إنّ أهم مظاهر الحياة الروحية هي الآتية:
أوّلاً: الاستغراق في الله بالتأمّل في صفاته مثل التأمّل في عظمة قدرته وأفعاله ومخلوقاته ودقة صنعه وإبداع خلقه ودقة علمه الذي يسري إلى كلّ جزء من أجزاء الكون وفي أعماق نفس الإنسان (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) (الأنعام/ 59-60)، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (ق/ 16).
وكلما زاد الإنسان علماً وزاد تأمّله في علم الله زاد خشوعاً وإجلالاً وتقديساً لله (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء/ 107-109). ولهذا كان لقمان يوجه ابنه عند تربيته تربية إيمانية روحية إلى التأمّل في دقة علمه تعالى ليزيد خشوعاً وإجلالاً وتقديساً لله فقال: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان/ 16). إنّ الإنسان عندما يتأمّل في هذه القدرة العلمية الهائلة ليقشعر جسمه لفرط تعظيم الله وإجلاله ولهذا فالذين يتأمّلون في مخلوقات الله وعجائب مخلوقاته يزيدون شعوراً بالإجلال وذكر الله في قيامهم وقعودهم وسيرهم. ولهذا قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191).
هذا الاستغراق في الله يجعل الإنسان يحيا في عالمه بالليل والنهار ذاكراً وساجداً وداعياً ومقدّساً ومعظماً ومرتلاً، لقوله تعالى (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران/ 113).
وعند يستغرق الإنسان في عالم الله على هذا النحو ينسى عالمه الحسي وهمومه ومشكلاته الدنيوية، وينسى نفسه لأنّ روحه تحيا في عالمها الذي تنزع إليه بالطبيعة وتميل إليه بالفطرة.
ثانياً ـ أداء العبادات المختلفة المفروضة مثل الصلاة والصوم وما إلى ذلك:
إنّ العبادات غذاء الروح فيها تتصل بالله أو بالروح الأعظم وتستمد منه العون والمدد والقوّة وخاصّة عندما يؤديها بالإرادة الخالصة شكراً لله لما عرف من كثرة نعمه وعظمة أفعاله وصفاته شاعراً في نفسه أنّه ولو لم يطلب منه الله تلك العبادات وجوباً لوجب عليه أن يعبده ويقدّسه ويعظمه لاستحقاقه تعالى ذلك التعظيم والتقديس. ثمّ أنّ الإنسان عندما يدرك أنّه في حالة العبادة يتصل بالله بالتطهر من جميع الأنجاس الحسية والرذائل ظاهراً وباطناً، فإنّ روحه تنشرح عندئذ وتبتهج لتطهرها من تلك الرذائل والأنجاس والمآثم لأنّها علل الروح، وأسباب أمراضها كما يشعر الإنسان عندئذ بالانشراح والابتهاج عندما يشفى من الأمراض ويبتعد عن أسبابها وعللها، ولهذا يشعر الإنسان بعد أداء العبادة بتلك الإرادة وتلك المشاعر بالقوّة والنشاط والابتهاج، كما يشعر بقوّة الإرادة والاستعلاء على جميع الأهواء والنزوات ودوافع الغرائز الحسية لأنّ الروح أخذت غذاءها عندئذ.
ثالثاً ـ حياة الفضيلة والاستغراق في الأعمال الخيرة وحبّ التضحية في سبيل الأعمال الصالحات وتقديم الخيرات والإسراع فيها:
ذلك أنّه كلّما ابتعد الإنسان عن الرذائل والمساوئ ظاهراً وباطناً وعمل الخيرات بإرادة خيّرة ورغبة أكيدة في الخير زاد ابتهاج الروح ونشاطها وطاقتها وحيويتها، لأنّ من مقتضى صفاتها التضايق بالرذائل والانشراح بالفضائل. ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى علّق فلاح الإنسان في هذه الحياة والآخرة باجتناب الإنسان الرذائل والالتزام بالعبادات ثم عمل الخيرات، وذلك إذا فعل هذا وذاك عن إيمان ورغبة وإرادة خيرة، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون/ 1-11).
رابعاً ـ الالتجاء إلى الله في السراء والضراء بالدعاء والذكر:
إنّ الإنسان عندما يدعو الله خوفاً من عذابه ليغفر له خطاياه ويعفو عن ذنوبه وهو واثق من عفوه والتجاوز عن سيئاته يزيده ذلك أملاً في الفوز برضائه والدخول في جناته، كما أنّ دعوته له بتحقيق آماله ونجاته من كلّ بلاء ونصره على أعدائه، وهو إذ يدعو واثق من قبول دعائه إيماناً بقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60). ولهذا دعا الله الإنسان إلى الوقوف بين يديه داعياً وطالباً منه مغفرته ورحمته، فقال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف/ 28).
وذكر الله يكون عند تذكر نِعم الله على الإنسان في الرزق والصحّة والتوفيق والتأييد والنصر وعند التفكّر في صفاته وأفعاله وصنائعه وإبداع مخلوقاته وجمال مصنوعاته فإذا كان الذكر في مثل هذه الحالات يجب أن يكون كلّ ذكرك اسم الله مقترناً بتذكر نِعمة من نعمائه أو فضل من أفضاله أو صفة من صفاته أو فعل من أفعاله، فإنّ هذا الذكر هو الذي يجدد الروح ويجلوها ويصفيها ويزيدها رقياً وارتباطاً بالله ومن ثمّ تحيا الروح في حالات الذكر وتدخل في حياة روحية. أمّا إذا كان الذكر مجرد ترديد اسم الله باللسان آلاف المرات، كما هو عادة بعض أصحاب الطرق الذين يذكرون بألسنتهم، وعقولهم غارقة في المنافع الدنيوية وقلوبهم مشغولة بأشياء مادّية لا بالله، فهذا الذكر لا يدخل الروح في الحياة الروحية ولا يؤثر في تجدد نشاطها. ولهذا نجد الفيلسوف الألماني كانط يهاجم هذا النوع من الذكر والتسبيح فيقول: "إنّ الناس يريدون عبادة الله ويسبحون بحمده ويعظمون قدرته وحكمته العالية بدون أن يفكّروا كيف يدبّر هذه العوالم ويقيم فيها سلطانه، بل إنّهم فوق ذلك لا يعلمون تلك القوّة ولا تلك الحكمة ولا يَجْشَمُون أنفسهم عناء البحث فيهما، أنّ الترتيلات والترنيمات الصادرة من هؤلاء أنّ هي إلّا مخدرات كالأفيون ينيم الوازع المخلوق فيهم ويقتل بصائر هؤلاء القوم أو كنمارق عليها ينامون ناعمين وادعين".
ولهذا كلّه نجد أنّ الآيات التي دعت إلى ذكر الله جاءت عند التذكير بمختلف آلائه ونعمته وصفاته وأفعاله ليكون الذكر بمثابة الشكر وليؤثر في الشعور ويجدد المشاعر الروحية وينميها. ولنذكر طائفة من تلك المناسبات التي ورد فيها الطلب بذكر اسم الله فقال تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 239)، (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) (البقرة/ 231). (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأعراف/ 69). وذكر الله ليس مجرد ذكر اسم الله باللسان بل الذكر الحقيقي أن يكون في النفس مقترناً بمشاعر الإجلال والخشوع. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف/ 205). وهذا الذكر ليس بالسبحة وبالصوت المرتفع والصراخ كما يفعل أصحاب الطرق الصوفية، وإنما يكون أساساً بالشعور بالعظمة، وعند تذكر نِعم الله على الإنسان سواء كان المرء عندئذ قائماً أو قاعداً أو نائماً ولهذا قال تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم) (النساء/ 103). وأن يكون ذلك الذكر مقترناً بالتفكّر في مخلوقات الله أو في نعمه كما قلنا وفقاً لقوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (آل عمران/ 191).
المصدر: كتاب فلسفة الحياة الروحية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
بشرى
السلام عليكم.. نعم هو الذوبان في الذات المقدسة وتوجه الإنسان إلى الصوت الذي لطالما ناداه من أعماقه وحنينه إلى الرجوع إلى حقيقته ربّ هب لي كمال الانقطاع إليك أجركم الله.
سناء
نعم ما تفضلتم به أنّ الإنسان يجب أن يكون خاشعاً لله ويقوى بالذكر لكن الإنسان في بعض الحالات يحتاج للبكاء عند ذكر الله كما هي عند الصوفيين والأعمال بالنيات.