• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الثابت والمتغير في حياة الإنسان

السيد محمد حسين الطباطبائي

الثابت والمتغير في حياة الإنسان

العامل الأساس في وجود المجتمع والقوانين والعقود الاجتماعية هو احتياجات الإنسان الحياتية.
للشعوب جميعها حتى الهمجية منها قوانين ونظم خاصة بها.
الفكرة السائدة اليوم ترى في رأي أكثرية أفراد المجتمع وسيلة لتشخيص الاحتياجات.
رأي الأكثرية لا يطابق الواقع دائماً.
ثمّة مجموعة من القوانين تتغير بتغير الظروف الزمنية وبتطور الحضارة، وتلك قوانين ترتبط بأوضاع وملابسات خاصة.
هناك مجموعة أخرى من القوانين ترتبط بأصل "الإنسانية" الذي يشترك فيه جميع أفراد البشر في جميع العصور والأدوار وفي جميع الظروف والملابسات.
كثيراً ما تمر أمام ناظرينا بحوث علم الاجتماع وهي تؤكد على أنّ الإنسان مدني واجتماعي بالطبع. إنّ هذه الظاهرة المشهودة في طبيعة الإنسان ما هي إلا نتيجة قصوره عن سد الاحتياجات التي تكتنفه لوحده، لذلك كان لزاماً عليه أن يعيش الحياة الجماعيّة.
وتؤكد البحوث القانونية على أنّ المجتمع لا يستطيع أن يسد احتياجات الأفراد الحياتية إلا بوجود قوانين ونظم تتحكم، ليستطيع الأفراد من خلالها اكتساب حقوقهم الحقة، ولينالوا ثمرة تجمعهم.
يتضح مما سبق انّ العامل الأصلي في وجود العقود والقوانين الاجتماعية هو احتياجات الإنسان الحياتية التي لا يستطيع أن يعيش بدون سدِّها لحظة واحدة وهذه الاحتياجات نفسها هي التي أدت إلى ظهور المجتمع وإلى إيجاد القوانين والعقود الاجتماعية.
من الطبيعي أنا لا نستطيع أن نطلق على كيان اجتماعي – لا يسد احتياجات أفراده، ولا ارتباط بين أعمال أعضائه – اسم المجتمع. كذلك القوانين والمقررات التي لا تؤمّن سدّ المتطلبات الاجتماعية للأفراد ولا تضمن سعادتهم ورفاههم ليست بقوانين واقعية لأنّها قاصرة عن أداء المهمة التي وجدت من أجلها.
إنّ وجود النظم والقوانين – على تفاوت درجة كما لها – ضرورية حتى في المجتمعات المتوحشة البدائية. إلا أنّ القوانين في هذه المجتمعات البدائية تتخذ صورة الأعراف والتقاليد المحلية المتمخضة عن صدف تدريجية عشوائية، أو إرادة فرد متجبّر أو أفراد معدودين، ولا يزال هذا النوع من القوانين البدائية متحكماً في بقاع معيّنة من عالمنا.
والمجتمعات المتقدمة على قسمين: إما أن تكون دينية فتتحكم فيها الشريعة السماوية، وإما أن لا تكون دينية فتكون القوانين المتنفّذة عندئذ نابعة من إرادة أكثرية أفراد المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر. وبشكل عام، فإننا لا نلفي مجتمعاً يخلو من قوانين تتحكم فيه.

- تشخيص الاحتياجات:
اتضح مما سبق انّ الاحتياجات الحياتية للإنسان عامل رئيسي في ظهور القوانين والعقود الاجتماعية، وإننا نريد في هذا الفصل ان نتبين الوسيلة التي نستطيع من خلالها ان نشخص هذه الاحتياجات.
غير خاف انّ الإنسان يستطيع بطريق ما ان يشخّص احتياجاته، لكن التساؤل الذي يثار في هذا الصدد يتعلق بإمكان وقوع الخطأ في هذا التشخيص وبمدى قدرة الإنسان على التوصل إلى ما فيه سعادته وموفقيته.
من الشائع في عالمنا اليوم إن إرادة الأفراد هي وسيلة تشخيص النظام الأصلح، ولما لم تكن إرادة أفراد الأُمّة متفقة غالباً، فإن إرادة أفراد الأُمّة متفقة غالباً، فإن إرادة الأكثرية (نصف المجموع + 1) هي التي تؤخذ بنظر الاعتبار، وبذلك تصادر إرادة الأقلية (نصف المجموع – 1) وتسلب منها إرادة العمل.
لا يمكننا أن ننكر – طبعاً – الارتباط المباشر بين إرادة الإنسان ووضع معيشته.
فالفرد الغني الذي توفّرت لديه متطلباته الضرورية تخطر في ذهنه آلاف الأهواء والمرامي التي لا يفكر فيها الفقير المحتاج.
والفرد الجائع يطمع في أخس القوت، ولو كان من مال غيره، بينما يمدّ الغني يده إلى ألذّ الطعام بتأن وتدلل.
من هنا فإنّ التطور والتمدّن يغيّران من احتياجات الإنسان، وهذا التغيّر يتطلب نوعاً من القوانين تتلائم مع الحالة الجديدة للمجتمع. ولذلك فإنا نرى القوانين والنظم في حالة تغيّر مستمر عند الأمم الحية، وسبب هذا التغيير – كما أسلفنا – هو إرادة الأكثرية حيث أعطى لهذه الإرادة صبغة الواقعية والرسمية، حتى إذا لم تكن هذه الإرادة ذات صلاح واقعي للمجتمع.
فالفرد الفرنسي محترم الرأي إن وافق الأكثرية، وما يريده القانون الفرنسي هو إرادة الإنسان الذي يعيش في فرنسا في القرن العشرين المنصرم، لا الذي يعيش في بريطانيا ولا الذي يعيش في القرن العاشر مثلاً.
ينبغي الآن أن نتأمّل العامل المتحكّم في احتياجات الإنسان بدقّة: هل إنّ هذا العامل في تغير دائم مع تطور المدنية وتقدمها؟
وهل هناك عامل مشترك بين المجتمعات الإنسانية على مر العصور؟
إننا نسلم بتغير بعض الاحتياجات بتغير أوضاع وأحوال المجتمع البشري.. لكن الحديث حول الاحتياجات التي ترتبط بأصل الإنسانية.. هل هي في تغيير دائم أيضاً؟
هل إنّ الإنسان البدائي كان فاقداً للعين واليد والرجل والقلب والكلية وأعضاء الهضم وغيرها من الأعضاء التي نمتلكها اليوم أم إن وظائف هذه الأعضاء قد تغيّرت؟
هل إنّ الحوادث التي كان يواجهها الأسلاف كالحرب مثلا لها غرض آخر غير سفك الدماء وإزهاق الأرواح؟
وهل إن آثار تعاطي الخمر في العصور الغابرة كانت غير التي عليها اليوم؟ وهل إن وقع الموسيقى والغناء على السمع في زمن مضى كان يختلف عن وقعه اليوم؟
وهل إن تكوين الإنسان الأولى من الناحية الطبيعية وردود فعله الداخلية والخارجية تختلف عما عليه الإنسان المعاصر؟
لا يمكن بأي حال من الأحوال الإدعاء بغياب الطبيعة الإنسانية واضمحلالها، ولا يمكن القول بأن ثمّة شيئاً قد حل محلها.
للطبيعة الإنسانية سلسلة من الاحتياجات المشتركة بين العنصر الأسود والأبيض، وبين جيل الشباب والشيوخ، والعالِم والجاهل، والإنسان القطبي والاستوائي، وإن إرادة الإنسان كانت دوماً تندفع في اتجاه سد هذه الاحتياجات. وهذه تستدعي وجود مجموعة من القوانين الثابتة لتنظيم ما ثبت من احتياجات الإنسان ومتطلباته.
لا تستطيع أُمّة في أي عصر كانت أن لا تحارب عدواً يهدد حياتها إن وجدت للحرب مقدرة وسبيلاً؟
ولا تستطيع أن تحول دون إراقة الدماء إن كان دفع العدو لا يتم إلا عن طريقه. وليس بمقدور سلطة منع أفراد المجتمع عن تناول الطعام اللازم لاستدامة حياتهم، ولا تستطيع أن تقمع شهواتهم الجنسية، ونظير هذا كثير مما لا يرتبط بالجانب المتغير من حياة الإنسان.

المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 37 لسنة 2010

ارسال التعليق

Top