• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حكم الفائدة في الشريعة الإسلامية

د. محمَّد عبدالمنعم خفاجي

حكم الفائدة في الشريعة الإسلامية

◄الفائدة في استعمالنا اليوم هي الربا بالمعنى الفقهي، يقول مؤلف كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: ومنه (أي من الربا) ما هو معروف في زماننا من إعطاء مال بأجل بفائدة. ويقول كينز أحد زعماء الاقتصاد في انجلترا إثر إتفاقية بين بريطانيا وأمريكا حول قروض للحكومة الإنجليزية: لا أستطيع أبد الدهر أن أنسى ذلك الحزن الشديد، والألم المرير، الذي لحق بي من معاملة أمريكا لنا في هذه الإتفاقية، فإنّها أبت أن تقرضنا شيئاً إلّا بالربا.

ولقد أعلن كينز البريطاني (1946)، وشاخت الألماني (1950) ومن قبلهما آدم سميث (1723 – 1790) البريطاني... والثلاثة من أعلام الاقتصاد أعلنوا الحرب على نظام الفائدة، والإقراض ودعوا إلى إلغائها.

والفائدة أو الربا حرام في الإسلام، وهذا التحريم له حكمة بالغة، حكمة إنسانية رفيعة، تنطلق من مبدأ الإسلام الإنساني، ومن نظريته الاقتصادية السمحة، ومن ضرورة أن يكون المال في خدمة الإنسان والمجتمعات والشعوب، وأن يكون ملتزماً بمبادئ السماحة والسيرة والإنسانية.

إنّ الشركات الكبرى تقف وراء كلّ دعاية موجهة لتحليل التعامل تقف وراء كل دعاية موجهة لتحليل التعامل بالفائدة الربوية. وقد استعاضت عن اصطلاح الربا إلى اصطلاح آخر بديل عنه، وهو الفائدة. ومن ثمّ يجب على الباحث أن لا يُخدع بوسائل الدعاية من جهة، وألا يقف عند الظواهر من جهة أخرى، بل عليه النفوذ إلى الجوهر، وإلى حقائق الأشياء.

فالشركات الإنتاجية العالمية تفرض سيطرتها على الأسواق، لتتمكن من توزيع بضاعتها ومنتوجاتها. ومن ثمّ فهي تقود دولها إلى استعمار الأُمم الضعيفة، لتضمن بقاء سيطرتها على أسواقها وعلى مصادر الثروة فيها أيضاً، وفي ذلك ما يرشدنا إلى الإضرار الجسيمة التي تنتج من القروض الربوية، وما يدلنا على الحكمة الإلهية العظيمة في تحريم الربا والفائدة أيّاً كانت.

إنّه لا خلاف بين فقهاء الإسلام في تحريم ربا النسيئة، ويسميه البعض ربا الديون وهو ربا جلي، وكان متعارفاً عليه منذ الجاهلية، يقول الإمام مجاهد – كما ورد في تفسير الإمام الطبري: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه. ويقول قتادة: ربا الجاهلية أن يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وآخر عنه. "فكانت الزيادة بدلاً من الأجل، فأبطله – أي أبطل الله عزّ وجلّ الرّبا.

أمّا ربا الفضل أي الزيادة وهو ربا البيوع، بالزيادة في أحد البدلين المتفقين جنساً، مما يجري فيه ربا الفضل، حيث يحرم في حال التجانس التفاضل والنسء أي التأجيل والتفرق قبل التقابض. وفي حال اختلاف الجنس يحرم النسء والتفرق قبل التقابض، وذلك فيما يحرم فيه الربا لعلة واحدة كالذهب والفضة والقمح والذرة مثلاً.

وجمهور الفقهاء على أنّ ربا الفضل محرم في الإسلام كربا النسيئة والنصوص على ذلك كثيرة، فقد ورد عن رسول الله (ص): "لا تبيعوا الذهب بالذنب إلا وزناً بوزن"، رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وورد كذلك: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد اربى الآخذ والمعطي فيه سواء.

ولابن عباس رأي في حل الفضل مستدلاً بحديث مروي "إنما الربا في النسيئة" ويروى أنّه رجع عن رأيه في ذلك.

وقد حاول الشيخ محمَّد رشيد رضا التقريب بين رأي الجمهور ورأي ابن عباس في ربا الفضل، حيث حصر الربا المحرم في ربا الجاهلية.. وربا القرض مما يرجع إلى ربا الفضل كما يذهب إليه مؤلف كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة"، ويعده بعض الفقهاء قسماً مستقلاً بذاته، فعندهم أي ربا القرض فائدة تشترط عند العقد لا يدخل في مفهوم ربا الفضل.

وأكثر القروض المألوفة التي تظهر منافاتها لروح الإسلام وإنسانيته وحرصه على معاونة المحتاجين، هي القروض الاستهلاكية، وهي التي يأخذها المحتاج لسداد دين عليه أو لموازنة ميزانيته المعيشية أو لقضاء بعض مطالب حياته الخاصة. فهذه القروض لا يحتاج تأكيد حرمتها إلى بيان، ولا إلى شرح الحكمة فيه، إذ انّ الربا والفائدة هنا مما يتنافى مع مبادئ الإسلام وروحه المأثورة في التعاون والتكافل والبر والخير والإحسان والمواساة، وهذا الربا يهدم جميع الخصائص التي جعلها الله من مقومات المجتمع الإسلامي، وهو مناقض لقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الحشر/ 9).

وقد صارت القروض اليوم في أغلبها للإنتاج لا للاستهلاك، كما كانت من قبل والمقتر في القروض الإنتاجية اليوم هو الدول والشركات والمؤسسات الكبرى، ولم يعد المقترض هو المستهلك الفقير، ولا الطبقات الصغيرة المحتاجة للمساعدة والمعاونة والحماية.

والقرض في حد ذاته حلال، ولكن الفائدة المشترطة عند العقد، أي الرجا على هذا القرض الإنتاجي، حرام قطعاً كالفائدة على القرض الاستهلاكي سواء بسواء. فالفائدة في القروض عامة: استهلاكية أو إنتاجية، هي ربا محرم قطعاً، وربا قريش في العصر الجاهلي كان قروضاً إنتاجية ربوية، فلما جاء الإسلام حرم الربا من أساسه تحريماً عاماً، يشمل كلّ الزيادة على رأس المال، وصار بذلك القرض بنوعيه استهلاكياً أو إنتاجياً مثلاً بمثل.

وقد ثبت للاقتصاديين أنّ الفائدة الربوبية في القروض الإنتاجية حقق أضراراً جسيمة بالاقتصاد القومي، فالبنوك في استغلالها للودائع المالية لديها استغلالاً قريباً، إنما تخلق نقوداً مصطنعة هي ما يسمى بالائتمان التجاري، وهي في ذلك تغتصب وظيفة الدولة المشروعة في عمل النقود، مما يزعزع النظام، ويفضي إلى الأزمات إذ يصبح التعامل حينئذ ليس بالذهب والفضة، ولا بما يقوم مقامها من الأوراق النقدية، بل يجري بالشيكات التي تسحب على الودائع المصرفية.

وبطبيعة الأشياء تسير البنوك على بسط هذه العملة في الرخاء وقبضها في الأزمات.

ويقرر المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر المنعقد عام 1385هـ/ 1965م أنّ الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة وانّ الاقتراض بالربا محرم كذلك. وحسبنا في ضرر الفائدة الربوية في القروض الإنتاجية اننا نجدها:

أوّلاً: من جانب متقاضيها وآخذها، من أخطر الأسلحة الفتاكة في فرض سيطرة طبقات أصحاب الأموال على المجتمع، إذ يجمعون بهذه الفوائد الربوبية قوة المال في أيديهم، ثمّ يسيطرون بها على اقتصاديات الأُمّة، أو على سياستها الداخلية والخارجية تبعاً لذلك بل على تقاليدها وأخلاقها وسلوكها وعاداتها، دون ما كد ولا مجهود لأنّ أغلب المال الذي تحت أيديهم والذي يقرضون منه، هو مال الودائع التي يودعها الأفراد لديهم.

ثانياً: من جانب دافع الفائدة، يعمل بمختلف الوسائل على فرض هذه الفائدة على جمهور المستهلكين لإنتاج شركاته ومؤسساته، فيضيف هذه الفوائد الباهظة على الإنتاج، مما يؤدي إلى رفع سعر المنتوجات، فإذا ما كسدت بضاعة بسبب غلائها أو لظروف أخرى وتوقف توزيعها اضطر صاحبها إلى تخفيض أجور العمال أو إلى الاستغناء عن عدد منهم، أو إلى تخفيض أجور أثمان المواد الأولية التي تدخل في الإنتاج، وفي ذلك كلّه ضرر بالغ بالمجتمع.

ولقد حاول كثير من العلماء ومن رجال الاقتصاد إباحة كثير من الأعمال الربوبية بدعوى الضرورة والتيسير على الناس، وهذا منطق باطل، ولو جاز هذا المنطق لذهب أناس إلى إباحة كلّ ما حرم الله بهذه الحجة السوفسطائية الواهية.

لقد قالوا بإباحة الفائدة المعتدلة على القروض الإنتاجية بدعوى الضرورة أو المصالح المرسلة، أو غير ذلك من الدعاوى والتكلفات، وقالوا بإباحة الفائدة في القروض الاستهلاكية مادامت قليلة، ومن ثمّ أجاز الشيخ محمَّد عبده والشيخ محمَّد رشيد رضا التعامل بالفائدة في صناديق التوفير، وقالوا بإباحة أوراق اليانصيب وسوى ذلك، بحجة ضرورة مثل هذه المعاملات في اقتصاد الأُمم اليوم، وللتيسير على الناس في شؤون حياتهم وهذا كلّه لا يثبت أمام الحقيقة، ولا يمكن بسببه أن نحلل حراماً ولا أن نحرم حلالاً.

وأما التأمين وهو المتداول بيننا اليوم فقد قرر المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف (1386هـ/ 1966م) جواز التأمين الاجتماعي والتعاوني والصحي (3/513 المؤتمر الثالث)، أما التأمين الخاص فقد دعا الفقهاء إلى بحثه على ضوء أحكام الشريعة.

وفي القروض الاستهلاكية الربوبية يمكن أن تقوم بها مجردة عن الربا صناديق الزكاة، أو بيت مال المسلمين، أو مؤسسة للقرض الإسلامي تنشأ للإقراض بلا فائدة.

إنّ دعوى إباحة الفائدة الربوبية في القروض وغيرها، لحاجة التيسير والمراعاة لضرورات الحياة دعوى باطلة. ومثل هذه الدعوى إنما تخضع لمنطق الاقتصاد الغربي وسيطرته على المسلمين وعلى الاقتصاد في بلادهم. فالفائدة الربوبية والتعامل بها فرض لسيطرة رأس المال، واستغلاله لظروف المحتاج وإذلاله، وإثراء لبيوت المال الصهيونية في أوروبا وأمريكا، وهي بيوت لها أغراض أخرى. ولا ننسى انّ الاقتصاد المصري كان منذ أوائل القرن العشرين في أيدي اليهود، وكانت ثروات الطبقات الفقيرة كلها في جيوبهم، سداداً لفوائد ربوية.

ومن أمثلة هذه الآراء الغربية ما زعمه رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه "مناهج الألباب" إلى اقتضاء الأحكام والمعاملات العصرية تنقيح الأقضية والأحكام الشرعية بما يوافق مزاج العصر بدون شذوذ.

إنّ الشيوعية اليوم تحرم الربا في بلادها ولا تتعامل به، وكانت ألمانيا النازية كذلك في عهد هتلر لا يتعامل بالربا، واسست بنوكا لا ربا فيها أبداً، وتنشئ ألمانيا الشرقية اليوم بنوكاً جردتها من الربا نهائياً، وهم اليوم يعودون إلى نظام الإسلام في الاقتصاد شيئاً فشيئاً، يأخذون منه بعضاً ويتركون بعضاً، وفي نظام الإسلام الاقتصادي الخير العميم والرخاء الكثير والسعادة الشاملة، بل في كلِّ ما أتى به الإسلام من نظم ومباديء وتشريعات.

ولا ننسى أنّ المصارف الأوروبية في أغلبها هي بيوت ربوية، نشأت على أيدي الصيارفة اليهود، وتطورت هذه المؤسسات حتى أصبحت اليوم تتحكم في الاقتصاد العالمي. وأوّل مصرف انشىء في جنوه عام 1170م، ثمّ انشىء في البندقية مصرف آخر.

إنّ أساس الاقتصاد الغربي هو الحافز الاقتصادي. أما الاقتصاد الإسلامي فينبني على الحافز الديني والاجتماعي والخلقي. وإذا كان آدم سميث صاحب كتاب "ثروة الأُمم" الصادر عام 1776م قد نادى بأنّ الثروة مفهوم مادي خالص، فقد أبان الاقتصادي البريطاني سيسموندي (1773 – 1842) أنّ الثروة ليست مفهوماً خالصاً بل هي مفهوم يقاس بمدى ما تحققه هذه الثروة من رفاهية الإنسانية والإنسانية ورخائهما.

إنّ الفائدة الربوية محرمة في الإسلام على سبيل القطع، وقد حرمتها اليهودية والمسيحية، واستمرت الكنيسة المسيحية في بدء عصر النهضة الحديثة في تحريمها، وكان لوثر وأتباعه يتشددون في تحريمها. ومنذ أواخر القرن 16 أجازت القوانين الوضعية في أوروبا التعامل بالربا. ثمّ أخذت الكنيسة المسيحية في إباحة التعامل به منذ القرن 17. ولأوّل مرة صدر في انجلترا عام 1833 قانون يعترف بمشروعية الفائدة الثابتة.. ومن البدهي أنّ اليهود يتعاملون بالربا منذ القديم مع حرمته في شريعتهم وقد ذكر القرآن الكريم ذلك عنهم فقال: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) (النساء/ 161).

وقد قرر المؤتمر الثاني لمجتمع البحوث الإسلامية بالأزهر أنّ كثير الربا وقليله حرام.

وبعد فالفائدة هي الربا، ومن حسن الحظ انّ المصارف الإسلامية تجاهلت الفائدة وطرحتها من مفهومها الاقتصادي، وسارت على قاعدة الربح والخسارة شأن عقود الشركات والمضاربة، وهو المفهوم الإسلامي الواجب العمل به.

 

المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد الثاني لسنة 1983م

ارسال التعليق

Top