• ٦ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفنون التطبيقية.. تميّز وخلود

صالح أحمد الشامي

الفنون التطبيقية.. تميّز وخلود
الفنون التطبيقية: وهي الفنون التي دخلت كعملية تجميلية لحوائج ترتبط بحياة الإنسان اليومية، مما يستعمله في شتى أموره، ومن لباس وفرش وأدوات طعام وشراب.. وصناديق لحفظ الحاجات.. وهذا النوع من الفنون يعد في مقدمة الفنون، إذ يتدخل في تجميل كل ما له صلة بالإنسان من متاع ووسائل، كما أنّ صلته بهذا النوع من الأشياء يؤمن له انتشاراً واسعاً بين الناس، واتصالاً وثيقاً بدنيا الناس، فلا يظل قاصراً على طبقة معينة أو فئة محدودة. ويعد هذا الاتجاه في الفن عملية تطبيقية لنظرة الإسلام الجمالية الشاملة. التي جاء بها المنهج الإسلامي ودعا إليها. وقد أوجد الإسلام لدى كلّ عامل – في أيّ مجال – الحافز الذي يجعله مشوقاً إلى الوصول إلى الجمال[1]. وقد استطاع المسلمون في وقت مبكر أن يقطعوا أشواطاً واسعة في هذا المضمار وفي كل الاتجاهات. مما جعلهم محل إعجاب وتقدير فقد "بقيت أوروبا اكثر من ألف سنة تنظر إلى الفن الإسلامي كأعجوبة.."[2]. إنّ ما حققه الإسلام منذ قرون، وهو ما جاءت مدرسة "الباوهاوس" تدعو إليه في هذا القرن واعتبرت دعوتها فتحاً عظيماً في ميدان الفن[3]. لقد استطاع الإسلام بمنهجه أن يجعل من كلِّ صانع فناناً في صنعته يبذل في تحسينها كلّ مهارته العملية مشفوعة بفكره وإبداعه، وبهذا كان الجمال لغة متداولة يتعامل بها كلّ الناس وليس طبقة واحدة، وأصبح كلّ صانع يشعر بلذة الإبداع الفني كما يشعر بها أي فنان مبدع. ومن هذا الشعور الرفيع كان ذلك العطاء العظيم الذي نتحدث عن بعض جوانبه.   الخزف: تعد التحف الخزفية الإسلامية في مقدمة تحف الفن الإسلامي، المتوفرة بين الأيدي في الوقت الحاضر، فهي كثيرة العدد، متنوعة المواضيع، لا يكاد يخلو منها بلد إسلامي. "والخزف طين مشوي بأشكال مصبوبة، أو مكونة مغطاة بدهان براق أزرق وأخضر، أو بدهان ذي بريق معدني بإضافة أملاح الحديد والأنتيموان إليه"[4]. وقد اهتم الفنان المسلم بهذا النوع من الصناعة، وأثبت براعته ونجاحه فيه إلى مدى بعيد. ويعلل بعضهم هذا النجاح بأنّه راجع إلى أنّ الخزف والفخار قد حققا فكرة الحضارة الإسلامية في جوانب متعددة، "فروح الإسلام السمحة لا تتمشى والترف واستعمال الخامات الغالية كالذهب والفضة، ولذلك أقبل الفنانون المسلمون والعرب منهم بخاصة على فن الخزف إقبالاً عظيماً، واستطاعوا أن ينتجوا خزفاً على مستوى عال من قيمته الفنية، ولم يكتفوا بذلك، بل وصلوا إلى أن يكون إنتاجهم الخزفي في الأواني والتحف المختلفة يصلح من حيث الفخامة والجمال لأن يكون بديلاً لأواني الذهب والفضة باستعمالهم للبريق المعدني الذي يعتبر صفة خاصة انفرد بها الخزف الإسلامي"[5]. ونحب أن نلفت النظر هنا إلى عامل آخر، وهو عامل "الالتزام" فمن المعروف أنّ الإسلام حرّم استعمال أواني الذهب والفضة، وكذلك ما طلي بهما، ولذا كان هذا الاتجاه تحقيقاً لهذا المعنى. وقد توسعت صناعة الخزف حتى استطاعت تلبية حاجات الناس في جوانب متعددة من لوازمهم ووسائلهم. فقد صنع البلاط الخزفي على أشكال متنوعة وبألوان متعددة ورسوم رائعة.. لكسوة الجدران، والمحاريب، وصنعت منه الفناجين والصحون والكؤوس والأباريق.. "واستخدم الخزافون المسلمون الكتابة بالخط الكوفي بمختلف أشكاله أو النسخي كوسيلة للربط بين العناصر الزخرفية الأخرى أو لملء شريط زخرفي بكلمات ذات صيغة دعائية لصاحب التحفة، أو حكمة عربية أو آية من القرآن الكريم أو حديث من أحاديث الرسول (ص)"[6]. وبلغت الدقة والمهارة ذروتها في عمل الرسوم والزخارف، والأمر الذي أثار "إعجاب ودهشة الناقدين الفنيين لصناعة الخزف الإسلامي الإتقان الزائد في استغلال تأثير النور والظل ونجاح الخزافين المسلمين في ذلك نجاحاً بزَّ جميع زملائهم من خارج العالم الإسلامي. وكان الخزافون المسلمون هم أوّل من اخترع البريق المعدني في زخرفة الخزف. ويعتقد أن ابتكاره تم في العراق.. ولكنه نضج وأصبح لونه ذهبياً منذ القرن الثالث الهجري"[7]. "ومن المراكز التي اشتهرت بصنع الخزف (قاشان) وإليها تنسب صناعة بلاط القاشاني"[8]. ومن مراكزه الرقة في سوريا، والفسطاط في مصر، ومالقة في الأندلس وسامراء والموصل والرصافة في العراق..   الزجاج: صناعة الزجاج قديمة، ولسوريا ومصر شهرة قديمة في هذه الصناعة وهناك قطع ترجع في تاريخها إلى القرن الثالث الهجري. وقد بلغت هذه الصناعة قمتها في البلدين في القرن السادس الهجري، وكان من مراكز النشاط فيها حلب ودمشق والفسطاط والإسكندرية. وأخذت الزخرفة – ومنها الحفر – مكانها بالنسبة للزجاج، شأنها في ذلك شأن بقية المصنوعات. واستعمل الطلاء بالمينا من حمراء وزرقاء وخضراء..   الزخرفة الخشبية: كانت مادة الخشب ميداناً لعمليات تجميلية متنوعة، سادت في كثير من الأقطار الإسلامية. وكان الحفر – الذي استعمل بأساليب متعددة – إحدى هذا الوسائل التجميلية، كما استعملت الحشوات للحصول على أشكال هندسية متنوعة في مقدمتها المضلعات المنبثقة من أشكال نجمية. وفي كثير من الأحيان كان الخش يطعم بالعاج وغيره.. إنّ كثرة استعمالات الخشب أتاحت للفنان مجالات واسعة لتطوير فنه وتحسينه، كما أنّ طبيعة الشكل المراد تزيينه ووظيفته التي يراد له تأديتها كان لهما أكبر الأثر في إبداع ذلك العطاء الفني. وقد استعملت الحشوات في الأبواب والمنابر، واستعمل الحفز والتفريغ في التحف، كما استعمل التطعيم في الصناديق وبعض الأبواب والكراسي..   النسيج والسجاد: النسيج صناعة قديمة، وحاجة عامة، فكان من البدهي أن تكثر مصانعه والعاملون فيه تلبية لتلك الحاجات. ولكن النهضة العمرانية العامة التي استطاع الإسلام أن يبعثها في كلِّ أرض وصل إليها نوره، شملت هذا الجانب الحيوي. وخصته بعناية لم يحظ بها غيره، فقد أنشأت بعض الدول المسلمة دوراً خاصة تشرف عليها الدولة، مهمتها إنتاج الملابس لبيت الخلافة، وقد أطلق على هذه، الدور اسم (دور الطراز) وقد أفرد ابن خلدون في مقدمته فصلاً تحت هذا العنوان بيَّن فيه مهمة هذه الدار وقرّب المسؤول عنها من الخليفة، كما بيَّن أنّ وجودها ارتبط بعهود الرفاهية.. وإذا كانت هذه الدور الخاصة تنتج اللباس الخاص بالخليفة وحاشيته وتنتج الخلع التي يتكرم بها على من يصلهم إحسانه، فإنّ هناك دوراً عامة يقوم عليها صناع وتجار مهمتها تلبية حاجات الناس عامة. ولا شك أنّ وجود الدور الخاصة قد دفع بهذه الصناعة نحو التقدم في تحسين إنتاجها وإضافة الزخارف والكتابات.. وكانت الدور العامة تحذو حذو الدور الخاصة فتنتج الجديد.. وقد لمعت أسماء بعض المدن في إنتاج أنواع معينة من المنتوجات فكان منها دمشق، التي اشتهرت بصنع نسيج حريري سميك أطلق عليه اسم (الدامسكو) أو (الدمقس) واشتهرت بغداد والموصل بصنع نسيج حريري ناعم سمي (الموصلين). وتعددت مدن صناعة النسيج بمصر، وفيها كانت تصنع كسوة الكعبة وتطرز. وقد بلغت هذه الصناعة في كثير من بلدان العالم الإسلامي مستوى رفيعاً جعلها غاية يسعى إليها ومنية تهفو النفوس إليها. "فقد روى ناصر خسرو الرحالة المشهور، أنّ أميراً فارسياً أرسل مندوبيه ومعهم (20.000) عشرون ألف دينار ليحصل على كسوة كاملة من النسيج السلطاني الذي يصنع في تنيس [بمصر]، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك، لأنّ هذا النسيج الفاخر كان خاصاً بالخليفة فقط"[9]. وكان لكلِّ بلد أسلوبها في الزخارف التي أدخلتها على نسيجها، ففي إيران انتشرت الزخرفة بالزهور والفروع النباتية، وكذلك في تركيا. كما أدخل الخط كعنصر تزييني في بعض ما أنتجته دمشق ومصر، وغالب هذه الكتابة عبارة عن جمل دعائية مثل: سعادة دائمة. ومن أقدم ما وصل إلينا من النسيج الإسلامي "قطعة من النسيج من موجودات المتحف الإسلامي بالقاهرة، مصنوعة من الكتان، وعليها نص تاريخي يقول "بسم الله، بركة من الله لعبد الله الأمين أمير المؤمنين أطال الله بقاه مما أمر بصنعه في طراز العامة بمصر على يد الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين"[10]." وأما صناعة السجاد فقد انتشرت في أماكن متعددة من العالم الإسلامي مثل تركيا وسوريا ومصر.. ولكن إيران ظلت البلد الذي لا يجارى في هذه الصناعة، التي وصلت إلى ذروتها في القرن العاشر الهجري. حيث أنتجت أنماطاً لا تضاهيها أنماط أخرى في جمالها وسحرها.. وقد كانت – ولا تزال – كلّ من أصفهان، وتبريز، وشيراز، وقاشان، وهمدان، أهم المدن في إنتاج هذه الصناعة.   فنون أخرى: نستطيع القول بأنّ صنعة الجمال سرت في كلِّ جوانب الحياة، صغيرها وكبيرها، تضفي عليها من رونقها وبهائها، فلم تقف عند المجالات السابقة بل انسابت إلى كل ما يقع تحت البصر أو في متناول اليد. وفي مقدمة هذه الأشياء.. الكتاب، الذي كان ميداناً، ليس لفن واحد، بل لفنون. بدأت فنون الكتاب بفن (الخط)، حيث إنّ العناية بالخط في كتابة المصاحف كانت قربة إلى الله تعالى. وتبع ذلك عناية أخرى تجميلية وهي تذهيب وتلوين الفواصل بين السور، وكذلك بين الآيات.. وقد تبعت كتب الأدب المصاحف في هذا الشأن، في تزيين صفحاتها الأولى والأخيرة، وإضافة الرسوم إلى موضوعاتها. وجاء التجليد كعملية ختامية لإعطاء الكتاب شكله النهائي، حيث يُسعى إلى الجمال والمتانة، وكان الجلد هو المادة المستعملة في التجليد ثمّ استعمل الورق المقوى وغيره.. وأتيح للزينة أن تأخذ مكانها على هذا الجلد، حيث يبذل الفنان قصارى جهده، في إخراجه بالشكل الذي يجذب البصر ويستهوي الإعجاب. وكما كانت كتابة القرآن العامل الأساسي في نشأة فن الخط، فإنّ القرآن كذلك كان الدافع لنشأة فنون الكتاب جميعاً، إذ بدأت به هذه الفنون تقرباً إلى الله تعالى وتعبيراً عن الحبِّ والإيمان.. ثمّ شملت الكتب الأخرى. ومن الفنون التي راجت، صناعة التحف المعدنية، من نحاسية وغيرها، وقد كانت تزين بالحفر عليها.. وقد ازدهرت هذه الصناعة في مصر وسوريا وكذلك الموصل. وهناك صناعة التحف العاجية أو التطعيم بالعاج.. بعد هذه الجولة القصيرة مع الفنون التطبيقية، نقول: استطاع الفنان المسلم الوصول بالفنون التطبيقية إلى المستوى الذي بلغ فيه الغاية، حتى أصبحت الزخارف في الصناعة جزءاً منها، وكأنها داخلة في بنيتها، وما ذاك إلا نتيجة للدقة الفائقة التي توصل إليها هذا الفنان. وندع الكلام عن ذلك لـ (اي، اج، كريستس): "اتخذ الفن الإسلامي وهو في سبيل تقدمه.. شكلاً متمايز المعالم، وطابعاً خاصاً واضحاً، حتى ليمكن عده طبيعياً، يمرُّ النظر به مر الكرام غير متشكك، كان كلّ شيء – سواء أعد للاستعمال الاعتيادي، أو عمل لمناسبة خاصة – يكسى الزخارف النابضة بالحياة بإسراف عظيم الدقة، وبأشكال تبدو وكأنها طبيعية، كالرسوم التي تخلعها الطبيعة على الأحياء أكثر مما تبدو زخارف اصطناعية.. وكانت عناصرها المكوّنة مصوغة بدرجة من الدقة والنظام حتى ليكاد يستولي علينا الوهم بأنّ تحت هذا المنظر المتناسق حيوية دافقة لا يدرك كنهها. هذا الإسراف الزخرفي لم يكن تعلة لملء الفراغ، أو إخفاء أشكال ظاهرة المدلول، لكنه جزء رئيسي من أجزاء الصناعة الدقيقة التي لا يمكن أن نعد العمل كاملاً بدونها، فاطراد النسق الإيقاعي في الزخرف للعين الشرقية، إنما هو ضرورة إيناسية، كضرورة اللحن للأذن الغربية. إنّ أزهد دراسة للفن الإسلامي ستبين بأنّ الأشكال الزخرفية يجب أن توضع في صف أعلى الفنون الصغيرة التي تفتقت عنها العبقرية الإسلامية"[11].   الهوامش:
[1]- انظر في هذا الموضوع كتاب "التربية الجمالية"، للمؤلف. [2]- "تراث الإسلام" بإشراف "توماس ارنولد" ترجمة جرجيس فتح الله 2/478. [3]- قال الدكتور نعيم عطية "ولهذا كان فضل مدرسة مثل الباوهاوس في دفع الفن إلى الأمام فضلاً كبيراً وجديراً بكل احترام واحتفاء، فقد سعت إلى تنمية الروابط بين الفنون الجميلة والفنون النفعية، وقضت على الفكرة القديمة البائدة بأنّ همَّ الفنان الأوّل هو الجمال لذاته. وجعلت سعي الفنان الأوّل هو أن يزود الحياة اليومية بالأشياء الجميلة، فالكرسي الذي تراعى في تصميمه القيم الجمالية هو عمل فني لا يقل أهمية عن اللوحة، وكانت الخطوة التالية بطبيعة الحال، تطويع القيم الجمالية للإنتاج اليومي". عن كتاب (الفن الحديث محاولة للفهم)، ص82، سلسلة اقرأ، العدد 473. [4]- جمالية الفن العربي، د. عفيف بهنسي، ص197. [5]- الفن الإسلامي، أبو صالح الألفي، ص260. [6]- تاريخ الفن عند العرب والمسلمين، أنور الرفاعي، ص156-157. [7]- تاريخ الفن عند العرب والمسلمين، أنور الرفاعي، ص156-157. [8]- نفس المصدر. [9]- الفن الإسلامي، أبو صالح الألفي، ص291. [10]- مجلة الفيصل، العدد 39، ص117.

[11]- كتاب (تراث الإسلام) بإشراف (توماس ارنولد)، ترجمة جرجيس فتح الله. المطبعة العصرية بالموصل 1954، ج2، ص443.

    المصدر: كتاب الفن الإسلامي.. التزام وابتداع

ارسال التعليق

Top