محمد علي الهمشري، وفاء محمّد عبدالجواد، علي إسماعيل محمّد
المجتمع المسلم تحكمه قيم دينية أنزلها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على نبيّه الأمين ليعتصم بها أتباع الدين السماوي الخالص، ولتعصم أفراد هذا المجتمع من الزلل والغواية، ولتهديهم إلى خير الدنيا والآخرة، ولذلك تدعو الشريعة الغراء إلى الاعتصام بحبل الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران/ 103).
فالمسلمون أُمّة ملتزمة، يعملون للدنيا والآخرة في إطار أحكام دستورهم المنزل من ربّهم، وسُنة نبيّهم (ص)، هادي البشرية للخير والاستقامة، الذي يقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" رواه البخاري.
ومن ثم فإنّنا نعجب كلّ العجب كيف يمكن أن تظهر ظاهرة الجنوح في مجتمع صح إسلامه؟ لكنّنا نجد في قرآننا الكريم ما يسري عنا وقوع بعض تلك الظواهر، فالغواية والفجور كما أنّ الاستعداد للتقوى والطاعة والصلاح من الاستعدادات الموروثة في النفس الإنسانية.. الخير والشر معاً موجودان في الطبيعة البشرية، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8).
المجتمع الإسلامي إذن مجتمع تظلله راية الإسلام، ويجمع بين أفراده رباط العقيدة السمحة، ويربط بين أفراده الودّ والتراحم، ويحرص المنتمون إليه على قوته وتماسكه وإزدهاره. والإسلام يحمّل الفرد المسلم والأسرة المسلمة المسؤولية كاملة في تطبيق شعائر المجتمع المسلم والحفاظ على هذا المجتمع وحمايته من كلّ شر. ويعتبر ذلك جهاداً في سبيل الله. والمقاتل الغازي في سبيل الله يعود من الجهاد الأصغر في القتال إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس.
وحواس الإنسان المسلم تجعله مسؤولاً عن كلّ ما يقع تحت سمعه وبصره من حيد عن الصراط السوي للعلاقات في مجتمعه المسلم، وعما يقع منها من زيفه، يقول الحقّ تبارك وتعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36). ويقول سبحانه وتعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء/ 13).
ومن ثم كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على المسلم، يحضّ عليه الدين، ويبشر مَن يقومون به بخير قال تعالى: (الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة/ 112).
والجنوح إفساد في الأرض وعدوان على حقوق الآخرين، والمولى سبحانه وتعالى يقول: (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190). وإتيان الفواحش، وارتكاب الإثم والبغي في الأرض بغير الحقّ جنوح، يقول المولى عزّوجلّ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الأعراف/ 33).
والسعي في الأرض بالفساد جرم كبير، ينذر الله فاعله بالعقاب الشديد، ويدعو إلى محاربة أهله في الدنيا، حيث يقول تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (المائدة/ 33).
وارتكاب جريمة السرقة جنوح، لأنّه فعل موجه إلى أمن الآخرين والعدوان على ممتلكاته، والله يقول: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة/ 38).
والحفاظ على حدود الله أمر واجب على كلّ مسلم، فشرب الخمر أو الزنى أو شهادة الزور أو سباب الغير أمور محرمة في الإسلام، ولكلّ منها عقوبة خاصّة حددتها الشريعة الغراء، وكلّها صور من صور الجنوح توعّد الله مرتكبها بدخول جهنم، قال تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء/ 14).
و(خيانة الأمانة) وعدم أدائها إلى أهلها (جنوح) فيه إضرار بالغير، وهو مخالفة صريحة للدين الذي يدعو إلى رعاية الأمانة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء/ 58).
وشهادة الزور من أكبر الكبائر حذّر الله منها في القرآن الكريم، قال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج/ 30).
ويحرّم الإسلام الحنيف (الغصب) وأخذ حقّ الغير عدواناً وقهراً، قال تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (البقرة/ 188).
ومنهج الإسلام التربوي في إعداد الناشئة للتمسك بآداب الدين وتعاليمه، وللسير حسب مقتضاه شرحه الرسول الكريم (ص) حين قال: "إنما بُعثت معلماً".
ونص على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة/ 2).
والوعظ والنصح والتوجيه ركن مهم في عملية التعليم، وقد سلك القرآن الكريم مسلك الوعظ والنصح والتوجيه، لم يدع جانباً من جوانب إصلاح النفس الإنسانية إلّا عالجه بالعظة المباشرة وغير المباشرة، فالقصص القرآني مليء بالعبر، إلى جانب ما يأتي بطريقة صريحة في هذا السبيل ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان/ 13-19).
والإسلام حين يخاطب الناس فإنّما يخاطبهم جميعاً، كبيرهم وصغيرهم، ذكورهم وإناثهم، وهو يعلم أنّ هؤلاء رُعاة ورعية. والرسول الكريم (ص) يقول: "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيته".
ولذلك يحمل الأبوان المسؤولية كاملة في تنشئة الصغار على أداء الفروض والنوافل، وعلى الالتزام بأحكام الشرع، وعلى محبّة الله وخشيته، وعلى السعي من أجل كسب الخير في الدنيا والآخرة، ويحمل المسجد والمدرسة ومن ورائهما وسائل الإعلام في المجتمع الإسلامي المسؤولية كاملة لتوجيه الناشئة الوجهة الإسلامية الصحيحة، ويتحمّل الحاكم المسلم المسؤولية لتوفير أسباب الحماية والتوجيه وتوفير التربية السليمة للناشئة ليشبّوا على طاعة الله ولحمايتهم من الجنوح والانحراف.
وذا كان العلم الحديث يُرجع بعض حالات الجنوح والانحراف إلى وجود أنواع من القسوة أو الإهمال أو عدم الرعاية المادّية والصحّية والنفسية والتعليمية للأطفال في سنين حياتهم الأولى أو لعدم توافر الاستقرار في الظروف الأسرية التي ينشأ فيها مثل هؤلاء الأطفال فإنّ الإسلام قد حدد لنا السُّبل لتوفير الرعاية الكاملة للمولود منذ ولادته، وحتى تتوافر له القدرة على إعالة نفسه وغيره، ومن ذلك:
ـ الضوابط التي وضعها الإسلام لتكون الأسرة صالحة، بما في ذلك الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الزوجة، وأوّلها شرط توافر الدين، فعن النبيّ (ص) أنّه قال: "إذا جاءكم مَن ترضون دينه فزوجوه" رواه الترمذي.
ـ المناخ الذي ينبغي أن يظلل الحياة الأسرية، بحيث تُبنى الأسرة على المودّة والتراحم، وتكون بمثابة الاستقرار والسكن، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21).
ـ ويوصي الإسلام بحُسن المعاشرة بين الزوج والزوجة، قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء/ 19).
ـ ويحدد سبيل الإصلاح بين الزوج والزوجة إذا ما دبّ الخلاف بينهما، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 35).
ـ ويدعو الإسلام الآباء والأُمّهات وغيرهم من القائمين على أمور التربية إلى حسن تأديب الأبناء. وفي الحديث الشريف قال (ص): "ادبوا أولادكم واحسنوا أدبهم" رواه ابن ماجه.
ـ وخشية أن تولد مشاعر الغيرة والحقد بين الأبناء يدعو الإسلام الحنيف إلى المساواة بينهم في العطية، ففي الحديث الشريف عن ابن عباس (رض) قال: قال رسول الله (ص): "سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مفضلاً أحداً لفضت النساء" رواه الطبراني والبيهقي.
ـ ويحث الإسلام على اختيار الصُّحبة الصالحة، ويكون ذلك أمراً واجباً حتمياً لحماية الصغار من الانحراف، عن ابن حبان (رض) قال: قال رسول الله (ص): "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" رواه الترمذي.
ويروي أبو هريرة (رض) عن النبيّ (ص) قوله: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك (يعطين) أو تشتري منه أو تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً منتنة" رواه البخاري ومسلم.
ـ ولم يدع الإسلام مشكلة (وقت الفراغ) لتضر بالأهداف التربوية التي ننشدها لأبنائنا، فالإسلام يحث على تعليم الأبناء السباحة والرمي وركوب الخيل باعتبارها رياضات تفيد الجسم والعقل والروح وتساعد في القضاء على مشكلة وقت الفراغ. عن أبي هريرة (رض) أنّ النبي (ص) قال: "ارمُوا واركَبُوا، وأنْ تَرمُوا أَحبُّ إليَّ من أنْ تَركَبُوا" رواه الترمذي.
ـ وإذا كان العلم الحديث قد توصل إلى الأمراض التي تعتري الانسان فتترك بصماتها على هيئة اضطرابات سلوكية يرجع بعضها إلى العصاب Neurosis أو إلى الذهان Psychosis، وذهب في تشخيص الاضطرابات السلوكية الناتجة عن تلك الأمراض شوطاً بعيداً، وتوصل إلى أنواع من العلاج الدوائي والنفسي لها، فإنّ الكثير من تلك الحالات لم يكن موجوداً إبان صدر الإسلام حيث كان الناس بعيدين عن الضغوط النفسية والاجتماعية التي جلبتها الحياة في المجتمعات الحديثة، بما يحكمها من سياق مادّي وتكنولوجي في ظروف بالغة الصعوبة. وهناك الآن مَن يعيش تحت مستوى الفقر، وهناك مَن تتوافر له أسباب الغنى والثروة وبلا حدود، بل هناك شعوب كاملة لا تجد قوت يومها، بينما هناك دول تلقي بفائض الحاصلات الزراعية في عرض المحيط، وهناك أسلحة فتاكة وحروب كيميائية وإشعاعات نووية ومستقبل يتهدده الفناء بين لحظة وأخرى، مما جلب الكثير من المعاناة للبشر.
ومع ذلك فإنّ الإسلام الذي كان يكفي المسلم فيه أن يلجأ إلى الوضوء والصلاة ليزيل الكثير من أسباب القلق والتوتر، وإلى قراءة القرآن ليذهب عنه الكثير من الخوف، ولتعود إليه الدعة والاطمئنان.. هذا الإسلام يدعو البشرية إلى التحاب والتعاون لتظلل راية الإسلام والسلام والمعمورة.
وهو لا يحول بين المسلم وبين اللجوء إلى التداوي بسائر السُّبل المتاحة، ومع ذلك فإنّ المسلم الصحيح الإسلام لا يقطع صلته بالله، وهو يردد دائماً قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 62).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق