه الجنة وفيه النار، وإنّ أكثر خطايا ابن آدم من لسانه. فإذا أرادَ الله بعبدٍ خيراً أعانه على لسانه وشغله بعيوبه عن عيوب غيره. ومن قلَّ كلامه كَمُلَ عقله، عن علي (ع): "إذا تمَّ العقل نقص الكلام".

لقد شخّص الإمام السجاد (ع) قيمة اللسان في أدعيته وشخّصَ الإمام آفات اللسان، التي إن أهملها الإنسان سلكت به مسلك الشيطان في كل ميدان، وساقته إلى شفا جرفٍ هارٍ. فيقول (ع):

"اللّهمّ اجعل ما يُلقي الشيطان في روعي من التمني والتظني والحسد ذكراً لعظمتك، وما جرى على لساني من لفظةِ فحشٍ أو هجوٍ، أو شتمِ عرضٍ، أو شهادةِ باطل، أو اغتياب مؤمن غائب، أو سب حاضر وما أشبه ذلك نطقاً بالحمد لك، وإغراقاً في الثناء عليك".

في هذا المقطع من الدعاء يعلّمنا الإمام قاعدة أساسية هي وزن الكلام قبل النطق به من خلال إرجاعِهِ إلى العقل، فإن كان في طاعة الله تعالى تكلّمنا به، وإن كان مسلكاً للشيطان التزمنا السكوت، لأنّ في ذلك نجاتنا. عن رسول الله (ص): "من صَمَتَ نجا" و: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو فليصمت". وعن الصادق (ع): "ما من يومٍ الّا وكلّ عضوٍ من أعضاء الجسد يكفّ اللسان، يقول: نشدتك الله أن نُعذَّبَ فيك".

ولآفات اللسان أبعاد فردية واجتماعية، نستعرض أهمها في ما يلي إن شاء الله:

 

-       الآفة الأولى:

التكلم بالمباح من دون هدف، وهذا ينتج عنه مضيعة للوقت من دون حاجة أو ضرورة. يُقال: إنّ لقمان الحكيم كان ذات يوم أمام دكان نبي الله داوود (ع)، حيث كان داوود يصنع درعاً ولكنّ لقمان لا يعرف ماهيّة هذه الدرع، فأراد أن يسأل داوود عمّا يفعل ولكن منعته الحكمة من ذلك.. وبَعدَ أن أتمّ داوود الدرع ولبسها قال: نِعمَ الدرع للحرب.. عندها قال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله. أي حصل العلم من دون سؤال. وقال: لا أسأل عما كُفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني. وعن رسول الله (ص) في وصيته لأبي ذر: "ألا أعلّمك بعملٍ خفيف على البدن ثقيل في الميزان؟" قلت: بلى يا رسول الله، قال: "الصمت وحسن الخلق وترك ما لا يعنيك".

 

-       الآفة الثانية:

فضول الكلام خارج ما يحتاجه الناس.. وهو من الأعمال المذمومة حتى وإن لم يكن فيها ضرر فردي أو اجتماعي.

قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء/ 114). وعن رسول الله (ص): "طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله".

 

-       الآفة الثالثة:

الخوض في كلام الباطل.. من خلال التكلم بالمعاصي (كالخمر والنساء، والغناء، وكل منكر) فعن رسول الله (ص): "أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل".

 

-       الآفة الرابعة:

المجادلة.. وهي الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما باللفظ، أو بالمعنى، أو بالقصد.. وهذا يكون أحياناً من قصور المعرفة. لأنّ الذي يخوض في حرب سجال من كلامٍ القصد منه مجرد الطعن والقدح وإفحام الغير وتعجيزه بغير طاعة الله، يقوم بعمل مكروه سيء. وهناك حالة مصاحبة للمجادلة وهي المراء.. والغرض منها هو المجادلة، وقد نهى عنهما الإسلام.

عن رسول الله (ص):

"لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعد موعداً فتخلفه".

"ذروا المراء فإنّه لا تفهم حكمته ولا تؤمن فتنته".

"من ترك المراء وهو محقّ بُني له بيت في أعلى الجنة".

 

-       الآفة الخامسة:

الخصومة.. وهي اللجاج في الكلام ليستوفى به مال أو حقّ مقصود، وذلك تارةً يكون ابتداءً وتارةً يكون اعتراضاً. فعن رسول الله (ص): "إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".

 

-       الآفة السادسة:

التصنع في الكلام.. والمتصنّع هو المتعمّق المغالي المتاوز لحدود الله في القول والفعل. فعن رسول الله (ص):

"ألا هلك المتصنعون. ثلاث مرات".

 

-       الآفة السابعة:

بذاءة اللسان: وهي استخدام اللسان في الكلام الفاحش. عن رسول الله (ص):

"ليس المؤمن بالطعّان ولا الفاحش ولا البذيء".

"سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر".

 

-       الآفة الثامنة:

الغناء: وهو عملية الترجيع بالكلام الذي يخدش الحياء، ويثير العواطف الشهوات، ويشجع السامع على عمل المنكر، أو قول المنكر على الأقل. رسول الله (ص): "الغناء عُشرُ النفاق".

كذلك فقول الشعر في مدح السلاطين أو الظالمين، أو القول بدون الفعل، هو من الآفات القاتلة للشخصية، ومن أعمال المنكر.

 

-       الآفة التاسعة:

المزاح.. وهو الإفراط في كلام اللهو الذي يُذهب الهيبة، ويُضعف الشخصية، لأنّه مدخل إلى المعصية. عن رسول الله (ص): "إني لا أمزح ولا أقول إلّا الحق".

 

-       الآفة العاشرة:

السخرية والاستهزاء: آفتان من آفاتِ اللسان حَرّمَهما الإسلام، حيث قال تعالى: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) (الحجرات/ 11).

 

-       الآفة الحادية عشرة:

إفشاء السر: هو من الأعمال الخيانية، وهو عمل منهيٌ عنه في الإسلام لما فيه من العواقب الوخيمة على الفرد والمجتمع. عن رسول الله (ص): "إذا حَدَّث الرجل الحديث ثمّ التفت فهي أمانة".

 

-       الآفة الثانية عشرة:

الأقوال والوعود الكاذبة: وهي خلاف الصدق والوفاء وتُعدّ من أبواب النفاق. عن رسول الله (ص):

"أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً: ومن كان فيه خلّة منهنّ كانت فيه خلّة من خلال النفاق حتى يدعها، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فجر".

"الكذب ينقص الرزق".

"ويلٌ للذي يُحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له".

 

-       الآفة الثالثة عشرة:

الغيبة: هي ذكر الناس بما يكرهون ذكره.. عن رسول الله (ص): "إياكم والغيبة فإنّ الغيبة أشدُ من الزنى، فإنّ الرجل قد يزني فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه".

 

-       الآفة الرابعة عشرة:

النميمة: هي كشف سر الناس، بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يُكْرَه كشفه، إلّا إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام أو دفع لمعصية. أما إذا تكلم الفرد عن شيء يكره كشفه ويكرهه الناس لما فيه من نقص وعيب للمحكي عنه فإنّ الحاكي قد جمع بين الغيبة والنميمة.

قال تعالى:

(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (القلم/ 11-12).

عن الباقر (ع): "الجنة محرّمة على المغتابين والمشّائين بالنميمة".

 

-       الآفة الخامسة عشرة:

كلام ذوي اللسانين.. وهو النفاق.. وذو اللسانين هو المنافق، عن رسول الله (ص): "من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة" وعن الباقر (ع): "بئس العبد عبداً يكون ذا وجهين وذا لسانين، يُطري أخاه شاهداً ويَأكله غائباً، إن أعطي حسده، وإن ابتلي خذله".

 

-       الآفة السادسة عشرة:

المدح.. هو ذكر الناس بما فيهم، أو مبالغة بذكر أكثر مما فيهم، وهو من الأعمال المكروهة لأنها تُظهر عوارض مَرَضية في المادح والممدوح، وهي الكذب من خلال الإفراط بالمدح، والرياء الذي هو إظهار المحبة المفرطة للممدوح، وذكر الممدوح بما ليس فيه، أو بما فيه ولكن لا يُريد أن يعرف عنه الناس، كصائم النهار، قائم الليل. كذلك فإنّ في عملية المدح منكراً هو توليد حالة الكبر والإعجاب في الممدوح وهما خصلتان مهلكتان. عن رسول الله (ص) حينما سمع رجلاً يمدح آخر:

"ويحك، قطعت عنق صاحبك، لو سمعها ما أفلح، ثُمَّ قال: لابُدّ أحدكم مادِحاً أخاه، فليقل: أحبُ فلاناً ولا أزكّي على الله أحداً حسبه الله، إن كان يرى أنّه كذلك".

 

-       الآفة السابعة عشرة:

الغفلة عن الحق، وهي قول الشيء مع الجهل به، لا سيما فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته، أو أمور الدين عن رسول الله (ص):

"لا يقل أحدكم: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله ثمّ شئت".

"لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنّه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربّكم".

من قال أنا بريء من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً".

 

-       الآفة الثامنة عشرة:

الجهل المركّب، هو التحدث بما لا يعلم مع ادّعائه بالعلم وجهله بالجهل، وهذا مدخل إلى الانحراف، وقد يصل إلى حالة الكفر.. وهذا ما حَذَّر منه الإسلام.. عن رسول الله (ص):

"ذروني ما تركتكم فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم".

إنّ هذا الاستعراض السريع لواقع اللسان وخطره على الفرد والمجتمع والذي ركّز عليه الإمام السجاد (ع) في أدعيته.. يعلّمنا أنّ الإنسان المسلم لا ينبغي أن يُشغل لسانه إلّا بما فيه طاعته سبحانه من خلال القول الطيب الذي يكون في صلاح الأفراد والأُمم... أما الكلام في طاعة الله فالنطق فيه واجب، وأما الكلام في معصية الله فالنطق فيه مذموم لأنّه يوقع الفرد والمجتمع في دائرة الحرام.

عن لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه:

"يا بني، إن كنت زعمت أنّ الكلام من فضة فإنّ السكوت من ذهب".

سُئل الإمام السجاد (ع) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل.. فقال (ع):

"لكل واحد منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت"، قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول الله (ص)؟ قال (ع): "لأنّ الله عزّ وجلّ ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام. ولا استُحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وفيت الناس بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام. ما كنت أعدل القمر بالشمس، انك تصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام، بالسكوت".

إذاً فالتوازن هو المطلوب من خلال المعرفة العميقة لمسؤولية الكلام ومسؤولية السكوت. وتشخيص الحالة تعتمد على المكلف نفسه. أما أن ينطق الإنسان بالآفات سالفة الذكر من دون النطق في طاعة الله فهذا ما لا يقبله الإسلام، وبالتالي تكون هذه الآفات عوامل هدم في الفرد والمجتمع، أو النطق بالحق وهو المطلوب. إذاً فلا يجوز السكوت عن قول الحق، ولا يجوز الكلام في غير الحق.

وفقنا الله تعالى لمراضيه، وجعل قلوبنا وألسنتنا لاهجة بذكره سبحانه، وجنبنا الوقوع في آفات اللسان، إنّه سميع مجيب الدعوات.

  مصادر البحث:

1- القرآن الكريم.

2- الميزان في تفسير القرآن.

3- وسائل الشيعة.

4- الدليل إلى موضوعات الصحيفة السجادية.

5- مرآة الرشاد.

6- الأخلاق.

7- المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء.►

 

المصدر: (مجلة نور الإسلام/ العدد 33 و34 لسنة 1992م)

ارسال التعليق

Top