أسرة البلاغ
منذ بداية الانقلاب الصناعي الذي حدث في أوروبا في القرن التاسع عشر والعالم يسير بخطا واسعة بل ويقفز قفزات خطرة في ميادين العلم والكشوف والاختراعات.. وكذلك في مجالات الصناعة والتجارة.. وأخذت الكشوف والاختراعات العلمية في اندفاعها العنيف السريع الذي لم يتوقف ولن يتوقف حتى أصبح العالم اليوم يعيش عصراً من الازدهار الصناعي والعلمي لم يسبق لأي عصر من العصور السالفة أو لأية أمة من أمم الحضارات الشامخة أن شهدت نظيره.
وانّه لعصر حقق فيه الإنسان باختراعاته ما لم يكن يحلم به أو يتخيله أو تصوره له أساطير الجن وشطحات آلهة الوثنية.
لقد حقق الإنسان باختراعاته وكشوفه أساليب وآلات وأدوات زادت من رخائه ورفاهيته بل ويستمتع بالدنيا ويعمرها أكثر مما عمرها واستمتع بها من سبقوه.. لقد أثارت فيه – أي الكشوف العلمية والاختراعات الحديثة – الرغبة الحادة والأمل المتحرر من كلّ قيد في أن يشبع رغباته إلى أقصى ما يستطيع – ولو هلك في سبيلها – وأن يتطلع إلى المستقبل إلى أقصى ما تثيره رغباته من شطحات وخيالات.
فهل كان لكلِّ ذلك أثره في حياة الإنسان فيكون عصراً من ازدهار الأمن والطمأنينة والسلام والرخاء لشعوب العالمين التي طالما شقيت بالحروب أو أشقاها زعماؤها وقادتها بالحروب؟
لقد عاش العالم حربين عالميتين (1914 – 1939).. كانتا وبالاً عليه وعلى ما شادته الشعوب وأنشأته من حضارات لها أفكارها وثقافاتها وأخلاقياتها.. ولها أمانيها في اليوم والغد والحياة بأسرها. كانتا وبالاً عليه وإن كانت الثانية أشدهما هولاً وأخطرهما نذيراً للبشرية ومستقبلها بسبب الأسلحة الحديثة التي بلغ رعب تطورها في القنبلة الذرية تلك التي وضعت خاتمة الحرب العالمية الثانية وحسمت الموقف نهائياً.
وإذا كانت النزعة الاستعمارية التي خلقتها وسعَّرت ضراوتها الكشوف الجغرافية العلمية والانقلاب الصناعي، من الأسباب الرئيسية للحربين العالميتين. إلا أنّ هذه النزعة في ذاتها كانت محنة العالم كلّه: للمستعمرين وشعوبهم.. وللشعوب التي غلبها الاستعمار على أمرِها ورصد مقوماتها الاقتصادية وثرواتها الطبيعية لخدمة أهدافه التي كان يُؤامر دائماً على تنفيذها بشتى سبل التآمر وأنواع التخريب.
كانت محنة للشعوب الأوروبية ذاتها لأنّ نزعة حكوماتها إلى المغامرة الاستعمارية وإن حققت ثراء وقوة ورخاء ونهضة علمية، إلا أنّه بسبب التنافس الانتحاري بينها وجدت الشعوب نفسها وقد جند شبابها واقتصادها وكل مقومات حضارتها أو مدنيتها لخوض الحربين العالميتين.
ولئن كانت للحكومات حجتها في دفع شعوبها إلى خوض الحرب العالمية الثانية بسبب العقيدة العنصرية الاستعمارية التي دبرها النازي وأعدها لغزو العالم كلّه وإخضاعه لسيطرته أو دكتاتوريته الرهيبة إلا أنّ ذلك لا يمنعنا من أن نقرر أنّ النزعة الاستعمارية التي سرت عدواها وتفشت بلواها بين الدول الأوروبية كانت علة شقاء شعوبها لخوضها غمار معاركها الشرسة كما كانت علة شقائها من جانب لا يقل عن المعارك العسكرية شراسة وخطراً.. ذلك أنّ التماسك الاجتماعي الذي كان يتميز به المجتمع العربي بدأ يهتز ويترنح. ومن ثمّ كان أن حدث تفسخ وتمزق بين عناصر البناء بسبب ما شاع فيه من تدهور وانحلال بدرجة أصبحت تهدده بالضياع.
وعلى ذلك يمكننا أن نقول: انّه بسبب الحرب العالمية الثانية وما جرى فيها وما انتهت إليه بدأت الشعوب بأجيالها تفقد الثقة في ميراثها من القيم الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية، وتفقد كذلك ثقتها في الدين من ناحية أهدافه ووسائله.. يضاف إلى هذا محنة النظم السياسية الأوروبية العتيدة فيما كان لها من حقّ إلهي متوارث كانت له أصداؤه وتقاليده الراسخة في البناء الاجتماعي للشعوب الأوروبية وفيما أصيبت به تلك النظم جراء الحروب التي شنتها الدول على بعضها البعض مما غيّر كثيراً من الخريطة السياسية لأوروبا. ومن قبل هذا بسبب الهزة العنيفة التي أصابتها جميعاً من الثورة الفرنسية. تلك الهزة التي كانت لها أصداؤها العميقة في نفوس الحاكمين والمحكومين على حد سواء..
كان لذلك كلّه انطباعاته وآثاره في نفوس المجتمعات الأوروبية على اختلاف حظوظها من الثقافة والفكر والمرتبة الاجتماعية والتقاليد التي تتمسك بها وتحترمها، آثاره من حيث موقف هذه المجتمعات من التقاليد الاجتماعية والقيم الأخلاقية التي ارتفعت في ضميرها وسلوكها إلى حد التقديس.
وكذلك من حيث نظرتها إلى حاضرها الذي تقاسيه، ونظرتها إلى المستقبل الذي يحيرها ويخيفها في آن واحد. وإن كانت تتمنى أن يكون خيراً من ماضيها.
وفي العدوة الأخرى كان الشرق الماجد العتيد يعاني من الاستعمار أشد ضروب القهر والاستغلال والاستعباد.. تلك التي مارستها الدول الغربية تظاهرها جيوشها وتمهد لها بالمؤامرات والدعاوى الملفقة.. كانت الدول الاستعمارية تضرب بتلك الأسلحة المتنوعة شعوب الشرق لتتمكن من إحكام خططها في استنزاف خيراتها وثرواتها واستنزاف قواها بما يوهن إرادتها ويحطم قدرتها فلا يبقى لها أمل في التخلص من الأغلال التي قيدتها.
ومن ثمّ فإنّ الأُمم الشرقية التي وطأها الاستعمار الغربي كانت تعاني محنة ذات ثلاث شعب:
1- محنة احتلال أرضها.
2- محنة الوصايا على مستقبلها الحضاري.
3- محنة الفتنة الأخلاقية التي أوقعها فيها الغرب بما نقله إليها إما مباشرة أو غير مباشرة من الأساليب المعاشية ومن الأساليب الفكرية والثقافية التي تخالف ثقافة تلك الشعوب وفكرها مخالفة أخلاقية.
فهي من ثمّ بذور إفساد وتضليل وانحلال وإن غلفت في أردية من المنطق الذي إن لم يغر بالاقناع والأخذ بما يشير فلا أقل من أنّه يوقع المستمعين إليه والمشاهدين له في بلية الشك وإساءة الظن بتراثهم الأخلاقي من حيث قيمته وجدواه في الحياة.. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية ظهرت الانتفاضات التحررية بين الشعوب الشرقية فقامت بثوراتها لتتحرر من السيطرة الاستعمارية وتستقل بإرادتها وحريتها في وطنها وعلى أرضها. فتصبح مقاليده ومصيره بيدها.. ولم يكن من السهل على تلك الشعوب الثائرة التي نجحت ثوراتها أن تحتفظ باستقلالها السياسي والاقتصادي خالصاً من تدخل الدول الاستعمارية.. ولكنها اصطدمت بابتلاء جديد، هو ابتلاء مقاومة التآمر الاستعماري الذي أخذ يتزيا بأزياء سياسية جديدة ويختلق من المبررات ما يمكنه من أن يعيد سيطرته أو تدخله في شؤون هذا الشعب أو ذاك ولو من بعيد..
فإن لم يستطع فالمؤامرات كفيلة ببث بذور الفتنة والشقاق بين قادة الأُمّة وزعمائها، وبين طبقات الشعب وطوائفه مما قد يمكنه من أن يعيد الأُمّة إلى دائرة فلكه الاستعماري..
وفي خضم تلك الصراعات الدولية والعالمية من ثورات شعبية وأفكار تحررية، ومذاهب سياسية وعقائدية جديدة.. وما واكب ذلك من تفجر العلم التطبيقي بفيض من الاختراعات والانشاءات الصناعية في كافة مجالات الظواهر الحضارية أصبح العالم كلّه اليوم يعيش حرباً جديدة – وإن لم تعلن فتكون عالمية – هي حرب المذاهب الاجتماعية، أو حرب الأيديولوجيات – والجديد في هذه الحرب أنها تصطنع من الفكر الإنساني والقيم الإنسانية، كما تصطنع من التآمر وبث فتن الصراعات الاجتماعية وذلك بتأليب طبقة على طبقة أو طائفة على طائفة أو زعامة على زعامة، أسلحة استعمارية حديثة تبسط لها سيطرتها على شعب أو مجموعة من الشعوب بدعوى المناصرة السياسية أو المناصرة الاقتصادية أو المحافظة على المصالح الاستراتيجية.. أن تستعين في حربها بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً من أجل مناصرة رجالها وشد أزرهم ثمّ تحقيق أهدافها من خلالهم عندما تضعهم في قمة السلطة المتحكمة.
وكانت النتيجة لكلّ تلك الصراعات أن نشبت في نفس الإنسان – وفي البناء الاجتماعي بالضرورة – فتنة كبرى إذ فقدت المبادئ الأخلاقية سواء أكانت دينية أم اجتماعية. وهي التي تكفل الاستقرار النفسي للأفراد والجماعات ثقلها وقيمتها في الضمير.. ومن هنا فقد أصبح الإنسان يعتقد أنّ من حقه أن يترك نفسه على سجيتها وحريتها فيطلق لنزعاته الحرية في أن تفعل ما تشاء وتشتهي ما تشاء.. ولقد وقر في نفسه أنّه بسلوكه هذا لا يعبر عن هوى طارىء أو نزعة جامحة، ولكنه – وهنا موطن الخطر – يعبر بعمله وفكره وتفضيله عن ثورة أخلاقية أصيلة من حقها الذي لا يستطيع أن يماري فيه أحد، أن تثبت وجودها وأن تؤكد حقها في الحياة بالوسيلة التي تجد أنها أكثر تعبيراً وأسرع تحقيقاً لما تهدف إليه وتتوخاه.
ومما سبق يمكننا أن نلخص العلل التي كانت السبب في إضرام وتسعير الثورة على القيم الأخلاقية والاجتماعية وزيادة عنفها على الوجه الآتي:
أوّلاً: الازدهار الصناعي متمثلاً في مخترعات الترف والمتعة التي نوعت في أساليب فنون التعبير عن نزعات الإنسان ونزواته وعن قلقه وحيرته.
ثانياً: التخطيط الصهيوني الشيوعي الاستعماري (الصليبي)، لإفساد الشباب جسمياً ونفسياً وعقائدياً وفكرياً بواجهات عقائدية تحررية جند لها كلّ الوسائل التعبيرية من فنون وثقافات.
ثالثاً: إخفاق السياسة التربوية في تنشئة جيل مقتنع بالقيم الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية. ومن ثمّ فقد أخفقت هذه في مراكبة ومؤازرة الازدهار الحضاري الحديث وأخفقت بالتالي في تلبية تطلعات الشباب الثائر النافر..
رابعاً: عدم التزام قادة الأُمم وزعمائها بتلك القيم، ولعل الحروب المحلية التي أصبحت تشن أو تتفجر في بقاع متفرقات من الأرض وما يمهد لها به أو ما يصاحبها من دعايات المذاهب الاجتماعية والسياسية التي تزيف الحقائق على الشعوب والعالم كلّه.. لعلها أوضح دليل وأكبر دليل على ذلك..
وبين صخب الازدهار الصناعي وما أبدعه من وسائل الترف وبواعث المتعة...
ووسط ضجيج الحروب المتفجرة وقصفها القاتم الرعيب...
ومن خلال الأصوات الثائرة على الخارجين على التقاليد والآداب المحمودة...
وكذلك من خلال أصوات أولئك المحتجين الثائرين على البالي العتيق من القيم الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية..
من خلال ذلك الرهج المائر المختلط حتى أنّ المرء أصبح وهو لا يستطيع أن يميز بين الصواب والخطأ، وبين الهدى والضلال...
من خلال ذلك كلّه تخرج دلالة واحدة أن تساؤل واحد.. وهو:
لماذا الاحتجاج؟!
لماذا الاحتجاج على الأخذ بأسباب الحياة الحديثة وما فيها من متعة ونعيم؟
لماذا الاحتجاج على القيم الحديثة، والسلوك الحديث الذي نجسده أو يتجسد لنا في الفنون.. التي هي اليوم حير تعبير عما في صدورنا من آمال وأحلام، والتي هي أنضر تعبير وأجمله وأعمقه عن حريتنا وإرادتنا ودوافعنا الحرة؟!
فإن قيل لهم: نحن لا نعيب عليكم أخذكم بفنون المتعة والتسلية التي تعمق الحياة في النفوس والتي تعين الإنسان على الحياة.. ليس احتجاجنا على الفنون في ذاتها أو عليكم في ذاتكم، ولكن على ما تقدمه الفنون..
إنّ ما تقدمه هو في جملته حرام، حرام، لا يخدمكم لو أحسنتم النظر وأصبتم في التقدير، ولا يخدم مجتمعاتكم ولا الناس أجمعين لو نظرتم نظرة أشمل وأوسع..
وربما كان جوابهم: فماذا نفعل وهذا هو ما يقدم لنا ويعرض علينا؟ هلا خاطبتم وعاتبتم وزجرتم أولئك الذين يؤلفون ويقدمون؟
هلا بصرتموهم بما هو حلال وما هو حرام.
هلا وضعتم لهم المعايير أو الموازين التي يضبطون بها فنونهم، ويراقبونها مراقبة ذاتية عند الإبداع والإنشاء، ومراقبة موضوعية عند العرض والتقديم؟
إنّ التثريب علينا في كلّ شيء ليس من الحكمة في شيء..
وما كان المسلمون بعيدين عن هذه الفتنة.. بل كانت أوطانهم هي مواطن الابتلاء والمحن التي قصدها الاستعماري بجيوشه وثقافته. وقصدتها الصهيونية والشيوعية والصليبية بتآمرها ومكائدها لإضعاف قوة المسلمين وإزالة وجودهم.. ولذلك فإننا نجد الأصداء التي ذكرناها متمثلة في المجتمع الإسلامي تتجاوب بها أركانه من أقصاه إلى أقصاه.. وهي الاجتراء على القيم الأخلاقية، وفقدان الثقة فيها، والإقبال في نهم شهواني على الفنون لا سيما تلك التي تستثير فيهم نزعاتهم الفطرية.. وتكون بما تعرضه خير تعبير عن نفوس ثائرة وخائرة معاً..
إنّهم يثورون في تهجم واجتراء على المحتجين عليهم باسم الدين أو المبادئ الأخلاقية وكأنّهم في احتجاجهم واجترائهم يقولون: اقنعونا فنياً بما يبصرنا بالحلال والحرام.. قدموا لنا الفنون وهي ملتزمة بمعايير الحلال والحرام.. راقبوا فنونكم قبل أن تراقبونا.. وزنوا أعمالكم قبل أن تزنوها علينا بشرط ألا تميتوا فينا فطرة الحياة.. ومن هنا فإننا نخطىء غاية الخطأ إذا اصطنعنا من مبادئ الإسلام أسلحة دفاعية فحسب ندفع بها عنه تهمة إنكاره للفنون وتعطيلها أو مهاجمته لها.. لكن ينبغي أن يكون عملنا إبداع وخلق "فن إسلامي" تتجسد فيه حيوية الإسلام من حيث محتواه ومضمونه لا أن يكون مجرد واجهة تزيينية كتلك التي تميز العمائر الإسلامية. ولذلك فإنّه لأساس جوهري لإبداع فن إسلامي أن يقوم العمل فيه على مراعاة مبدأين ضروريين، وهما:
أوّلاً: أنّ الإسلام رسالة إنسانية عالمية فلابدّ من أن تتسامى فنونه إلى المستوى العالمي لا سيما وأنّ المحنة عالمية، يقول سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) (آل عمران/ 110).
ثانياً: أنّ الأمّة الإسلامية هي أمة الريادة العقائدية والفكرية والإنسانية للبشرية كلّها.. وإنها لريادة لا تعرف الجموح أو التطرف الغرائزي.. ولا تعرف التعالي التعصبي العقيم..
ولكنها قصد السبيل..
فعلى الفنون الإسلامية إذن أن ترتفع إلى مستوى الريادة المعتدلة في تصوير القيم الإنسانية، وتصوير أشواق الفطرة وآمال الإنسان وآلامه؛ يقول سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...) (البقرة/ 143).
وبناء على هذين المبدأين فإنّه يجب لإنشاء فن إسلامي أن يكون محققا وملتزماً في إبداعه بتبيان الموازين الإسلامية التي تحكم الرقابة الذاتية في حالة الإبداع الفني، والرقابة الموضوعية في حالة صناعة الأثر الفني وإخراجه.
المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد 36 لسنة 1992م
ارسال التعليق