• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام والأقليات

محمد السماك

الإسلام والأقليات

تركت الخلفية التاريخية للوطن العربي الشديدة الغنى دينياً وحضارياً، بصماتها على شعوبه العربية وغير العربية. فالموروث الديني أدى مع مرور الزمن ليس فقط إلى التنوع الديني، إنما إلى تنوع في المذاهب داخل الدين الواحد. والموروث الحضاري أدى كذلك إلى قيام عصبيات أثنية وشعوبية مرتبطة بهذا الموروث.
لعب الإسلام الدور الأهم في تحقيق وحدة الأمة مع المحافظة على هذا التنوع. ولذلك فإن ضرب الإسلام هو المدخل إلى تفتيت الأمة وتمزيقها.
أ ـ البعد الديني
في الأساس يرسم الإسلام خطين واضحين بين المسلمين وغير المسلمين. وبين أهل الكتاب المشركين. هناك تشريعات إسلامية خاصة بالمسلمين. وهناك تشريعات تحدد علاقة المسلمين وتعاملهم مع أهل الكتاب. وهناك تشريعات من نوع ثالث تتناول الكفار والمشركين.
بالنسبة إلى أهل الكتاب، لابد من إبراز ما يأتي:
1_ إن الإسلام عقيدة سابقة لبعثة محمد (ص)، بدأ مع إبراهيم واستمر مع موسى وعيسى بمحمد (صلوات الله عليهم جميعاً).
2_ إن الدين واحد والتشريعات مختلفة.
يقول أبو حنيفة: إن رسل الله لم يكونوا على أديان مختلفة، ولم يكن رسول منهم يأمر قومه بترك دين الرسول الذي كان قبله لأن دينهم كان واحداً. وكان كل رسول يدعو إلى شريعة نفسه وينهى عن شريعة الرسول الذي قبله لأن شرائعهم مختلفة. وهذا يفسر قول الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً)(المائدة/48). وقوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)(المائدة/48). إن الدين لم يبدل ولم يحول ولم يغير. والشرائع قد غيرت وبدلت لأنه رب شيء قد كان حلالاً لأناس قد حرمه الله عز وجل على آخرين.
في ضوء ذلك رأى أبو حنيفة أن الدين واحد، وهو التوحيد، والشرائع مختلفة. فإن اتفق آخرون مع المسلمين في الأصل فإن اختلافات الشرائع الجزئية أمر طبيعي، وعلى الفقيه أن يفهم هذا المعنى الوحدوي للإسلام المستوعب الذي يريد جمع الناس، وتوحيد المجتمع في الداخل من مبدأ الاعتراف باختلاف الشرائع، أي إمكان وجود شريعة اجتماعية أخرى غير الشريعة الإسلامية لفئات اجتماعية تعيش مع المسلمين في مجتمع واحد.
3_ لا يصح إسلام من ينكر أو من لا يعترف باليهودية والمسيحية. طبعاً هناك وجهات نظر مختلفة حول قضايا التحريف والتأويل. ولكن هذا موضوع آخر. الأساس هو الاعتراف والإيمان بكل من موسى وعيسى وعليهما السلام وبأن رسالتيهما الدينيتين وحي من الله.
4_ إن التشريع الإسلامي المتعلق باليهود وبالمسيحيين لم يصدر مرة واحدة. شأنه شأن كل سور القرآن الكريم وآياته. نزل التشريع على فترات وكان لنزوله أسباب (أسباب النزول) تتعلق بحوادث معينة.
في المرحلة المكية تجدر الإشارة إلى أن الإسلام كان ودوداً مع المسيحيين ومع اليهود. ذلك أنه في تلك المرحلة كان المجتمع المكي يتألف من أهل الكتاب وكفار وكان من الطبيعي أن يكون النبي مع أهل الكتاب ضد الكفار لأسباب إيمانية وليس لأسباب تكتيكية كما ادعى بعض المستشرقين عن سوء نية. وبالتالي كان خطابه أقرب إليهم وإلى معتقداتهم.
وفي المرحلة المدنية (بدءاً من عام 622م) اتخذ التشريع الإسلامي طابع بناء الدولة على قاعدة وحدة الأمة، هنا بدأ التباين بين المسلمين واليهود، فالذين تنكروا للمسيح الذي ظهر بينهم ومنهم، لم يؤمنوا بمحمد الذي ظهر بين العرب ومنهم. تزامن هذا التباين مع سلسلة من الحملات العسكرية التي قام بها مشركو مكة ضد الإسلام في المدينة لمنع قيام دولته، ولكي يتجنب الرسول (ص) مواجهة على جبهتين، جبهة المشركين القادمين من الخارج ـ من خارج المدينة ـ وجبهة اليهود داخل المجتمع الإسلامي ـ داخل المدينة ـ عمد إلى عقد معاهدات مع اليهود لتحييدهم. هذه المعاهدات أرست قاعدة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب، وتطورت بعد ذلك وفقاً لتطور الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين. فقد ورد في نظام المدينة أن "لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم إلا من ظلم وأثم" وأن المؤمنين من قريش والمؤمنين من يثرب ومن أنضم إليهم وقاتل معهم هم أمة واحدة. وأن اليهود يؤلفون أمة واحدة مع المؤمنين وأن "لمن تبعنا من اليهود الحق في تلقي العون من المسلمين والمساعدة طالما أنهم لم يعملوا ضدهم أو يقدموا العون لعدوهم".
نكث اليهود العهد مع المسلمين. أولاً في معركة بدر حيث أقاموا علاقات سرية مع كفار قريش. ثم في معركة أحد (سنة 625م) فقد تحرك اليهود ضد المسلمين عندما شعروا أن المسلمين على قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة. ردَّ المسلمون بعد هزيمتهم في أحد بالسيطرة على المواقع اليهودية تدريجياً إلى أن انتهى الأمر بالاستيلاء على واحة خيبر معقل اليهود.
تبع هذه التطورات إبرام عقود وإجراء مصالحات تحمل في مجموعها اسم عقود الذمة، هذه العقود ممهورة بحديث شهير للنبي (ص) يقول فيه: "من آذى ذمياً فقد آذاني"، وبحديث شهير آخر يقول فيه: "ألا من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة". وهذا إلزام لكل مسلم، وهو حق لكل مؤمن من أهل الكتاب على كل مسلم.
أرسى الإسلام قاعدتين للتمييز هما:
التمييز الديني، والتمييز المكاني.
يتعلق التمييز الديني أولاً بالمسلمين وغير المسلمين. ويتعلق ثانياً باليهود والنصارى وببقية المجموعات غير الإسلامية.
أما التمييز المكاني فيتعلق بالمناطق التي تخضع لأحكام التشريع الإسلامي، وهي "دار الإسلام"، وتلك التي تخضع لحكم أعداء الإسلام (أي دار الحرب على الإسلام).
في دار الإسلام يحتفظ اليهود كما يحتفظ النصارى بعقيدتهم ويتمتعون بحماية الدولة الإسلامية لهم ولمعابدهم ولتشريعاتهم الدينية الخاصة، هذا التمييز يعني وضع اليهود والنصارى في ذمة المسلمين (الذمة مشتقة من فعل ذمم وليس من ذم).
هنا لابد من التوقف أمام نقطة على درجة كبيرة من الأهمية وهي التمييز بين الذمة والمعاهدة. فالمعاهدة أو العقد محكوم بزمان ومكان محددين.
أما الذمة فهي عقد أبدي دائم مبرم دون تحديد زمني لمفعوله، وعند موت الموقعين تنتقل موجبات العقد إلى الأبناء "وهذا العقد ليس معاهدة بالمعنى الصحيح ولكنه رابطة لا تنعقد بين دولتين بل بين دولة من جهة ورؤساء مجموعة شعبية من الكتابيين من جهة أخرى. وهذه الرابطة تنشئ واجبات ليس فقط تجاه الدولة الإسلامية ولكن تجاه كل مسلم على حدة وكل ذمي أو كتابي، من هنا يتضح أن لها مفعول القانون لأنه عندما يخالفها الذمي يتحمل وحده نتيجة المخالفة وليس طائفته كلها".
إن أسوأ ما يمكن أن يصل إليه سوء العلاقة بين غير المسلم والحكم الإسلامي هو الخيانة أو التمرد.
في الحالة الأولى: أي الخيانة والتجسس لمصلحة العدو، فإن حكم الإسلام في الذمي الخائن هو الحكم نفسه في المسلم الخائن، أي القتل (العقوبة غير محددة في القرآن الكريم، ولكن قياساً على سنة النبي) إن فعل الخيانة من غير المسلم يعتبر خروجاً على عهد الذمة، وفعل الخيانة من المسلم يعتبر خروجاً عن الإسلام.
وفي الحالة الثانية: أي التمرد، فإن حكم الإسلام في تمرد غير المسلم هو أن التمرد لا ينهي عقد الذمة. بل إنه جريمة بحق الدولة يعاقب عليها الذمي بمثل ما يعاقب عليها المسلم. أي أن التمرد يعتبر احتجاجاً على حالة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وليس عدواناً ضد المجموعة الإسلامية.
هناك قضية أسيء فهمها وأسيء استغلالها طويلاً، وهي قضية العلاقة بين الجزية وحرية المعتقد. لقد مرت عهود (الحاكم بأمر الله الفاطمي 996 ـ1021) كان فيها بعض أهل الكتاب يكرهون على اعتناق الإسلام خلافاً لما تنص عليه الشريعة الإسلامية من أنه لا إكراه في الدين. وهذا التعسف كان متناقضاً للإسلام، وبالتالي فإنه لا يشكل عنواناً مشرفاً فيسجل على الذين قاموا به.
كذلك مرت عهود أخرى كان فيها بعض أهل الكتاب يحملون على عدم اعتناق الإسلام خوفاً من تضاؤل عائدات الجزية. فالضرائب التي كان يدفعها أهل الذمة أصبحت بعد الفتح ضرورة حيوية لبيت المال وصار كل نقص يصيب مجموع الضرائب خطراً تهدد نتائجه استمرارية السلطة وقوة الجيش في نظر الحكام. ومن هنا كان أي نقص في عدد أهل الذمة ـ سواء تم ذلك بسبب الهجرة أو التحول إلى الإسلام عن طريق الإكراه ـ يؤلف بالنسبة إلى خزينة الدول كارثة مالية تهدد الدولة بإفلاس لا يمكن تلافيه.
إن تطبيق مبدأ حرية المعتقد الذي اعتمد منذ بداية الدعوة يبدو شديد الفعالية في هذا المجال لأنه يمنع كل أنواع الإكراه لا سيما التحول إلى الإسلام تحت ضغط العنف والقوة. هذه الضمانة المدعومة بكلام الله عز وجل سوف يلجأ إليها المسؤولون السياسيون من أجل الاستجابة لحاجات الدولة. وكل تقليص أو إلغاء لمفعولها سيكون من شأنه الإضرار بمصالح الخزينة لأنه يؤدي إلى إنقاص أو إزالة موردها الأساسي.
وبين هاتين الظاهرتين الاستثنائيتين لابد من تثبيت القاعدة، وهي تتمثل في تعاليم الإمام علي بن أبي طالب (ع) لعامله في بزرج سابور: "لا تضربن رجلاً سوطاً في جباية درهم، ولا تبيعن لهم رزقاً، ولا كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا تقيمن رجلاً قائماً في طلب درهم. قال: قلت: يا أمير المؤمنين إذاً أرجع إليك كما ذهبت من عندك! قال: وإن رجعت كما ذهبت ويحك إنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو يعني الفضل".
وهذه القاعدة لا تتناقض مع ما ورد في سورة التوبة ـ الآية 29: (قاتلوا الذين لا يؤمنون ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). ذلك أن النص هنا يتناول الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... الخ من أهل الكتاب والذين يعيشون في دولة إسلامية. أما الذين يؤمنون باليوم الآخر أي الذين لا يناهضون العقيدة الإسلامية في المجتمع الإسلامي... الخ فإنهم يسددونها على أساس القاعدة التي أوضحها الإمام علي بن أبي طالب (ع).
أجمع الفقهاء على أن من واجب القابض على زمام السلطة أن يقوم بفرض الجزية على أتباع الديانات السماوية المنزلة من غير المسلمين. وهؤلاء يحصلون بالمقابل على حماية المسلمين لأنفسهم وأموالهم.
وقد تبوأ أهل الكتاب في الدولة الإسلامية مراكز قيادية أساسية في السلطة باستثناء القضاء (لأن القضاء في الدولة الإسلامية قضاء شرعي لا يمكن أن يتولاه من لا يؤمن به). وباستثناء الرئاسة الأولى أو الخلافة (لأن الخليفة والرئيس هو إمام المسلمين، ولا يمكن أن يؤم المسلمين من لا يؤمن بالإسلام). ولعل من أكثر ما يشد الانتباه هو أنه حتى خلال الحروب الصليبية لم يكن أمين المال عند صلاح الدين الأيوبي مسلماً، بل كان من أهل الكتاب.
ب ـ البعد الاثني
في الأساس هناك قاعدة إسلامية ثابتة تقوم عليها الوحدة الإسلامية. تتمثل هذه القاعدة في قوله تعالى في سورة الحجرات، الآية 10 (إنما المؤمنون إخوة). ومن شأن التأكيد على هذه القاعدة الشرعية لتساوي المؤمنين ضمن وحدة الإسلام الدينية والاجتماعية، صهر أشد الشعوب اختلافاً في العرق واللون في أمة واحدة. ولقد كان هذا التوكيد من العوامل الرئيسة التي ضمنت اتساع الإمبراطورية الإسلامية اتساعاً عجيباً، وصانت قوتها والتحامها على مر القرون. ولما ضعف روح التكامل الخلقي في الإسلام كان الفوز للنزاع الشعوبي وكان فوزاً على حساب سلطان الإسلام. فتجزأت الدولة وتم النصر لأعداء الإسلام.
ولا غرو فإن انحطاط السلطة الزمنية في الدول التي نشأت عن إمبراطورية الإسلام، وما حدث من صولات التوسع والاستعمار الأوروبي أنعش شعور التكافل الإسلامي، فتجلت جميع مناحي التجديد التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر في الشرق الأدنى والأوسط بروح إسلامية.
إلا أن الاستعمار استطاع تحت مظلة مبدأ القومية الذي أعلنته فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر وأد هذا التجديد، حتى أنه ليبدو اليوم مجرد أثر بعد عين.
إن الإسلام يتوفر على الجامع التوحيدي المشترك بين كل الأثنيات الإسلامية والطوائف غير الإسلامية للأسباب الأساسية الآتية:
أولاًـ إن الإسلام مبني على رفض العنصرية بدليل قوله تعالى في سورة الحجرات، الآية 13: (يا أيها الناس إنَّا خلقناكم م ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
ثانياًـ الإسلام مبني على المساواة بين الشعوب المتنوعة وفي ذلك يقول النبي محمد (ص): (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى). وهذا ينقض فكرة شعب الله المختار وهي أكثر أفكار التعصب والتميز العنصري حقداً وكراهية لبقية الشعوب الإنسانية.
لقد عبر الإسلام حدود العروبة إلى أرض حضارات جديدة، وأصبح العرب بعض الإسلام، بعد أن كان الإسلام بعض العرب. وانتشرت العربية مع الإسلام والقرآن، وكان العرب أول من حمل أمانة الإسلام إيماناً ونشراً وجهاداً.
والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين على رسول عربي في أم القرى العربية ودار الهجرة وما حولهما. ومن هنا كان الرباط الوثيق والمقدس بين العروبة والإسلام والقرآن..
إن اختيار الزمان والمكان والرسول واللسان أمور تتعلق في الإسلام بإرادة الله، لا بإرادة البشر، والإسلام كما هو كرامة وتكريم فهو مسؤولية وعطاء. والانتساب إلى أمة الإسلام تحكمه ثلاثة أركان تجمعها الآية الكريمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...)(آل عمران/110) والكرامة في الإسلام بالتقوى، والتقوى عقيدة وعمل.
وبالفهم السمح لاختلاف الألسنة والألوان والبيئات والقدرات، وتغير المكان وتعاقب الزمان ومتغيرات الحياة، خرج الإسلام من الجزيرة العربية إلى العالم، أو هكذا ينبغي أن يكون.


المصدر: كتاب موقع الإسلام في صراع الحضارات

ارسال التعليق

Top