• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

استغفار الرسـول «ص»

محمد جواد مغنية

استغفار الرسـول «ص»

◄( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النِّساء/ 64).

أي إنّنا إذا بعثنا الأنبياء يجب أن يطاعوا بإذن الله وأمره، ولا يخالفهم أحد، لأنّهم رُسُل الله وسفراؤه، كما هم رؤساء الحكومة الإلهية، وعلى هذا يجب على الناس أن يطيعوهم من جهة بيان أحكام الله، ومن جهة طريق تطبيقها، ولا يكتفوا بمجرّد ادّعاء الإيمان.

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الهدف من إرسال الرُّسُل وبعث الأنبياء هو إطاعة جميع الناس لهم، فإذا أساء بعض الناس استخدام حرّيتهم، ولم يطيعوا الأنبياء، كان اللوم متوجهاً لهم لا إلى أحد، وبهذا تنفي الآية التي بين أيدينا عقيدة الجبريين الذين يقولون: الناس صنفان: صنف كُلِّف بالطاعة، وصنف كُلِّف بالمعصية من البدء.

كما إنّه يستفاد من عبارة (بإذن الله) إنّ كلّ ما عند الأنبياء هو من الله، أو بعبارة أخرى: إنّ وجوب طاعتهم ليس بالذات، بل هو – أيضاً – بأمر الله ومن ناحيته.

ثمّ إنّه سبحانه يترك باب التوبة والإنابة – عقيب تلك الآية – مفتوحاً على العصاة والمذنبين، وعلى الذين يراجعون الطواغيت، ويتحاكمون إليهم، أو يرتكبون معصية بنحو من الأنحاء، يقول سبحانه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا).

والجدير بالتأمّل والانتباه إنّ القرآن يقول بدل: عصوا أمر الله وتحاكموا إلى الطاغوت (إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)، وهو إشارة إلى أنّ فائدة الطاعة لأمر الله وأمر الرسول تعود إليكم أنفسكم، وإنّ مخالفة ذلك نوع من الظلم توقعونه على أنفسكم، لأنّها تحكم حياتكم المادية، وتوجب تخلفكم وانحطاطكم من الناحية المعنوية.

إنّ هذه الآية تجيب ضمناً على كلّ الذين يعتبرون التوسل برسول الله أو بالإمام نوعاً من الشِّرك، لأنّ الآية تُصرِّح بأنّ التوسُّل بالنبيّ والاستشفاع به إلى الله، وطلب الاستغفار منه لمغفرة المعاصي، مؤثر وموجب لقبول التوبة وشمول الرحمة الإلهية.

فلو كانت وساطة النبيّ ودعاؤه للعصاة المتوسلين به، والاستشفاع به، وطلب الاستغفار منه شركاً، فكيف يمكن أن يأمر القرآن العصاة والمذنبين بمثل هذا الأمر؟

نعم، غاية ما في الباب أنّ على العصاة والمذنبين أنفسهم أن يتوبوا ويرجعوا عن طريق الخطأ، ثمّ يستفيدوا لقبول توبتهم من استغفار النبيّ (ص).

ومن البديهي أنّ النبيّ (ص) ليس من شأنه أن يغفر الذنوب، بل شأنه في المقام أن يطلب من الله المغفرة خاصّة، وهذه الآية إجابة مفحمة للذين ينكرون مشروعية أو فائدة هذه الوساطات.

هذا والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يقل: استغفر يا رسول الله، بل يقول: (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) وهذا التعبير – لعلّه – إشارة إلى أن يستفيد النبيّ من مقامه ومكانته ويستغفر للعصاة التائبين.

إنّ هذا الموضوع - أي تأثير استغفار النبيّ (ص) للمؤمنين - ورد في آيات أخرى من القرآن الكريم أيضاً مثل الآية (19) من سورة محمّد: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

والآية (114) من سورة التوبة: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ).

والآية (5) من سورة المنافقون: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

والآية (7) من سورة غافر التي تُبيِّن استغفار الملائكة للمؤمنين: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).

وكذلك الآية (5) من سورة الشورى: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ).

- خـلاصة القول:

إنّ هناك آيات كثيرة تكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ الأنبياء أو الملائكة أو المؤمنين الصادقين يستغفرون لبعض العُصاة، وأنّ استغفارهم مؤثر عند الله، وهذا أحد معاني شفاعة النبيّ أو الملائكة أو المؤمنين الطيبين للعُصاة والخاطئين، ولكن الشفاعة تحتاج إلى صلاحية وأهلية واستحقاق في العُصاة أنفسهم.

والعجيب أنّه يستفاد من بعض ما قاله البعض من المفسِّرين، حيث إنّهم أرادوا اعتبار استغفار النبيّ في الآية الحاضرة مرتبطاً بالتجاوزات الواقعة في شؤون النبي خاصّة لا مطلق المعاصي والذنوب، وكأنّهم أرادوا أن يقولوا: لو أنّ أحداً ظلم الرسول أو أساء إليه وجب استحلاله واسترضاؤه، ليغفر الله تلك الإساءة، ويتوب على ذلك التجاوز.

ولكن من الواضح البيِّن أنّ إرجاع التحاكم إلى غير النبيّ ليس ظلماً شخصياً يستهدف شخص النبيّ (ص)، بل هو مخالفة لمنصبه الإلهي الخاص، أو بعبارة أخرى إنّه مخالفة للأمر الإلهي، وحتى إذا كان ظلماً شخصياً موجهاً إلى شخص النبيّ – افتراضاً – فإنّ القرآن لم يقصده، ولم يركِّز عليه، بل ركّز على أن ذلك التحاكم مخالفة لأمر الله، وتجاهل لإرادته.

هذا مضافاً إلى أنّنا لو ظلمنا أحداً كفانا رضاه، فما الحاجة إلى طلب استغفاره ودعائه للمُسيء؟ بل فوق ذلك كلّه، لو إنّنا فسّرنا الآية بمثل هذا التفسير – فرضاً – فما الذي نقوله في تلك المجموعة الكبيرة من الآيات التي تشير إلى استغفار الأنبياء والملائكة والمؤمنين للعُصاة والخاطئين؟

فهل المقام هذا هو مقام الحقوق الشخصية؟!►

 

 المصدر: كتاب تفسير الكاشف 

ارسال التعليق

Top