الشيخ محمد الغزالي
بعد النومة الطويلة أو الإغماءة الطويلة التي أصابت المسلمين في الأعصار الأخيرة، جاءت يقظة مرجوة الخير، وشرع العامة والخاصة يمسحون عيونهم ويحركون أعضاءهم ويعملون على استئناف المشوار العتيد!
ونظرت إلى أمتي ترمق المستقبل بأمر، وتنشط كي تتقدم وتزاحم وتسبق، ولكنها لا تتقدم خطوة حتى تحاصرها العقبات وتوقفها المتاعب!.
والمحزن؛ أنّ هذه المتاعب من عند نفسها أكثر مما هي كيد العدو وسعيه لهزيمتها..!
لقد شعرت بأنّ أمتنا نسيت رسالتها، أو جهلت هذه الرسالة من زمان بعيد، إنّ هذه الرسالة من وضع الله لنا لا من مزاعمنا لأنفسنا أودعاوانا لجنسنا..!
والأُمّة التي لا تعرف لها هدفاً قد تتحرك في موضعها أو تتحرك في اتجاه مضاد، أو تصيب نفسها وهي تريد إصابة غيرها؛ انّ الطيش يحكمها لا الرشد!
وقد حدد القرآن الكريم رسالتنا في هذا العالم فقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) (آل عمران/ 104).
أهي دعوة نظرية إلى الخير تظهر في الملصقات والكتيبات والنشرات العامة؟؟ لا؛ يجب أن تقدم الأُمّة من نفسها نموذجاً حياً أو أسوة حسنة لما تدعو إليه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ...) (الحج/ 77-78).
إنّ عمل الخير والدعوة إلى الخير؛ سمات الأُمّة الظاهرة وملكاتها الباطنة، ووظيفتها الدائمة، وشهرتها التي تملأ الآفاق، وإجابتها عندما تسأل عن منهجها وغايتها...
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا...) (النحل/ 30).
وما ينتظر من أمة تحمل رسالة السماء وتتبنى دعوة الحق إلا أن تكون حارسة للشرف، مترفعة على الدنايا، متواصية بالمرحمة، منظوراً إليها محلياً وعالمياً بأنّها سند المظلوم وجار المستضعف، ويجب أن تكون قديرة على ذلك وسمحة به!!
وقد بيَّن الله أنّ الأنبياء – وكذلك أتباعهم – ليسوا باعة كلام ولا أدعياء فضل بل هم كما شرح في كتابه: (.. وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء/ 73).
فهل تولت أمتنا هذا المنصب؟ أو هل تأهلت له بفقهها ومسلكها؟ أم زاحمت غيرها على طلب المتاع والتعلق بالدنيا؟
الذي يبدو لي أنّ المسلمين – شعوباً وحكومات – هبطوا دون المستوى المنشود، بل هبطوا دون مستوى غيرهم ممن لم يشرفهم وحي ويكلفوا بحمل رساله!
والمرء قد يمشي الهوينى غيرآبه لما أمامه، إذا كان خالي البال، لا يشغله واجب محدد أما إذا كان في سباق مهم ومع أنداد قادرين أو خصوم قاهرين، فإنّه يحث الخُطى ويجمع العزم ويتجاوز العقبات..
والمسلمون مذ بدأوا تاريخهم، ما صفا لهم الجو، ولا خلا لهم الطريق..! فكل استرخاء أو تخاذل سيستغله شياطين الإنس والجن للنيل من الحق وتركه في المؤخرة والإنفراد دونه بالصدارة..
وهذا ما وقع؛ فنحن المسلمين الآن في العالم الثالث على حين أمسك بزمام الحضارة من ينكرون الألوهية أو من يتخيلونها "عائلة مقدسة".
وهم لم يعوقونا عن الإنطلاق في أغلب مراحل تخلفنا، بل نحن الذين فرطنا وتكاسلنا وتركنا المجال فسيحاً أمام غيرنا فملأه لمّا أخليناه.
إنّ عناوين الخير والمعروف – وهي معالم رسالتنا – لم تساندها حقائق قائمة فكانت النتيجة أن تلاشى صدى هذه الكلمات النبيلة، فاختفى وقعها من نفوس السامعين.
وظنت أمم كثيرة أنّ المسلمين طلاب شهوات أو قطّاع طرق، وأنهم يوم يملكون القوة، يسخرونها لإعلاء جنس، وتحقيق أمجاد وطنية أو قومية، وهذا كله افك!
بَيْدَ أنّ المسؤول عن إنشاء شائعاته، أصدقاء جهلة أو عجزة كما يحمل المسؤولية أيضاً أعداء مرجفون مريبون.
تدبرت هذه الآية (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ...) (الأنبياء/ 45)، والآية الأخرى (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان/ 52)، فرأيت انّ صاحب الرسالة لا يفتح العقول بسكين إنما يفتحها بكلمات الله المنيرة التي تنزلت عليه وانّه منهيٌّ عن طاعة الكافرين، مأمور أن يجاهد بهذا القرآن من تنكروا له واعرضوا سيره...
وأعلم بدراستي وتجربتي معاً أنّ هناك مستكبرين يستبيحون غيرهم ويجتاحون حقوقه المادية والأدبية، وانّ الإستسلام لهؤلاء وضاعة، وترك الحقيقة تداس تحت أقدامهم جريمة!
انّ هؤلاء لابدّ من مقاومتهم وحشد أهل اليقين لحسم شرهم!
في هؤلاء يقول الله لنبيه: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا) (النساء/ 84).
تدبر هذا السياق وكيف أبرز عدوان المعتدين وكيف يستعان بالله على كفكفة شرهم وكسر بأسهم!
انّ المؤمنين يلقون هجوماً فلا يجوز لهم أن يفروا أمامه! ومن أجل الله وفي سبيل الله يتحملون أعباء هذا التصدي.
اننا لم نبدأ عدواناً، لقد أنذرنا بالوحي، وجاهدنا بالكلمة وشرحنا بغيتنا وهي تحقيق الخير والمعروف في الدنيا، وتحويل الأرض – حيث قدرنا – إلى ساحات عبادة لله، وتراحم بين عباده، لا يدع في المجتمع جائعاً ولا عارياً ولا محروماً ولا محقوراً...
تلك أهداف أمتنا كما رسمها القرآن الكريم: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ...) (الحج/ 41).
لكن المأساة الكبرى أنّ هذا الهدف نسيه من نسيه، ولم يشغل نفسه ولا قومه بالإعداد العلمي الواسع له، ولم يكلف نفسه محو الشبهات التي أثيرت عمداً حول مقاصده؛
فمضت الأُمّة في طريق مليئ بالغيوم وأخذت تقاتل دون أن يكون بين يديها عرض جيد للحق وتطبيق أجود لمبادئه، وكنت أقرأ وأنا طالب أن علاقتنا بغيرنا هي الإسلام أو الجزية أو الحرب!!!
إنّ الذي أرسل هذا الكلام على عواهنه نسي الوظيفة الأولى للأُمّة وهي الدعوة السليمة وإرسال أشعة كاشفة عما تريده للعالم من رشد وسعادة...
قد يدهش أمرؤ لهذا القول ويرد على عجل: كان آباؤنا يدعون إلى عقيدة التوحيد، ويستندون في جدالهم عنها إلى مواريثهم من كتاب وسنّة، فلا عذر لأحد.
ونمضي نحن في توضيح ما نعني! انّ عقيدة التوحيد جذع شجرة باسقة مزهرة مثمرة لها سبعون غصناً، أو سبعون شعبة يلتمس الناس تحتها الظل والجنى، لماذا جعلنا هذه العقيدة خشبة جرداء لا تُغري أحداً أن يأوي إليها؟ لماذا ترك المجال مفتوحاً أمام الأعداء يزعمون أنها شجرة شوك لا زهر فيها ولا ثمر؟
إنّ الخاصة الأولى للأُمة الخاتمة انها غيور على الحقيقة، لا تطيق تشويهها ولا اغفالها، ومن ثمّ فهي لا تسكت عن أمر بمعروف أو نهي عن منكر! فإذا بليت هذه الأُمّة بسلطات تكمم الأفواه وتدع العامة والخاصة لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً فهل هي بذلك الصمت الجبان تبلغ رسالة الله؟ أم هي تقطع الطريق إليها؟!
لقد أخذ الأحرار على ملك فرنسا لويس الرابع عشر انه قال: أنا الدولة! يعني انّه وحده المسؤول عن شؤونها لا شريك له.
فإذا كان السلطان؛ في بلاد الإسلام يردد بلسان الحال أو المقال هذه الكلمة فما الفرق بين دولة الإيمان ودولة الكفر، وأين يجد الناس ساحة المسألة والشورى والأخذ والرد دون تهيّب ولا توجّس؟؟
إنّ العقيدة الإسلامية أساس حضارة راشدة راقية، ولا يسوغ أن يتدرع بها من يخدمن مآربهم وأعراضهم، ونحن مكلفون بتبليغ رسالة نازلة من السماء، لا حمل أوضاع من صنع الناس.
أعرف ويعرف غيري انّ الامامة العظمى في الإسلام احتكرتها ثلاث أسر خلال اثني عشر قرناً. أفلمصلحة الإسلام وعلى هدى تعاليمه تم هذا؟ قد نقول انّ هذا الخطأ لم يؤثر على حقيقة الدين أو على مساره، وهذه إجابة تتطلب وقفة طويلة وشرحاً مستفيضاً، لا سيما أنّ ركام الأخطاء الذي آل إلينا على مرِّ القرون جعل المسلمين المعاصرين يضطربون في الفهم والمنهج بل جعلهم يظنون انّ الحكم من نوازل القدر التي لا ترد، وانّ استقباله كاستقبال الآفات والمصائب الوافدة يكون بالصبر والإسترجاع!
وقد أورثتهم هذه الجبرية الخرافية استسلاماً واستكانة لضروب الحكم الإستبدادي قلَّما يعرفان في جنس آخر...!
إنّ الدولة صاحبة الرسالة تكرس قواها المادية والأدبية في الداخل والخارج لإنجاح رسالتها وشرح حقائقها على نحو رائق جذاب، وليس يجديها زخرف القول إذا كانت صورتها الداخلية دميمة، إذ الناس بعد التروي والتأمل يعولون على الموضوع لأعلى الشكل...
والوظيفة الأولى لدولة الإسلام أن تري الأُمم الأخرى آفاق الخير الذي تدعو إليه، مشرقة في حياتها هي!
في أخلاقها وتقاليدها وعباداتها ومعاملاتها وآدابها وفنونها وملاهيها وأسواقها وقراها ومدنها... أي في جميع أنشطتها التي تكشف عن أعمالها وآمالها...
اننا – باسم الإسلام – ندعو إلى الخير ونفعله، فما وزن هذه الدعوى العريضة؟ وما آثارها؟
إنني اقرر مطمئناً اننا لم نحسن تبصير الجماهير الهائمة في شتى القارات، وليست لدينا أجهزة قديمة قائمة من قرون على البلاغ المبين، والذين اختطفوا مناصب الإمامة العامة حقباً مديدة كانوا أنزل رتبة من أن ينهضوا بهذا العبء!
انّهم لم يكونوا عالمين، ولم يكن للراسخين في العلم مكانة لديهم...
وقد حسب لفيف من العرب انّ الإسلام ثروة قومية يمكن أن ينتفع بها الجنس العربي – كثروة النفط مثلاً – فتركوا الإسلام يتمدد بقواه الذاتية، وبالجهود الشعبية، وانشغلوا هم بمراسم الحكم ومطالبه..
فلما وقعت الخلافة في يد الأتراك بدأوا بداءة حسنة في خدمة الإسلام ثمّ انتقلت إليهم علل الخلافة العربية، فضاعوا وأضاعوا..
وطلع علينا هذا العصر الكئيب فإذا رايات الإسلام تطوى علانية تحت شعارات العروبة التي تعدّ محمداً بطلاً قوميا (!) وأمام زحف الملل والفلسفات الأخرى التي خلا الجو لها فباضت وأفرخت...
تلك خسائر فادحة نزلت بأمتنا ورسالتنا والعلاج أن نعرف: من نحن؟ وما رسالتنا؟ وكيف نؤديها؟ وكيف نتخلص من أخطائنا؟ وكيف نستفيد من تجارب النصر والهزيمة والمد والجزر...
ولنعلم انّ عباد الله في المشارق والمغارب ليسوا مستعدين أن يتبعوا قيصراً جديداً يلبس عباءة الإسلام، وانّ علماء الدين الذين يشغبون على الشورى ليسوا علماء ولا متدينين، إنما هم قذى تجب تنحيته عن الطريق...
وأعرف أنّ الإستبداد السياسي عاد إلى المجتمعات من الباب الخلفي في شكل تنظيمات دستورية مزورة! والحقيقة لا تخفى وراء هذه الألبسة الخادعة مهما تراكم حولها ذباب المنتفعين والمنافقين..
الإسلام وأمته أكبر من هذه المظاهر! ولن يصدق الناس اننا رجال أحرار ننحني وحسب أمام الواحد القهار، ما بقيت صفوفنا يتقدمها قزم تغضي أمامه العيون، وتخرس الألسنة، لأمرٍ ما...!
وفي عصرنا هذا تتودد المذاهب الأرضية إلى الناس بكفالة ضروراتهم البدنية واشباع نهمتهم منها! والإنسان بطبيعته يكره ذل الحاجة، ويضيق بكبت لا نهاية له، ويتعلق بأي نظام ييسر له الضرورات، ويعده أو ييسر له بعض المرفهات...
هل تجهم الإسلام لهذه الطبيعة البشرية؟
انّ ايراد السؤال على هذا النحو خطأ! ألم يسارع الإسلام إلى كفالة هذه الحقوق البشرية؟
في صدر حياتي ألّفت بضعة كتب شرحت تلك القضية؛
كنا أنا وسيد قطب ومصطفى السباعي نذود الجماهير المتطلعة عن اعتناق الشيوعية، لأن بريقها استهواهم، فقدمنا البديل من تعاليم الإسلام..
وإنما استهوى الناس هذا البريق لأن فوضى التملك من حرام تسربت إلى أغلب الأموال، ولأن تبلد المشاعر بإزاء آلام المحرومين قطع أوصال المجتمع وبعثر في أكنافه بذور الحقد!
وكثير من المشتغلين بالثقافة الإسلامية يحسبون انّ الإسلام بعد ما قضى عن الأصنام في الجزيرة العربية قد أدى الرسالة وبلّغ الأمانة، ولعيش الناس حسب ما يرغبو من الناحيتين.. الاقتصادية والسياسية ففي الأمر متسع وليكن ما يكون..!!!!!
وهذا الجهل الفاضح أثقل الأفكار والأقدام، وأحكم حولها القيود فكانت العاقبة أن وثب العالم إلى الأمام بخطوات فساح، وضبط شؤون الحكم والمال وفق ما يرى مصلحته، أمّا المسلمون فوقفوا أو تخلفوا، ومن أراد بهم خيراً حاول إلحاقهم بقطار الشرق أو الغرب، لأنّه لا يعرف حقيقة الدين من رجال قاصرين، ومن هنا توجب على الحكومة الإسلامية أن ترقب سير المال في الحياة العامة وأن تدرك خطورة انحرافه أو طغيانه على العقائد والأخلاق...
ولا أجد أي حرج في اقتباس ما استحدثه البشر من أنظمة ووسائل لحماية الفرد من طغيان الإستبداد ورأس المال..
والواقع انّ العصور الحديثة لها اجتهاد مثمر ناجح في تنظيم الشورى، وفي إدارة الأعمال وفي حماية الفقراء والكادحين...
ونقل هذه الوسائل إلى بلاد الإسلام ليس بدعة ضلالة كما يزعم المتدينون الجهال، بل تكاد تكون واجباً حتماً عهود التخلف والضياع التي رانت علينا...
ومن السفه استبقاء الشورى في طورها الساذج أيام سقيفة بني ساعدة... واستبقاء العطاء يداً تدفع ويداً تأخذ وحسب!
إنّ العمران البشري اتسعت دائرته وتعقدت أحواله وعلينا مواجهة ما جدَّ بأقضية ذكية مُجدية وما فكرنا يوماً في تعطيل نص أو الشذوذ عن قاعدة، وإنما سعينا إلى تجاوز عصور الإنحطاط والهزيمة التي طال ليلها، مستندين إلى مواريثنا المحفوظة وحدها...
ومن واجب الدولة ضبط العلاقات بين الجنسين داخل إطارها الصحيح، فإن ذوي الفطر السليمة ضاقوا بالتبرج الجاهلي الذي يصحب الحضارة الحديثة، وما انتهى إليه من انحدار وتهتك..
وقد قلنا؛ انّه العجز الفكري والنفسي عند لفيف من المتدينين من وراء هذا التطرف الحيواني الكاسح!
فهم لا يفهمون المرأة إلا وسيلة متعة خاصة، وينكرون عليها إنضاج ملكاتها الروحية والعملية ولا يعون أن لها أي حصة في ميادين التربية وآفاق المجتمع، وخدمة الدين والدولة..
وقد أعياني الحديث مع شباب يوجب تغطية وجه المرأة ويديها، ويحرم عليها الجمع والجماعات، ويذهب إلى جملة من المرويات الشاذة أو المنكرة كي ينزل الدين على رأيه! قلت لهم: انّ عملكم هذا سيجعل النهضة النسائية تزيغ عن الدين، وتلهث وراء الغرب.
وعندما تقولون لابدّ من ضرب الأنقاب على الوجه فسوف يسحب النساء الخمار عن الرؤوس، وعندما تقولون لابدّ من تخبئة الأيدي داخل قفاز فسوف تتعرى السواعد والأيدي جميعاً.
انّ الغلو يستتبع الغلو. انكم تكذبون على الإسلام من جانب وهن يكذبن على الإسلام من جانب آخر، وكلاكما شر من صاحبه!
وأرى أنّ تدخل الدولة في موضوع الزواج وتكوين الأسر، فإنّ النفاق الإجتماعي وتقاليد الرياء جعل من عقد الزواج شيئاً يقصم الظهور، ويستدعي التريث والإرجاء، وإلى أن يتم بعد لأي يقع في صمت وخفاء ما يندى له الجبين، وما لا يقبله دين!!
وثمّ أمر جدير بالإبراز والإثارة! انّ السياسة الفاسدة تبقى وتنمو في جو الثقافة الفاسدة وهي إذا لم تجدها سعت لخلفها واحتضان رجالها.
وأرى انّ كثيراً من المعارف المسمومة والفتاوى الكاذبة والأحكام الطفيلية قد عاشت وغلظت في حضانة الحكم الفردي والإستبداد السياسي، وقد لاحظت انّ جماهير المسلمين خلال عدة قرون احتسبت في مجادلات لا تساوي قلامة ظفر، وهاجت أعصابها في خلافات محمومة لا طائل تحتها...
وذلك في وقت كانت رقعة الإسلام تنكمش، وأعداؤه يشتدون وشؤونه العظمى يبت فيها التافهون..
انني شعرت بأنّ هذا مراد، وإذا لم يكن مخططاً فقد تم لمصلحة الطاغين الذين يعنيهم ان تنشغل الأُمم عنهم وعن مباذلهم.
وفي عصرنا هذا تقوم شتى الفنون والألعاب الرياضية بما يشبه هذا الدور..
ولا أدري لماذا تهتاج أمة لهزيمة رياضية ولا تهتزلها شعرة لهزائمها الحضارية والصناعية والإجتماعية؟؟
والحكم الإسلامي في قرون خلت لم يرتفع إلى مستوى الإسلام نفسه فلا عجب إذا أخفق في تبليغ رسالته وفي الدفاع عنه عندما تعرض له الأزمات..
وقد رأينا الخلافة العباسية في الزحف الصليبي الأوّل، لقد عجزت عن حشد طاقات الأُمّة بل عن جمع صفوفها فإذا الحملات القادمة من الغرب تعوم في دمائنا، لا يردها رادّ! وبقيت الخلافة الواهنة تترنح حتى ماتت تحت أقدام التتار المتعاونين مع الصليبية في السرّ، والمسلمون لا يدرون!
وتكررت المأساة نفسها مع الخلافة العثمانية، حذو النعل بالنعل! ونجح الاستعمار الصليبي الثاني في نبذ الخلافة العظمى(!) والخليفة المسكين، نبذ النواة.
ودفعت جماهير المسلمين من دمها ومن كرامتها ثمن فساد السياسة والثقافة في عالمنا الإسلامي المريض!
وقد تحدثت عن هذا التاريخ بشيء من التفصيل في كتابي: "الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر" وما كررت الإشارة إليه هنا إلا لأني رأيت ناساً يعملون في الحقل الإسلامي لا يعلمون معاقد الدين ولا غاياته العظمى، وهم يجتهدون في استحياء العلل القديمة، يحسبونها أسباب نهضة وما دروا أنها أسباب البوار..!!
إنّ الدولة الأمينة على الرسالة عليها واجبات ثقيلة نحو الأُمّة التي تقوم على تربيتها يمكن إجمالها في النقط الآتية:
أ- تجديد علوم الدين، وتبصير طلابه بالحقائق الرئيسة، وتجاوز القضايا والخلافات التي خلقها الفراغ والترف في بعض الأزمنة، وبيان ما هو قطعي وما هو ظني، وما هو أصلي وما هو فرعي، وتناول المذاهب المختلفة على أنها وجهات نظر ليست معصومة من الخطأ..
انّ تدريس الدين الآن بحاجة إلى إعادة نظر! فهناك معلومات تقدم للكبار فقط، تشحن بها عقول الصغار، وهناك آراء للرجال تقدم على أنها وحي معصوم أو نص ثابت!
وهناك أركان للأخلاق والسلوك تراجعت لتحل محلها صور فقهية ثانوية!
ب- أنّ العناية بالتربية تتطلب محو الخصومة القائمة بين الفقهاء والصوفية، على أساس تجريد التصوف من البدع والخرافات التي التصقت به، ورده إلى كتاب الله وسنة رسوله رداً يدرب الناس على مقام الإحسان، أعني مراقبة الله ومشاهدته..
إنّ الإنسان لا يرقى أبداً بعقله وحده، فكم من ذكي العقل غزير العلم تراه خبيثاً لا تؤمن أطماعه، وكم من منافق عليم اللسان!
وأعرف أنّ عدداً من المنتمين إلى التصوف دعيّ لا ضمير له، غير انّ هذا لا يزهدنا في تعهد القلوب بما في هذا العلم من حكم ثمينة، وتجارب رقيقة..
ولست أحب أن ينفصل العلم عن التربية الروحية، ولا أن تنفصل التربية الروحية عن العلم، فلا قيمة لأحدهما دون الآخر.
جـ- جماهير المسلمين فقيرة إلى تدريب مستمر على الشؤون المدنية وهي بحاجة ملحة إلى مهارات كثيرة في ميادين الحياة، العملية، وتخلفها في هذا المضمار يهزم الإسلام وينال من قدرته على قيادة الناس.
وانّه ليحزنني أن يكون المسلم – لغير سبب واضح – أقل من غيره إجادة للحرف المختلفة.
والحق أنّ ما نراه الآن هو أثر التدين المغشوش الذي سيطر على المسلمين حيناً من الدهر، وجعل فهمهم قاصراً للدين والدنيا معاً..
د- أرى تنظيم فرق للفتوَّة، أو بتعبير العصر فرق للكشافة والجوّالة.
إنّ الرياضة البدنية تصنع الأجسام والنفوس صناعة وتنشئ مشاركات إجتماعية طيبة.
والإهتمام بالرياضة لا يكون بإقامة بعض الأندية المتخصصة في لعبة كذا وكذا.. ربما أفاد ذلك بعض المنتمين لهذه الأندية على حين تتحول الجماهير إلى طائف من المشجعين العاطلين..!!
وقد راقبت الفرق العربية التي تذهب للمباريات العالمية فوجدت أغلبها يعود خائباً صفر اليدين من أقل الجوائز... أمّا الدول العظمى فتظفر بأغلى الجوائز، وتكسر أرقاماً قياسية كما يقولون، فأدركت أننا متعبون جسمانياً وروحانياً على سواء!
وعلاج ذلك العجز يبدأ من تصحيح القاعدة الشعبية نفسها.
قد تقول: ثمّ ماذا؟ بعد أن تنشأ للإسلام أمة قوية الروح والجسد، قوية العقل والعاطفة، أجيب: لن تكون لهذه الأُمّة مطامع جنسية أو مادية ولن تزعم انّ الدم الآري أفضل من الدم السامي، أو أن أولاد يعقوب أشرف من أولاد إسماعيل.
انّ رسالتها أن تكون مع المظلوم حتى ينتصف، ومع المحروم حتى يستغني، ولن تكون لها قداسة! إذا أهانت الحق أو استوحش الحق في جنباتها.
رسالة الأُمّة – كما شرحها كتّابها – فعل الخير والدعوة إليه، عمل المعروف ومحو المنكر!
ومعنى الخير مركز في فطرة البشر وقد يضبطه الوحي الإلهي ويزيل ما يشوبه من لبس وكذلك معنى المعروف، فإنّ العقل والنقل يتطابقان غالباً على إبرازه ودعمه..
وإيراد رسالة الأُمّة تحت هذا العنوان مقصود حتى يعرف القاصي والداني ما هي وجهتها وما هي شرعتها.
إنّ ديناً يزن الأعمال بمثقال الذرة لا يقبل الفوضى الهائلة التي تقع بين الناس سواء كانوا مسلمين أم هوداً أو نصارى...
المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 21 لسنة 1986م
ارسال التعليق