في عالم اليوم، أصبح للرأي العام هوية خاصة ومعنى جديد، ينشأ عن الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمع الذي يمثله الرأي العام، الأمر الذي دفع بالمحققين والمفكرين إلى تناول هذا الموضوع ودراسة أبعاده المختلفة وطرح النظريات والرؤى المتنوعة بشأنه.
وعلى الرغم من كون ظاهرة (الرأي العام) ظاهرة جديدة في عالم اليوم، إلا انّ الأضواء سلطت عليها باعتبارها علماً مستقلاً في إطار العلوم الاجتماعية – السياسية، وذات جذور تاريخية عميقة، جرت الإشارة إليها في الدراسات والأبحاث التي تناولت الديمقراطية البدائية لدى اليونانيين والرومان. وأما اليوم فقد تدخلت عوامل ومؤثرات جديدة في هذه الظاهرة وطرحت تعاريف حديثة عنها، وفي طليعة هذه العوامل وأهمها من حيث التأثير عليها، انتشار وسائل الاعلام المختلفة على نطاق واسع جدّاً، وسهولة الاتصالات وتنوع أجهزتها التي جعلت العالم كله بمثابة قرية واحدة من حيث سرعة الاتصالات وانتشار الأخبار، وارتفاع مستوى التعليم في المجتمع مع ازدياد عدد المتعلمين والمثقفين وتنوع الأساليب التي تبعث الحياة والحركة في المجتمع وفي الأبعاد والمجالات المختلفة. هذه العناصر والعوامل تمنح المجتمع طاقة جديدة وحركة اجتماعية وسياسية وثقافية تعتبر في حقيقة الأمر انعكاساً لإرادة أفراد المجتمع وهي ما يسمونها اليوم بالرأي العام. ومن البديهي انّه في الأنظمة القائمة على أساس إرادة واختيار الشعب وتتبنى مبدأ المشاركة السياسية وتوسيع نطاقها، تتجلى ظاهرة الرأي العام بشكل أكثر شفافية وتكون أكثر جدية، بل ان معظم المفكرين السياسيين يرون انّ هذه الظاهرة هي ملك خاص للمجتمعات التي تتمتع بالمشاركة السياسية من قبل جميع الاتجاهات والتيارات. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن ننفي وجود الرأي العام في المجتمعات غير الديمقراطية، إلا أنّ من الواضح انّه كلما كانت المشاركة الشعبية في الحكم أكثر وأوسع، كان الرأي العام ذا معنى أعمق وحقيقة شاخصة لا يمكن أن ينكر وجودها أحد. - أسباب مراعاة الرأي العام: إنّ أهمية الرأي العام اليوم في المجتمعات المختلفة فرضت على جميع المعنيين والمخططين السياسيين أن يولوا اهتماماً كبيراً بمعرفتها والوقوف على أهميتها الكبيرة. وفيما يلي نشير إلى بعض الأسباب التي تشكل حافزاً يدفع الجميع نحو الاهتمام بالرأي العام: · الحاجة الماسة التي تدركها الحكومات إلى هذه الظاهرة، وخاصة في مجال تشجيع الناس ودفعهم إلى المشاركة السياسية وعدم الوقوف موقف اللامبالاة من الأحداث الجارية في المجتمع. · انطلاقاً من ضرورة إدراك ما يريده المخاطبون والقضايا التي تشكل موضع اهتمامهم، اولت وسائل الاعلام المختلفة اهتماماً كبيراً بظاهرة الرأي العام، وذلك بهدف التأثير عليه أو فرض قناعات معينة عليه وسوقه بالاتجاه الذي تريده هذه الوسائل. · من أجل أن تبيع منتجاتها الصناعية وتوجد الأسواق المربحة لها من خلال زيادة كمية المبيعات... تحتاج الدوائر والمؤسسات الصناعية – الاقتصادية إلى أن تعرف بشكل دقيق الرأي العام وذوقه ورغباته واحتياجاته، ومن ثمّ تعمل على تعديل الانتاج بالشكل الذي ينطبق مع متطلبات رغبات الرأي العام. · وأخيراً، الصبغة السياسية والثقافية والاجتماعية، التي اصطبغت بها آثار ونتائج هذه الظاهرة. والمسألة التي لابدّ من الإشارة إليها هنا هي ان بعض المنظرين والمحققين يعتبرون ان ولادة الرأي العام تزامنت مع ولادة الديمقراطية والمجتمعات الحديثة. غير انّ هذا التصور قاد هؤلاء المحققين في نهاية المطاف إلى الوقوع في الخطأ وعدم الفصل بين خيوط هذا البحث المتشابكة، ولكن البعض الآخر من المحققين يعتبرون هذه الظاهرة أقدم بكثير مما يتصوره الفريق الأوّل، حيث كان مفهوم الرأي العام دائماً من القضايا التي كانت تشغل بال المفكرين الاجتماعيين وتراود أذهانهم، وفي هذا الشأن يطرح المفكر الاجتماعي المعروف بودان (Bodan) في القرون الوسطى تعبيراً دقيقاً حول الرأي العام حين يقول: "صوت الشعب هو صوت الله" الأمر الذي يعكس حسب رأينا، الزاوية التي كانوا ينظرون من خلالها إلى هذه الظاهرة ومدى أهميتها في ذلك الوقت، حتى جرى التعبير عنها بأنها صوت الله. وفيما يلي نشير باختصار إلى التعاريف الكلاسيكية التي تعاملوا من خلالها مع ظاهرة الرأي العام. ويمكن القول في هذا المجال بأنّ هذه التعاريف الكلاسيكية تنقسم إلى ثلاثة دوائر مختلفة نتناولها بإيجاز وهي: الأولى: تعرف الرأي العام بأنّه عبارة عن تلك الأفكار التي يجري طرحها على الناس بصورة رسمية، حيث يتجاهل هذا النوع من التعريف الإشارة إلى الجوانب الخفية في حياة المجتمع، ولا يعتبر الكشف عنها أمام الناس ضمن ظاهرة الرأي العام. وعلى خلاف هذه الدائرة تعتقد الدائرة الثانية انّ الرأي العام عبارة عن بيان وكشف كل مسألة تجري في إطار القضايا والشؤون العامة للمجتمع، ولا تعترف بوجود قضايا يجب اخفاؤها عن الرأي العام. ويدخل في إطار هذه الدائرة جميع الأعمال التي تقوم بها الحكومات على الصعيدين الداخلي والخارجي. أمّا الدائرة الثالثة فإنها تعتبر أنّ الرأي العام جميع الأفكار والرؤى التي يحملها عامة الناس حول مختلف القضايا السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، وبذلك تكون الأقليات السياسية والثقافية والاجتماعية خارج إطار هذه الدائرة بشكل تلقائي. بالإضافة إلى هذا التقسيم بشأن تعاريف الرأي العام، هناك عدة عوامل أخرى تدخل في إطار صناعة الرأي نشير إليها باختصار: العامل الأوّل هو اننا نعتقد بأنّ الرأي العام يشمل كل ظاهرة تستمد جذورها من التحولات الاجتماعية. ويندرج ضمن هذه الرؤية جميع القضايا الجارية في المجتمع. وبهذا التعريف الأخير يكون الرأي العام أولاً أساس القوانين الحاكمة في المجتمع، وثانياً يكون انعكاساً لنضج وتطور المؤسسات السياسية ووسائل الاتصالات الحديثة. وفي الحقيقة يتشكل الرأي العام حين تظهر رؤى وتصورات مشتركة إزاء ظاهرة اجتماعية معيّنة حتى يتحقق الانسجام الفكري في المجتمع، ويعتقد البعض انّ هذا الانسجام الفكري هو الفرق الذي يفصل بين المجتمع التقليدي والمجتمع الصناعي، فالمجتمعات التي يخيم عليها الجمود وتفتقر إلى الحركة والنشاط لا يبقى فيها أي معنى لظاهرة اسمها الانسجام، فالحاجة الضرورية إلى الانسجام لا تظهر إلا إذا كانت هناك حركة أو فعالية تحتاج إلى الانسجام الفكري بين أفراد المجتمع أو الاتجاهات والتيارات المختلفة فيه. والمجتمعات التي تفتقر إلى البحث والتغيير والتحرك، تنعدم فيها أيضاً المعلومات والأفكار التي تبعث الحركة والنشاط في الرأي العام وبالنتيجة لا يظهر أفراد مثل هذه الاجتماعات إلا رغبة قليلة في التعبير عن رؤاها وتصوراتها حول القضايا الجارية في المجتمع. أمّا المجتمعات التي تعيش الحركة في تبادل المعلومات فإن أفرادها يتعاملون مع قضايا المجتمع بردود الفعل وبالتعبير عن وجهات نظرهم إزاءها. وكلما كانت حركة تبادل المعلومات أكثر نشاطاً وسرعة تكون مشاركة الناس في أحداث المجتمع ذات معنى أعمق وأكثر عملية، وحين تبلغ هذه المشاركة درجة الانسجام يتشكل الرأي العام. والعامل الثاني: الذي نريد الحديث عنه في هذا المجال هو أنّ هذا الانسجام يتحول اما إلى قيمة من القيم الإنسانية أو إلى سنّة وقاعدة في المجتمع، أي ان ابداء وجهة النظر والتعبير عن الرأي والعقيدة يتحول إلى قيمة اجتماعية أو سنّة في المجتمع. علماً ان هناك بعض الناس يخشون الوقوع في الخطأ عند التعبير عن وجهات نظرهم، ويعتبرون ان ذلك يحط من شأنهم في المجتمع، فتراهم يترددون، بل ويجتنبون المواقف التي تقتضي الحديث والتعبير عن الرأي. في حين توجد هناك طائفة أخرى على النقيض من هؤلاء ويرون في أنفسهم الكفاءة المطلوبة للظهور في تلك المواقف. العامل الثالث: هو ضرورة انتقال المعلومات في المجتمع بالشكل الذي يؤدي إلى تكوين الرأي العام في المجتمع، ولهذا السبب فإنّ الرأي العام لا يتشكل في مجتمع يفتقر إلى نظام فعال لتوزيع المعلومات فيه. والعامل الرابع: هو وجود العقائد والأسس الفكرية التي تستطيع تحليل المعلومات المنتشرة في المجتمع. فإذا عجزت المؤسسات أو الأفراد عن تحليل وتفسير المعلومات بشكل دقيق لا يمكن أن يكون هناك رأي عام تجاه تلك المعلومات. وفي كل الأحوال يرى المحققون أن وجود أفراد أو مؤسسات خاصة بكيفية التعامل مع الاخبار والمعلومات وأسلوب تقديمها إلى سائر الأفراد يعتبر من العوامل المؤثرة جدّاً في تكوين الرأي العام. - أرضية الرأي العام: يمكن القول ان هناك أربعة عوامل تعتبر أرضية مناسبة لدراسة الرأي العام. خاصة وان بعض المحققين يرون أهمية كبيرة للأرضية التي يجب أن يستند ويقف عليها الرأي العام. العامل الأوّل، انّ الرأي العام إطار مفيد ومناسب من خلاله يعلن المرء رأيه في القضايا الجارية في المجتمع. والثاني انّ الرأي العام يملك القدرة على زيادة درجة التضامن بين أفراد المجتمع واتجاهاته المختلفة. الثالث هو قدرة الرأي العام على اخراج الأفكار والمعتقدات الخفية من الزوايا القابعة فيها إلى السطح وطرحها على جميع الأفراد، والعامل الأخير هو ان علماء النفس السياسيين يعتقدون بوجود عوامل مؤثرة أخرى في ظهور الرأي العام منها العناصر التي تبعث الاثارات في المجتمع وتملك القدرة على تنظيم الناس في المراحل العمرية والظروف المختلفة. والآن نشير إلى العوامل التي تساعد على تكوين الرأي العام وهما عاملان: الأوّل: ارتفاع مستوى التعليم وزيادة عدد المتعلمين والمثقفين وخاصة بين الشباب. فالتحقيقات التي جرت بهذا الخصوص اشارات إلى انّ الطلاب وانطلاقاً من الحياة الاجتماعية التي يعيشون في أجوائها وبسبب ارتفاع مستواهم الثقافي يلعبون دوراً مؤثراً جدّاً في تشكيل الرأي العام بل وسوقه بالاتجاه المطلوب وتحقيق الغايات المرجوة. والثاني: هو النشاط الاجتماعي، فأصحاب المهن الحرة وسكان المدن والتشكيلات المنسجمة يتركون بصماتهم واضحة في تشكيل الرأي العام وظهوره. وفي المجتمع الذي تحمل فيه المشاركة السياسية معانيها القانونية والحقيقية يكون الرأي العام أكثر قوة وأكثر وضوحاً. خاصة إذا كان هذا المجتمع يرى في نفسه القدرة على احداث تغييرات أساسية في الأوضاع والقوانين الاجتماعية الحاكمة فيه. إلى جانب هذه العوامل لابدّ من القول انّه كلما كان المسؤولون الاجتماعيون والزعماء السياسيون في المجتمع يظهرون أكثر أمام الناس ويناقشونهم من خلال الندوات والمؤتمرات والاجتماعات حول القضايا التي يعيشها المجتمع يكون الرأي العام في ذلك المجتمع أكثر وضوحاً وشفافية منه في غيره من المجتمعات التي يختار زعماؤها الاجتماعيون والسياسيون الحياة في الظل بعيداً عن الأضواء أو قد لا يستطيعون رغما عنهم الكشف عن وجودهم وهويتهم بشكل علني خشية التعرض لعقاب الأنظمة الحاكمة، حيث يكون الرأي العام في هذه الحالة باهتاً وضعيفاً ولا يقدر على التعبير عن نفسه وعن موقفه ازاء القضايا الجارية في المجتمع. ومن خلال هذا الاستعراض القصير لجوانب وابعاد الرأي العام نستطيع أن نقول انّ الرأي العام يتكون في الظروف والحالات التالية: أوّلاً: عندما تتحول قضية غامضة في المجتمع إلى قضية واضحة يمكن لجميع الأفراد أن يستوعبوها ويدلوا برأيهم تجاهها، وفي هذا الاطار كلما ازدادت شفافية المجتمع سياسياً وثقافياً واجتماعياً كان الرأي العام أيضاً أكثر وضوحاً وظهوراً. ولعل أبرز أشكال هذا الظهور هو سخونة سوق المنافسة بين أفراد الاتجاهات المختلفة. ثانياً: ليس بالضرورة أن يتشكل الرأي العام تحت تأثير الإعلام والدعاية. فالدعاية تؤثر في قوة الأرضية التي يقف عليها الرأي العام. ولا تخلق قضايا جديدة. بل تجعل اعتقاد الناس بتلك القضايا قوياً وراسخاً. ثالثاً: تعتبر نظرة الناس ودرجة ثقتهم بوسائل الإعلام أرضية أساسية لظهور الرأي العام وإيجاد ثقة لدى الناس تجاه العوامل الأخرى. رابعاً: يتشكل الرأي العام حين يشعر المجتمع بانه صاحب دور ورأي في قضاياه وشؤونه سواء كان ذلك بالسلب أو الإيجاب. خامساً: يكون تشكيل الرأي العام سريعاً جدّاً في القضايا التي جربها المجتمع من قبل ولا تشكل شيئاً جديداً بالنسبة له. وعلى الرغم من هذه الأهمية البالغة التي يتمتع بها الرأي العام الا انّه ليس غولا غير قابل للمعرفة، بل هو ظاهرة قابلة للدراسة والتحقيق والتكهن بمختلف جوانبها، ولهذا السبب نشاهد انّ لهذه الظاهرة موقعاً خاصاً في الدراسات الحديثة وخاصة تلك التي تتناول قضايا الاعلام ووسائل الاتصالات. فالرأي العام لا يمثل مجموعة من الآراء المختلفة وانما هو محصلة تداخل وتشابك الاتجاهات المختلفة في المجتمع القائم على أساس التفاهم والتنافس، وتتجلى بأروع صورها من خلال الانتخابات. المصدر: مجلة الفكر الجديد/ العدد 18 لسنة 2000ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق