إنّ علم النفس يغور في أعماق بني البشر، ويتدخل في كلّ شأن من شؤونهم، ولا نستطيع أن نحدد، ولا مجالاً واحداً، في حياة الناس، لا يستوعبه علم النفس فهو يغطي جميع أوجه النشاط البشري، والممارسات الحياتية..
والغضب، نوع من أنواع النشاط النفسي، ولون من ألوان الانفعال لدى الإنسان وغريزة من الغرائز التي أودعها الله في طبيعة البشر، وهو (استجابة) في قبالة (مثير). فأنت حينما يُساء إليك، لابدّ وأن تكون لك ردّة فعل، فالإساءة مثير مهما كان شكلها والرد عليها استجابة مهما كان نوعه..
ويمكن تصور الاستجابة على ثلاث صور:
1- إساءة بإساءة، وهو الشكل السائد في الطبيعة البشرية، الذي يتصف به أكثر الناس، وعليه عامّتهم.
2- سكوت على إساءة، وهو كظم الغيظ، ومحاربة الطبع والهوى، والتغلب على النفس.
3- إحسان على إساءة، وهو خلق عظيم، لا يتحلى به إلّا ذوو النفوس الكبيرة، وأصحاب الهِمَمِ العالية، والطباع الشريفة..
والغضب: حالة نفسية، وحين تدخل ضمن عملية (الاستجابة والمثير) تختلف هذه الاستجابة من شخص لآخر، ويتفاوت سلوكٌ عن آخر، ونفسية عن أخرى ولكن يبقى الغضب (حالة استنفار للنفس) ربما تؤدي إلى ردود فعلٍ لا تُحمَد عقباها من هنا، شبّه أمير المؤمنين عليّ (ع)، الحدّة والغضب بالجنون، فقال:
"الحدّة ضربٌ من الجنون، لأنّ صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم".
وعن الرسول (ص): "الغضب يفسِدُ الإيمان، كما يفسدُ الخلُّ العَسَلَ".
وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع): "الغضب مفتاح كلّ شرٍّ".
وقيل: مَن أطاع الغضب، أضاع الأدب...
كلّ ذلك لأنّ النفس تتحول عن طورها الطبيعي إلى الهيجان والانفعال، ومن ركودها إلى الغليان والثورة، والتوتر الشديد، وحب التخريب، وشهوة الانتقام والهدم، والإعراض عن الوقار والرزانة، إلى سيكولوجية الاعتداء والضرب، وإطلاق التهديدات، وما إلى ذلك من الردود العقابية.. فهي حالة جنونية!!.
ولكن هذه الثورة النفسية سرعان ما يخمد لهيبها، وينطفىء نارها، ويلحق الإنسان بعد ذلك ندمٌ على ما بَدَرَ منه في تلك الحالة، وهو من فضل اللهِ على الناس، أن جعلهم بهذه الصورة، بحيث لا تدوم الآثار النفسية للغضب معهم طويلاً.
ولو لم يكن المرء كذلك، أي لو لم يكن يندم على السلوك الانفعالي في حال الغضب، لكان مجنوناً بالفعل، يحتاج إلى ممارسة العلاج النفسي للتخلص من هذا المرض، كما صرّح بذلك الإمام (ع).
فربما كان الغضب في محلّه مناسباً، كالغضب لأجل الله، وذلك الذي ينطلق من حمية الدين، ومن قلوب المؤمنين، وربما لم يكن في محلّه، فهو إفراط في حالة الانفعال الشديد، ناتج عن إلقاءات الشيطان الرجيم وإيحاءاته..
بعبارة أخرى: إنّ هذه الحركة النفسية، ربما تتسم بالإفراط، أو بالتفريط أو بالاعتدال، فالإفراط فيها، أن تخرج من إطار العقل والعرف والشرع، ومن طاعة الله عزّ وجلّ... فتعمي الفكر والبصيرة.. وتجرّ إلى المهالك والمساوئ، فتكون استجابة عنيفة، مبالغ فيها، خارجة عن الحدّ المطلوب.. وفي هذه الحالة يحتاج المرء إلى كظم الغيظ، وإجهاد النفس في سبيل عدم الاستجابة والانفعال بالغضب.
والتفريط فيها: أن تتسم الاستجابة بالبرود واللامبالاة، وعدم الردّن في حال يقتضي منه الرد، ويتحتم عليه شرعاً وعقلاً أن يستجيب للمثير، ويغضب.
والاعتدال فيها: هو الحدّ الوسط المعقول، أن يغضب في موطن الغضب، كما لو كان غضبه لله، أو بسبب ظلم ظالم واعتداء معتدٍ غاشم.. أو غضب من سوء تصرف..
والمقياس في ذلك كلّه، هو العقل والشرع، فيكون تابعاً لهما، ولا ينقاد للمشاعر والعواطف.
وعن الاعتدال في الغضب، قيل: من استُغضِبَ ولم يغضب فهو حمار، ووصف الله سبحانه خيار الصحابة بالحمية والشدّة على الكافرين، فقال عزّ وجلّ: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار...) (الفتح/ 29).
وخاطب نبيه (ص)، بقوله: ( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة/ 73).
ويشير القرآن الكريم إلى نوع من الغضب، في سورة النمل، حيث يحكي عن سليمان النبيّ، على نبينا وآله وعليه الصلاة والسّلام، حين تفقّد الطير فوق رأسه، فلم يجد الهدهد في محله، فاعتبر ذلك عصياناً وتمرداً على أمر الله تعالى من هذا الطائر، بتركه التظليل على رأسه، وغضب لذلك.
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (النمل/ 20-21).
إنّ هذا التهديد الذي أطلقه سليمان للهدهد، يَنُمُّ عن غضبٍ شديد.. ولم يكن هذا الغضب اعتباطاً، ولم يكن لأجل نفسه، بل لما اعتبره سليمان، خروجاً من الطائر على أمر الله تعالى، ومخالفة له عزّ وجلّ.. حتى إذا انكشفت له الحقيقة، وظهر له الواقع، زال غضبه، وانتهت المشكلة.
إنّ الوالد قد يغضب على أولاده لسوء تصرفهم، والرجل يغضب من أهله لمخالفتهم وعصيانهم لأوامر الله تعالى، وأي فرد من الناس قد يغضب لانتهاك حرمةٍ من حرمات الله، أو بسبب ظلم ظالم.. أو جور حاكم.. كلّ ذلك لله، ولابدّ منه، وليس هذا النوع من الغضب المنهي عنه، بل هو من النوع الذي يحبّذه الدين، ويدعو إليه الشرع.
أما لو كان الغضب ينطلق من منطلق الكبر والتعالي، أو كان بسبب عصبية جاهلية أو لمصلحة شخصية، كغضب السلطان على بعض الرعية المظلومة، أو كغضب الزوج على الزوجة لتهاونها في أداء بعض الأعمال المنزلية، أو كغضب الرجل العالم الفاضل العاقل على جهلة الناس بسبب سلوك غير مؤدب، أو تصرف غير لائق... هذه الصور وأمثالها يحث الشرع على مواجهتها بالصبر وكظم الغيظ، وإخماد ثورة النفس، ووضع السدود أمام سورة الغضب، بالطرق الإسلامية النفسية المذكورة في تعاليم الشرع الحنيف.
إنّ المرء حين يعتريه الغضب، يكون في حالة خاصة، حالة هيجان النفس وجنونها وإرادة العقاب، ويلزمه أن يغير طور النفس في هذه الحالة بحركة معينة، أو قول معين ليخرج من هذه الثورة التي هو فيها، فلو قام بعمل مما ذكر في الأحاديث والروايات لتغيرت هذه النفسية، ولأخذ بكظم الغيظ، ولزالت هذه الفورة.
وصف الله تعالى المؤمنين بكظم الغيظ في قوله تعالى:
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134).
وأصل الكظم: شدّ راس القربة على مَلئها، تقول: كظمت القربة إذا ملأتها ثمّ شددت رأسها، وفلان كظيم، ومكظوم، إذا كان ممتلئاً غضباً ولم ينتقم لنفسه، والكظامة: القناة التي تجري تحت الأرض، سميت بذلك لامتلائها تحت الأرض، ويُقال: أخذ بكظمه، أي مجرى نَفَسِهِ، لأنّه موضع الامتلاء بالنَفَس.
يصف الباري عزّ وجلّ المؤمنين بصفات كثيرة. منها كظم الغيظ، أي: المتجرعين للغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، فلا ينتقمون ممن يضرّهم أو يؤذيهم، بل يصبرون على ذلك بتضييق الخناق على سورة الغضب.
ويذكر لهم في هذه الآية صفة أُخرى، لا تبتعد كثيراً عن موضوع حديثنا، وهي: العفو عن الناس (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي الصافحين عن الناس، المتجاوزين عما يجوز العفو والتجاوز عنه، مما لا يؤدي إلى الإحلال بحقّ الله تعالى.
ومضى القول أنّ كظم الغيظ، أو ردّ الغضب، والسكوت عليه، إن كان لله تعالى وفي موقعه ومحلّه، فهو من الأعمال الصالحة التي جاءت الأخبار فيه، منها ما رواه أبو أُمامة عن رسول الله (ص): "مَن كظم غيظه وهو قادر على إنقاذه ملأه الله يوم القيامة رضا".
وفي خبر آخر: "ملأه الله يوم القيامة أمناً وإيماناً".
وقال أيضاً: "كاظم الغيظ كضارب السيف في سبيل الله في وجه عدوه، وملأ الله قلبه رضا".
وقال (ص): "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
ووردت أخبار عن العافين عن الناس فقال عنهم الرسول (ص):
"... إنّ هؤلاء من أُمّتي قليل إلّا مَن عصم الله...".
وقال (ص) أيضاً: "ما عفا رجل عن مظلمةٍ قط إلّا زاده الله بها عزّاً".
ويقول عليّ (ع): "متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام، فيقال لي: ألا صبرت، أم حين أقدر عليه، فيقال لي: لو عفوت".
وروي عن لقمان الحكيم أنّه قال: "ثلاث مَن كن فيه فقد استكمل الإيمان: مَن إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحقّ، وإذا قَدِرَ لم يتناول ما ليس له".
وعن عيسى (ع): "يباعدك من غضب الله أن لا تغضب".
وقال رجل لرسول الله (ص): أي شيء أشدّ؟ قال: "غضب الله، قال: فما يباعدني من غضب الله؟ قال: أن لا تغضب".
ومن شعر أبي العتاهية:
ولم أرَ في الأعداء حين اختَبَرتُهم عدواً لعقلِ المرءِ أعدى من الغضب
وعن عليّ (ع): "تجرع الغيظ فإني لم أرَ جرعة أحلى منها عاقبةً، ولا ألَذّ مغبَّة".
كلّ هذا التحذير من الغضب، لأنّ نتائجه وثماره مجموعة من الأعمال السيئة، والخلال القبيحة التي لا تحمد عقباها، كالحقد والحسد، وإضمار السوء. وإفشاء أسرار الآخرين، وتوجيه السباب والشتائم، والتلفظ بالأقوال الفاحشة، والكلام البذيء...
ولا يَصحُ القول (إنّ الغضب حالة نفسية متأصلة في نفوس بعض الناس، لأنّهم ربّما توارثوها من آبائهم وأهليهم، ولا يمكن معالجة هذا المرض).
أجل، لا يصح هذا القول، إذ لو لم يكن بالمقدور معالجة هذه الحالة المرضية، لما وردت كلّ هذه النصوص من الأخبار والروايات، والآيات القرآنية، في الحث على إخماد الغضب وكظم الغيظ، والتصبر في مواقف الحدّة، وعدم إظهارها.
إنّ الله سبحانه وتعالى، وهب الإنسان قدرةً يستطيع بها أن يمتلك زمام نفسِهِ فيوقفها عند حدّها، ويَزُمّها عن كثير من الانفعالات النفسية، ومنها الغضب، ويروضها على تقوى الله.
وقال الصادق (ع): "إنّ الرجل لَيَغضَبُ، فما يرضى أبداً حتى يدخلَ النار".
وقال أيضاً: "الغضب ممحقةٌ لقلب الحكيم".
وقال (ع) أيضاً: "مَن لم يملك غضبهُ لم يملك نفسهُ".
ذكر جُلّ أرباب المقاتل: إنّ الحسين (ع)، حين التقى بالحُرِّ بن يزيد الرياحي، قبل وصوله إلى كربلاء، جَعجَعَ الحُرُّ به وببنيّاتِهِ، وقطع عليه الطريق، ومنعه من التوجه إلى أيّ مكان، وكان مع الحرّ، من عسكر ابن زياد ما يقرب من ألف مقاتل، وكان الهدف أساساً من إرساله منع الحسين من ورود الكوفة، ومحاصرته وتسليمه إلى ابن زياد، وكان ذلك فقد قطع الطريق على الحسين، وحاول تسييره إلى ابن زياد.. ودارت بينهما محاورات، انتهت بأن يلتزم الحسين (ع) طريقاً لا يُعيده إلى المدينة، ولا يوجهه إلى الكوفة، فسار حتى وصل إلى كربلاء.
والموقف البارز – هنا – أنّ الحسين (ع)، رغم ما ناله من الحرّ من أذى وظلم، ولكنه حين وجدَه وأصحابه عطاشى، وفي أمس الحاجة إلى الماء، فقد أضَرَّ بهم العطش حتى أنهكهم جميعاً، وقد انقطعوا في تلك الفلاة المقفرة.. التفت (ع) إلى أهله وأصحابه وقال لهم: "اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفاً"!!
أمر بسقيهم وسقي خيولهم، وإرواء ظمأهم.. وقابل تلك الإساءة بإحسان جميل يسترعي انتباه الأجيال ويبقى التاريخ ذاكراً له ذلك عبر العصور والأزمان.
المصدر: كتاب رحلة إلى أعماق النفس
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق