تشيع فكرة التقدم الصاعد لحركة التاريخ على ألسِنَة كثير من الفلاسفة الذين يميلون إلى تأكيد الفعل الإنساني، وإنجازاته. ويمكن أن ترجع فكرة التقدم من حيث أصولها الأولى إلى آراء – بيكون – وديكارت – عالمي النهضة العلمية في الغرب. ولكن الفكرة ازدادت انتشاراً في أواخر القرن السابع عشر حين اشتد الجدل بين أنصار القديم، وأنصار الحديث من النقاد، والأدباء، فقد اضطر أنصار الحديث دفاعاً عن موقعهم إلى اتهام دعاة القديم بأنهم قد وقعوا في وهم قياس خاطئ، وذلك حين نظروا إلى من سبقهم من القدماء بوصفهم أقدم عهداً، فظنوا أنهم لابدّ أن يكونوا أرجح عقلاً. ولكن الإنسان كما يكبر سنّاً، فتزداد حكمته مع الأيام نضجاً وأصالة، فكذلك تمضي الإنسانية مع الزمن نحو التقدم. فإذا كان للقديم فضل السبق، فإن للاحق فضل الكمال. غير أن – باسكال – يعالج إشكالات الجدل بين القديم والحديث، فيشبّه أطوار الحياة البشرية على الأرض بحياة إنسان واحد، قُدِّرَ له أن يظل حياً منذ فجر البشرية مضيفاً معارفه كل جديد "فليس الإنسان وحده هو الذي يتقدم في معارفه العلمية يوماً بعد يوم، بل إنّ البشر مجتمعين يحققون تقدماً مستمراً في معارفهم، كلما ازداد العالم قدماً"[1].
أمّا القرآن الكريم، فيطرح فكرة التقدم الاجتماعي من خلال مصطلحاته عن الخير والمنافع، والبحث عن الأحسن والأفضل والأجمل من الأفكار، والقيم والأشياء الأحسن، ما يطلق عليه – القرآن أنّه الأقرب للتقوى، بوصفها المشكاة الثابتة لتنوير العقل والقلب، وبها الاستنارة لتبديد ما يطرأ على الحياة الإنسانية من مصاعب، وأزمات: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/ 2). وبكلمة، فإن كل نشاط فردي أو جماعي – يحقق الغايات النبيلة لرسالة القرآن في الاجتماع الإنساني وعلائقه الوجودية – هو تقدم. كما أنّ القرآن يَحمل على كل ركود علمي أو سياسي أو اقتصادي؛ يشلّ حركة التقدم نحو إحقاق الوعي بحقائق الإيمان، ونحو إحقاق الحقّ من جميع جوانبه وقضاياه؛ ليبني نموذجه الخاص في معنى الاستقرار الاجتماعي ومسؤولياته. ومن أعظم ثمرات هذا التصور أنّه ينفي جميع المعارك المصطنعة بين فئات المجتمع؛ لأنّ الجميع منصرف بكليته – بآماله وآمانيه – نحو هدف أعلى تعمل من أجله كل القوى المحرّكة للمجتمع، وذلك بعقيدة ترى أن أحلام التقدم يجب أن تشمل الإنسانية كلها، ودون أي احتكار لمنابع التطور، ومقوّمات التقدم. بهذا فالتقدم فلسفة متفائلة، ترى أنّ الكمال البشري غير محدود، وأن تاريخ البشرية يمرّ في مسار تقدمي تتطور خلاله معرفة الإنسان، وتقترب شيئاً فشيئاً نحو الهدف النهائي للمجتمع البشري والذي هو: تحقيق الحرية والكمال. وعلى هذا الأساس تكون النظرية القرآنية أبعد أثراً من سواها في التأسيس لعالمية التقدم، ذلك بسموّ مضمونها المادي والأخلاقي، وبصريح ما يظهره من النداءات القرآنية، الموجّهة لكل ما يهمّ الناس – كل الناس – للاعتصام بكامل الأسباب المادية والمعنوية، والتي تعمل على تحقيق التقدم، والمحافظة عليه بأبعاده الشاملة. والتقدم في فلسفة – كونت – ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي: التقدم العقلي، والتقدم المادي، والتقدم الخلقي، ولقد كان – كونت – في كل ذلك متأثراً بفكرة التطور في العلوم الطبيعية، غير أنّه كان يلجأ إلى التاريخ لدراسة تطور الفكر، والمراحل التي مرّ بها. ويبدو أنّ المفكرين في عصر التنوير الأوربي قد سعوا إلى تبرير مكانة الإنسان في عالم الطبيعة، فاعتبروا قوانين التاريخ مساوية لقوانين الطبيعة؛ لكن ذلك فتح الباب أمام سوء تفاهم أكثر خطورة، إذا إنّه أتاح الخلط بين الوراثة البيولوجية التي تشكل مصدر – التطور – والاكتساب الاجتماعي الذي يشكل – بدوره – مصدر التقدم في التاريخ؛ بحسب إدوارد كار في كتابه: ما هو التاريخ؟ وعلى الرغم من هذه الآمال الطيبة والنوايا الحسنة التي كان يضمرها أنصار نظرية التقدم على اختلاف مذاهبهم الفلسفية، فقد واجهت هذه النظرية كثيراً من النقد، بعضه يتصل بمنهج أصحابها في البحث، وبعضه يتصل بالقيم التي يصدرون عنها. من ذلك ما أشار إليه بعض الباحثين من مآخذ تتعلق بنقدهم العنيف للعصر الوسيط بمعايير معاصرة؛ لأنّه لم يعد في نظرهم عاملاً مهماً من عوامل تشكيل الحضارة. ولقد مسّت انتقاداتهم للخرافة والفكر الغيبي فكرة الدين نفسها؛ حين ألحّت عليهم فكرة التخلص من سلطان الكنيسة، فاكتفوا بالوقوف من فكرة – التقدم – عند هذا المظهر المناوئ للدين، دون التغلغل في سياق أحداث التاريخ للكشف عن مسارها الباطني[2]. ولا يخفى أن معضلة الأزمة الحضارية التي تسود جدل العلاقة بين الإسلام والغرب هي معضلة الصراع، لا على الحياة، وإنما على مفهومية هذه الحياة؛ بين رؤيتين: إحداهما تقفل مفهوم التقدم والتطور على مجالات الانتعاش التكنولوجي، والرفاه المادي للإنسان، وثانيتهما تفتح مفهوم التقدم على نظام القيم؛ لتجعل منها شرطاً ومقياساً لتقدم الأُمم، والشعوب. فلا معنى لأي تقدم إنساني، مع شيوع ظاهرة التوحش والطغيان والظلم؛ في العلاقات السائدة من عداوات الدول على بعضها؛ لاستبعادها، ونهب ثرواتها. كما هو الحال في أمثلة العدوان على فلسطين والعراق ولبنان... وسواها من الأعمال الإرهابية الوحشية التي لا تمتّ بأيّة صلة لفكرة التقدم، أو التفوق الحضاري المزعوم. فإذا كان هاجس الفلسفة الغربية منذ نهوضها في عصر الأنوار؛ أنها قد طرحت مرحلة الكمال بوصفها ذروة التقدم، فإن متابعة نمو الحضارة الغربية يكشف عن تعقيد بالغ الخطورة في ما نراه من ردّة شاملة على مفاهيمها الأخلاقية، والحضارية. وما يهمّني من هذه الملاحظة أن فكرة – التقدم – الغربية، والتي تأسست على تهديم القديم، ونفيه بعدوانية غير مبرّرة لمورروثاته، نراها اليوم، وقد حرّكت عجلات حضارتها نحو هاوية الدوران في دائرة مفرغة مظلمة، لا يضيئها بصيص من نور البحث عن الهدف الأعلى من وجود الإنسان. يقول – غوته – لقد صار الإنسان أكثر ذكاء ووعياً؛ ولكنه لم يصر أكثر سعادة وأنبل خلقاً. وفي نقد التقدم الزائف يعلن الفيلسوف – ج. ب. شو – أن ما يسمى – بالمدنية – مرض ينشأ من بناء المجتمعات من مواد عفنة. ثمّ يتساءل: أين التقدم المدّعى؟ إن القتل بالبندقية لا يقلّ إيلاماً عن القتل بسهم مسموم، ثمّ يبالغ في تشاؤمه، فيعلن أنّه من الأفضل لنا أن نتفق على أنّ الإنسان سوف يعود إلى وثنيته وبدائيته يوماً ما؛ على الرغم من كل ما مر به من تطور. وتشتد نزعة التشاؤم عند بعض الفلاسفة من أمثال اشبلنجر – وألبرت شفيتزر – اللذين يريان في الحضارة الحديثة عالماً صناعياً، آلياً، خالياً، من الروح، والقيم الأخلاقية[3]. ومن طرائف الفلسفة الغربية السجال بين من يدعو إلى التقدم القائم على مبدأ المنفعة، وبين من يدعو إليه على مبدأ التقدم الفكري والمعرفي؛ إن أنصار نظرية التقدم الفكري كانوا ينتقدون نظرية التقدم المادي؛ بالقول بأنّه أشبه بسباق الفئران للوصول إلى ثراء؛ رداً على بعض الفلاسفة الأوروبيين الذين أطلقوا شعار: "كلما زادت ثروة الجماعة، زاد نصيبها من السعادة". وعلى أنّ المفارقة الساخرة في المشهد الحضاري الراهن: أن ترى مفكرين من العرب والمسلمين؛ يراهنون على نظرية التقدم القائم على مبدأ المنفعة. في حين أن زملاء لهم في الغرب يعترفون بأنهم حضارتهم قد وصلت إلى طريق مسدود، وأن عليهم النهوض بثورة فكرية جديدة؛ لإخراج حضارتهم الواقفة ووجهها إلى الحائط الالكتروني، وقد عميت عليه شاشة البداية، فضاعت من رؤيته شاشة النهاية. ويكفي للتدليل على صحة ما نقول: أن نذكر أنّ الميزان الأخلاقي الغربي، "لم يستنكر إبادة أهل أمريكا الأصليين – وهم المعروفون بالهنود الحمر. فقد اشتركت كل الشعوب الأوروبية المهاجرة إلى العالم الجديد في هذه الجريمة الجماعية. على أنّ الفكر الغربي نفسه، والقائم على أفكار التقدميين؛ لم يستنكر الاستعمار قط، وأباح إذلال الشعوب وانتهاب أموالها، وإهدار كراماتها؛ لأن مفهوم حقوق الإنسان عندهم اقتصر على الإنسان الغربي. فهو وحده الإنسان، أما سواه قسَمِّه ما شئت وكيف شئت. وعندما أسقط الأمريكيون قنابلهم الذرية على "هيروشيما" و"ناجازاكي" لم ينكر ذلك عليهم أحد من أهل الغرب؛ لأنّ الضحايا في هذه الحالة كانوا يابانيين، غير أوروبيين"[4]. لم ينحرف مفهوم التقدم عن دلالته من منظور قرآني، في ما يدعو إليه من ضبط التوازن بين المادي والروحي، ويلتزم قيم العدالة والحقوق لجميع البشر، دون الإخلال بشرائط ديمومتها، وخصوبتها التي لا تكفّ عن النماء، والعطاء. أقول: لم ينحرف مفهوم التقدم عن ذلك كله، إلا في بعض الحقب التي روّجت مفاهيم الفصل بين الدين والحياة. ومن هنا، يميل الباحثون في الحضارة الإسلامية إلى أنّ الأطر والنظم الحضارية تميل إلى التآكل والفساد، إذا لم تتجدد، أو إذا لم تستطع مواصلة السير إلى الأمام. وهذا هو الموقف الأليم الذي عرفناه بعد القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي – دون أن نفكر في الخروج منه، كما فعل هؤلاء؛ لأن نفراً من أعاظم مفكري الإسلام نجحوا في إقناع الناس بأنّ السعادة في هذه الدنيا؛ لا وجود لها. ومن ثمّ، فمن العبث البحث عنها. وأنّ السعادة لا توجد إلا في الحياة الآخرة، ومن ثمّ فلابدّ من تركيز جهد الإنسان كله في ضمان وصوله إلى سعادة الأخرة عن طريق العبادات، والزهد في كل ما تقدمه هذه الحياة من خيرات. ويلفت الدكتور حسين مؤنس[5] إلى مثال الإمام الغزالي في كل مؤلفاته، وخاصة "إحياء علوم الدين". كذلك، يقترب كثير من فلاسفة الغرب في القرن السابع عشر من الرؤية القرآنية التي تربط قيام الحضارة، والتقدم؛ بالأخلاق: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا) (الأعراف/ 96). كما تربط شقاء الإنسان وبؤسه؛ بفعل إعراضه عن الاستقامة على ذكر الله، وما يتضمن هذا الذكر من محبة وتفاعل مع القيم الإلهية: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه/ 124). ونسمّي من هؤلاء الفلاسفة الكبار "إدوارد جيبون 1671-1713"، وهو الذي وصف الفترات الذهبية – كما يقول – في تاريخ الإنسانية؛ بأنها قليلة، بل نادرة، وهي أشبه بالجزائر في محيط لجيّ من الظلمت. وهو في كتابه عن قيام الدولة الرومانية وسقوطها؛ يلفت إلى أن أزمة التدهور والسقوط في حياة الأمم موصولة بأزمة النفس البشرية. ويكاد كلامه يطابق المنظور القرآني الذي يربط أزمات الخارج الإنساني؛ بالخلل الذي يصيب داخله في نفسه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). ولقد ذهب "جيبون" إلى أنّ السبب الأكبر في الفساد يكمن في ضعف الإنسان، وما ركّب في طبعه من الرذائل، وقال: "إنّ الدول كبيرة وصغيرة إذا قامت، وبلغت أوجها، عادت فسقطت في وقت محسوب؛ لأنّ الطبيعة البشرية لا تملك من الفضائل والقوى المعنوية، ما يمكن لها من إقامة بناء فاضل حقاً. هي بدأت فاضلة إذاً، ثمّ لم تلبث أن تنحرف عن الصواب بتأثير من طبعها"[6]. فإذا صحّ ما قيل من أن رصيد الحضارة يزداد مع السنين؛ أي أن هناك تزايداً رغم كل شيء؛ في الثروة الحضارية التي تهيئ الطريق إلى السعادة والتقدم. وربما لمزيد من الفضائل أو مزيد من الإحساس بها على الأقل، فإن من أكبر عوامل تبديد هذه الثروة هو النزوع إلى القطع الحضاري، أو النزوع إلى مقولات التصادم بين الحضارات، والتي روّج لها "صموئيل هانتنغتون". وهي من أخطر المقولات المعادية للتصور القرآني؛ عن آفاق التقدم البشري، وصلته الموضوعية بتعارف الحضارات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وكأنّ القرآن الكريم من وراء آياته البيّنات – عندما يؤسس لمصطلح الأمراض التي تصيب الإنسان في عقله وتفكيره وروحه وإيمانه – فإنّه يلفتنا إلى استحالة أن ينهض المجتمع المريض إلى أسباب تقدمه؛ من غير علاج يرجو له الشفاء من جميع أدوائه. ولقارئ القرآن، أن يتلو ما تيسير من آيات الشفاء. لا يتّسع أمامنا المجال؛ لكي نتتبع هداية القرآن إلى فكرة التقدم من جميع جوانبه. وتكفينا الإشارة، إلى أنّ ما قصد إليه القرآن من دعوة إلى تحريك العقول، والإرادات: بالتفكير والنظر والتدبر؛ تكاد تقف على لبّ المنهج إلى تحقيق شروط التقدم، وبكل تفكير سوي، وقول سديد، يضع حركة التقدم. ويصحّ عندي القول بأن مسيرة التقدم الإسلامي؛ لم تتوقف مع نشوء أنظمة الاستبداد التي أغلقت على أمتنا منافذ التفكير. ولكنها – أي المنافذ – أُغلقت تماماً مع نشوء ظاهرة انشطار العقل الإسلامي إلى عقل ديني وآخر لا ديني، لتغدو عوامل هذا الانفصال مصدراً من مصادر الإعاقة والفتن التي تصادر معنى التقدم من الأساس. الهوامش:[6]- حسين مؤنس، مصدر سابق.
المصدر: كتاب إجتماعيّات الدّين والتديُّن (دراسة في النظريّة الاجتماعيّة الإسلاميّة)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق