حين يكون الإبداع مشروطاً أو محدوداً أو مجرّداً عن ماهيته وغاياته يفقد كثيراً من خصائصه الإبداعية، ويتحول إلى نوع من الفنتازيا، أو إلى شكل من أشكال الدعاية والإعلان والشعارات الفضفاضة، أو إلى نوع من الخطاب الوعظي المباشر عديم الفائدة.
ويشهد تاريخ النقد الأدبي من أفلاطون وأرسطو إلى الجمحي والآمدي وابن طباطبا، والجرجاني، وتاريخ المدارس الأدبية المتعددة من رومنتيكية، ورمزية، وسريالية، وواقعية، وحتى المدارس المعاصرة كالبنيوية، والألسنية، والتفكيكية وأهم الأعلام الغربيين الذين كانوا حملة راية هذه المدارس أمثال: ده سوسير، وفوكو، ولاكان، وبارت، وديريدا، وهابر ماس، وفال وغيرهم كثيرون يصعب أن نحيط بسائر المسائل والقضايا النقدية التي درسوها في هذا المجال.
يشهد تاريخ النقد الأدبي والفني أنّ الإبداع في الحضارات المختلفة والعصور المتعاقبة لا يمكن أن يحدّ في إطار نظري واحد، بل هو منفتح الآفاق، يجوب الفضاءات الرحبة في الجهات كلها، ويتنوّع تبعاً لتنوّع الثقافات، وخصوصية المبدع ذاته، ولذلك فإن لكل مدرسة أدبية أو فنية مشروعيتها في السياق الإبداعي، ولكل مبدع خصوصيته، وحريته في اختيار هذه المدرسة أو تلك، ومبرر إبداعه وتمايزه في ظروف حضارية وفكرية واجتماعية معينة، يصوّر الحياة بظلال ألوانه، أو بمداد حروفه أجمل تصوير، ويكون الشاهد الأمين على عصره الذي عاش فيه، والمجاهد الصادق الشجاع باللون واللحن والحرف مدافعاً عن الحق والخير والفضيلة والجمال، يحمل راية التطوير والتنوير، ويمشي حاملاً صليبه في المقدمة، بعد ذلك لابدّ أن يدخل التاريخ من بابه الواسع، ويغدو في نهاية المطاف عنصراً هاماً من نسيج الظاهرة التاريخية، ألم يصبح الكاتب السوري القديم (لوقيانوس السميساطي) جزءاً هاماً من الظاهرة التاريخية من خلال محاوراته التي تشبه لوحة فسيفسائية ذات ألوان وظلال تصوّر عادات تلك المرحلة وتقاليدها وآدابها وفنونها؟ إنّه لم يكتف بالتصوير الوصفي الفوتوغرافي للواقع، بل قدّم بأسلوبه الساخر، وسفسطائيته المقنعة نقداً لكثير من العادات والخرافات التي كانت سائدة آنذاك، بيد أنّه لم يتعد الأفق الذي يسيء إلى إبداعه وفنه وأسلوبه في محيطه الاجتماعي، واستطاع ببراعته الفنية أن يخزي ويدحض أفكاراً، وعادات معيقة للتطور والوعي عن طريق الحوار الهادئ الرصين، والأسلوب الأدبي الرشيق، في إدارة الأحاديث الخاصة وعرضها، ونجح في تقديم أفكاره البديلة، التي لاقت قبولاً عند الجماهير، لأنّه ساقها بسخرية عذبة، واكتسب شهرته من محاوراته مع الآلهة التي تشكل القسم الأوّل من الكتاب، والمؤلفة من ستة وعشرين حواراً ساخراً تعدّ إلى جانب محاورات البحارة، ومحاورات الموتى التي يوظف فيها شخصيات أسطورية تاريخية خالدة استنطقها وحاورها بسخرية بارعة ليقوّض جميع الأعراف والخرافات والتقاليد التي طغت على مجتمعه حينئذ، تعد إحدى أهم الشواهد الحية على فاعلية الأدب في الارتقاء بوعي المجتمعات البشرية. وقد وصف المؤرخ فيليب حتي طريقة لوقيانوس الذكية المقنعة هذه بقوله: "تهدف إلى السخرية والإضحاك، وتعتمد على البلاغة وفنونها، ولذلك كانت قدرته على التفنن في الحديث من أهم الركائز التي اعتمد عليها بحواره الذي اعتبره النقاد مثلاً يحتذى، وهيأ له مكانة بين المشاهير من ذوي الأساليب المعروفة بالحوار، وبهذا يُعدُّ مبدع عهد جديد بتاريخ الحوار". وحين نعود بالذاكرة إلى الثقافة العربية في المجتمع القديم، ونستقرئ المراحل التاريخية التي واكبتها الثقافة بوصفها إبداعاً، وبوصفها أنماط سلوك وعادات وتقاليد، ويتناقلها الأبناء عن الآباء، والآباء عن الأجداد؛ ندرك أنّ المجتمع العربي انتقل من مرحلة المشاعة والإقطاع إلى مرحلة الزراعة ثمّ الصناعة ثمّ التكنولوجيا وحالياً المعلوماتية وثورة الاتصالات الحديثة بشكل تدريجي. لم يكن هناك انتقال في الفراغ ولا سباحة في الهواء الطلق، بل كان هناك تطور وانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل يتناسب مع تطور الوعي الجماهيري. ونحن لدينا من تلك المراحل السابقة معطيات تراثية وثقافية، لا تزال تشكل جزءاً لا يتجزأ من نسيج ثقافتنا المعاصرة، لأنّ الإبداع على اختلاف مدارسه كان ولا يزال مواكباً لتلك التحولات، بل هو الحامل والمؤثر فيها على الدوام والموثق لمراحلها المختلفة. حيث بالضرورة لا يجوز أن يكون هناك قطع بين المراحل، ولا يجوز أن يكون هناك فصل بين ما يبدع الشاعر أو الكاتب أو الفنان من نص شعري، أو أدبي، أو لوحة فنية، أو لحن موسيقي، وبين موقفه وسلوكه. فالنتاج الإبداعي متصل بمبدعه اتصال الروح بالجسد، ومتصل أيضاً بحاضنته الاجتماعية والبيئة التي تفجر في إطارها، وحسب ضرورات ومستلزمات العصر الذي يعيش في كنفه المبدع. وفي ذلك يصح قول أحدهم: "الفنان في نصّه مشتبك لا محالة مع عنصري الزمان والمكان. الزمان بما يمدّه من معارف تحمل خلاصة ما وصل إليه تطور البنية البشرية، والمكان بما يتيح للمبدع كمنتج فكري داخل الحاضنة الاجتماعية فرص التعبير عما توصل إليه، ومادام الفنان إنساناً متطور الحس والحساسية، فسيظل يتداول هذه العملة، ويتعامل بها مع كل ما هو خارج ذاته أكثر من غيره، رغم إدراكنا مسبقاً أنّ الحساسية لا تعني بالضرورة الوعي الاجتماعي". إذاً الإبداع الفني والأدبي من هذا المفهوم ترجمة متطورة وراقية للتعبير عن الأحاسيس الإنسانية تجاه الخارج، والمقصود بالخارج هنا المؤثرات البيئية المحيطة بذات المبدع، وبهذا المعنى فإنّ الإبداع يأتي حصيلة تفاعل المؤثرات الخارجية مع وعي الذات المبدعة، فهو أي الإبداع ليس داخلياً محضاً ولا خارجياً محضاً، بل هو نتاج تلاقح الخارج والداخل وانصهارهما معاً، والتغيير الذي يهفو إليه المبدع، ينبغي بالضرورة أن يكون موائماً بين هذا الخارج الذي ليس كله سيئاً، وبين ذات المبدع التي تتفاوت أيضاً في درجة وعيها، وحرصها على ما هو ثابت ورئيس في البنى التحتية لمجتمعها. تلك البنى التي تشكل الحامل الأهم لكل تطوير وتغيير. ولابدّ للمبدع أن يتفهم طبيعة المرحلة التي يعيش فيها، وطبيعة المعركة التاريخية التي يخوضها الفعل الإبداعي بصدد تحرير نفسه أوّلاً للانطلاق إلى أبعد الآفاق، وفي تحرير مجتمعه من القيود الراسخة به المعيقة لانطلاقته ثانياً، ولكن بشيء من التوازن والحرص على الأخلاقيات الأساسية والقيم الإيجابية التي تساهم في تعزيز تلك البنى وتصليبها ورفع كفاءتها في مقاومة التحديات التي تواجهها. من هذا المفهوم تتأكد المقولة الخالدة "لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير" وفضاءات حرية المبدع لا حدود لها مادامت تلك الحرية تحمل أنسام الحق والخير والجمال. وليس العكس. حين يستبدل المبدع راية الإبداع الحق براية أخرى مناهضة للقيم والأخلاق والهوية، ويخضع لمغريات العرض والطلب والاتجار، والاستحواز: "فلا معنى للحرية بدون الإنسان الكائن العاقل، ولا معنى للحديث عن الإنسان الفرد بدون الجماعة، فالحرية هي حرية الجماعة بكل أفرادها، وإن تقييد الحرية هو اعتداء على الحرية، والحرية مبعث الإلهام والفكر، وتُعدُّ من أهم عوامل الإبداع والعطاء الذي تميزت به حركة الفكر والثقافة".
المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 468 لسنة 2002م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق