ثمّة قصور وتقصير لدى دعاة الوحدة في إنتاج خطاب قادر على التأثير، وقابل للإستجابة والتفاعل.
إنّ خطاب الوحدة يعاني قصوراً كبيراً في جانبي الكمّ والكيف.
خطاب الوحدة يعاني من تحدٍّ آخر هو عدم وجود مؤسسات أهلية تعنى بنشر ثقافة التسامح والحوار والعيش المشترك في مقابل مئات المؤسسات والمنابر الإعلامية المنتجة لثقافة الكراهية والتعصب.
في كتاب خطاب الوحدة.. نقد وتقويم لمؤلفه الشيخ حسن الصفار أحد أبرز دعاة التقريب والوحدة، والمهتمين يقضايا الأُمّة، والساعين إلى بلورة مشروع تنموي حضاري وفق رؤى دينية حضارية، وبأساليب تجديدية عصرية لمواجهة التحديات التي تواجه الأُمّة، وذلك بإنتاجاته اللامتناهية في الكتابة واللقاءات والمحاضرات، في خضم التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وفي ظل تقاعس الكثير من علماء الأُمّة عن القيام بدورهم الريادي في التوجيه والتأثير الإيجابي في نفوس جماهيرها (الأُمّة)، هكذا في هذا الكتاب يحلق الشيخ الصفار من جديد في فضاء المعرفة الإسلامية الأصيلة، مفتتحاً باباً جديداً وحسّاساً في ذات الوقت، رافعاً عنه حالة الصدأ الذي أصابه من حالة الركود والجمود، ليدفع به إلى الحراك والانفتاح على كل زاوية من زوايا تلك الغرف الساكنة، ليصل إلى مستوى التحدي الحقيقي في البحث عن عنوانه المراد به تحريك الحياة والعيش بأمن وسلام.
في رحاب هذا الكتاب، نجد سماحة الشيخ يتناول عنواناً من تلك العناوين الحسّاسة في ساحة الأُمّة الإسلامية والعربية. معتبراً خطاب الوحدة الأكثر سجالاً وانشغالاً من بين العديد من القضايا الكبرى التي تشغل المفكرين والمهمومين بقضايا الأُمّة، أحد تلك العناوين التي تحتاج إلى بحث في بنيتها وأساليبها ومنهجها. موضحاً أنّ خطاب الوحدة المعاصر يواجه عدداً من التحديات الخطيرة التي تتمثل في تداعيات واقع الانقسام وسياسات التمييز، والانتشار الواسع لخطاب التعبئة والشحن الطائفي، وضعف استجابة خطاب الوحدة لدواعي التجديد والتطوير. ويعود هذا الاهتمام الواسع بمشروع خطاب الوحدة لدى الشيخ الصفار في كتابه هذا، إلى كون خطاب الوحدة يعاني قصوراً كبيراً في جانبي الكمّ والكيف. حيث أنّ خطاب الوحدة من جهة يعاني في معظمه من السكونية والجمود في المضامين التي يتبناها، والأساليب التي ينتهجها في مخاطبته للجماهير المسلمين، ومدى تأثيره في نفوسهم، ومن جهة أخرى لا تكاد تجد من بين عشرات العلماء والمؤسسات ممّن يحملون همّ نشر خطاب الوحدة والتآلف سوى عدد محدود.
بجانب ذلك برزت خلال عقود تاريخية مختلفة العديد من التقلبات السياسية والاصطفافات المذهبية الطائفية، تسبب السياسيون في إلهاب الفتن والكراهية بين شعوب المجتمعات الإسلامية، ونجح معهم ذوو العقول الساذجة من الزعامات الطائفية في تهييج مشاعر العوام عبر فتاوى التكفير والتحريض على الكراهية، فتشكل من ذلك التحالف قوة ثنائية ضاربة في أعماق وعي الأفراد والجماعات، ساعدت على صنع أرضية واسعة من النزاع والاضطراب والفوضى.
ومع كلّ محاولات المخلصين من كل الجهات والشخصيات المهمومة بقضايا الأُمّة خلال الفترات الماضية على إنهاء هذا المسلسل عبر العديد من اللقاءات والمؤتمرات والمؤلفات، إلا أنّها لم تستطع بعضها الصمود أمام تقلبات السياسة، ولم يتوفر لها الدعم والشعبية الكافية، فتوقف نشاطها، وشلت حركتها.
ولقد تأسست قبل أكثر من نصف قرن "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية"، في القاهرة، بجهد أهلي من قبل مرجعيات شيعية وسنية، والثانية تلك التي أسسها المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران.
ولنا أن نتساءل، إذا كانت هناك العديد من المحاولات من قبل شخصيات مهمومة بقضايا الأُمّة، فما الجديد الذي سيقدمه الشيخ الصفار في كتابه؟
يمكننا أن نجيب على هذا السؤال من خلال ما أشار إليه الشيخ الصفار في بداية كتابه بقوله: "تسعى هذه الورقة المتواضعة إلى إلفات النظر إلى ضرورة التجديد والتطوير في خطاب الوحدة، عبر إثارة عدد من الملاحظات والمداخلات". هذا الكلام مدعاة إلى أنّ فشل تلك المحاولات عائد في حقيقته إلى الأسلوب ومدى قدرته على التأثير في نفوس جمهور الأُمّة، وهو نتاج خطاب ضعيف الاستجابة والتفاعل مع متغيرات وتحديات العصر، وهذا لا ينفي قصور وتقصير لدى دعاة الوحدة في إنتاج خطاب قادر على التأثير، وقابل للاستجابة والتفاعل.
الأمر الآخر فيما يرتبط بهذه المسألة، هو ما أكّد عليه الشيخ الصفار في موضع آخر بقوله: "أنّ خطاب الوحدة يعاني قصوراً كبيراً في جانبي الكمّ والكيف، ففي مقابل مئات المؤسسات والمنابر الإعلامية والثقافية المنتجة للشحن الطائفي، والمروجة لاتجاهات التعصب المذهبي، لا تكاد تجد سوى عدد من المؤسسات المهتمة بالخطاب والشأن الوحدوي"، ويضيف "ومن بين عشرات الآلاف من علماء الدين والمنتسبين للحالة الدينية من الخطباء والدعاة، قد لا نجد منهم إلا عشرات الأفراد ممن يحملون همّ نشر خطاب الوحدة، ومواجهة ثقافة الخلاف والشقاق".
وهذا يفسر أنّ خطاب الوحدة يعاني من تحدٍّ آخر لا يقل عن التحدي الأوّل، بمعنى أن عدم وجود مؤسسات أهلية تعنى بنشر ثقافة التسامح والحوار والعيش المشترك في مقابل مئات المؤسسات والمنابر الإعلامية المنتجة لثقافة الكراهية والتعصب، لن يكن الخطاب قادراً في ظل غياب تلك المؤسسات المستقلة القوية في التأثير في نفوس جماهير الأُمّة، ويقود إلى مبادرات تشجع على الحوار بين مختلف الأطراف، خدمة للاستقرار والسلم الاجتماعي. ناهيك عن غياب الحس الاجتماعي والوطني عند عشرات من الأفراد في تحمل مسؤولياتهم في دعم ومساندة الخطاب الوحدي. كل ذلك هو بحاجة إلى إعادة النظر والبحث في ماهية الخطاب وكيفية إيصاله لجمهور الأُمّة ضمن وسائل حضارية وعصرية تنسجم مع المتغيرات والتحديات الراهنة.
وهنا يمكن أن نقف عند مفارقة توصل إليها الشيخ الصفار في كتابه، عند مقارته لأداء خطابين متباينين في النهج والتأثير في جمهور الأُمّة، تلك المفارقة تتمثل في أنّ الخطاب الطائفي يتحدث بنبرة أعلى، وثقة أقوى بمعنى أنه يمتلك القدرة على التأثير في الجمهور عبر إثارة مشاعرهم وعواطفهم، ودفعهم إلى أتون الفتنة ومعارك الصراع، بينما يتسم معظم الخطاب الوحدي بدرجة كبيرة من الخجل والحياء، وهذا يعني أنّ الخطاب الوحدوي يقتصر التفاعل على مستوى نخبوي محدود.
ويبقى أن نقول – وكما يشير إليه الشيخ الصفار – إنّ المهمة الأساس لخطاب الوحدة في هذا العصر، هو تصحيح العلاقة بين أطراف المجتمع الإسلامي، وحمايته من النزاع والشقاق، وإيقاف الإساءة إلى الرموز والمقدسات، بين المذاهب العقدية، واعتماد لغة الحوار العلمي. داعياً إلى تبني مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان وإقرار المساواة بين المواطنين للقضاء على عناوين الصراع والشقاق.
المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 41 لسنة 2010
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق