• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مَنْ هُم عبادُ الرَّحْمن؟

أسرة البلاغ

مَنْ هُم عبادُ الرَّحْمن؟
القرآن عندما يتحدّث عن حقيقة، والوحي عندما يستعرض فكرة، يحاول أن يرسم للقارئ صورة، ويجسِّد له مشهداً، ويضع بين يديه وضوحاً وبياناً بأُسلوب خَصِب، وعرض مؤثِّر، وتقصٍّ متقن وبعبارة وجيزة، وطريقة رائعة تملأ المشهد حيويّة، ونفيض على أبعاد الموقف جلالاً وروعةً، إلى درجة يحسّ معها المتلقِّي بالإندماج مع الفكرة، ويستشعر المتعامِل معها بالاتحاد والتفاعل مع الصورة، فتعيش أفكاره مع القرآن، ويمتد وعيه مع آفاق الوحي، دون أن يشعر بالانفصام، أو يحسّ بالفجوة والبُعْد بين الصورة والحقيقة التي يتعامل معها. والقرآن في مقطوعته الوصفية الرائعة لعباد الرّحمن، قد عالج الموقف بهذه الطريقة، وعرض المشهد على هذه الشاكلة، فهو عندما تحدّث عن عباد الرّحمن، عرضهم نموذجاً حركيّاً للإنسان تُجلِّلهم صِفَة العُبّاد وتميِّزهم صِبْغَة الإيمان. وقد أحاطهم بالعناية والنسبة إلى الرّحمن، فهم عباد مُصْطَفون من خليط البشرية، ومختارون من بين الجموع للانتماء إلى هذا المجد العظيم (عباد الرّحمن)، وللانضواء تحت لواء هذا الشرف الرفيع (صفة الرّحمة). ولذا تحدّث عنهم وهم يظهرون بخطِّ ريشته، صفوة متميِّزة عن غيرها في حركة الحياة الزاخرة بالصراع والمتناقضات، والمليئة بمختلف الاتجاهات والعبوديات، والموسومة بشتّى مياسم الانتساب والانتماءات. وهو عندما تحدّث عن أولئك اختار لهم انتماءً عَزّ مَنْ يحظى به، ونسبة قلّ مَن يتسامى إلى الانضواء تحت لوائها وهي (العبوديّة للرّحمن). والمتأمِّل في القرآن يعرف أنّ القرآن لم يستعمل ألفاظه جزافاً، ولم يطرحها حشواً، بل لكلِّ اختيار من الألفاظ عنده غاية، ولكل كلمة في عرفه معنىً، ولكلّ أسلوب في عرضه هدف. والقرآن عندما نسب هذه الصفوة إلى اسم معيّن من أسماء الله (الرّحمن)، إنّما قصد العلاقة المناسبة بين الرّحمن وبين المنتسبين إليه، فحقّ أن يسحب هذا الوصف عليهم، ويغدق هذا الشرف على انتمائهم، لذا فهو لم يصفهم بعباد الجبّار، ولم يطلق عليهم اسم عباد القاهر، ولم ينسبهم إلى باقي الأسماء المقدّسة، بل جاء اختياره لهذه النسبة، وتحديده لهذا الانتماء بقصد تشخيص الرابطة التي تكمن بين التسمية والانتساب. والمتعامل مع ألفاظ القرآن يدرك أنّ القرآن عندما ينسب إلى اسم من أسماء الله، أو عندما يعقِّب بذكر صفة من صفاته المقدّسة، إنّما يستعمل ذلك اللّفظ – الصفة أو الإسم – ليفسِّر به العلاقة بين الخلق وخالقه، ويوضِّح الرابطة بين الصفات المقدّسة في موضع الورود وبين متعلّقاتها. فأسماء الله تعالى هي وسائط بين الله وخلقه، وارتباط الوجود بهذه الأسماء والصفات ليس ارتباطاً تصوّرياً مجرّداً، وتعبير القرآن عن هذه الحقيقة ليس صياغة أدبيّة لتحسين الأُسلوب، أو وسيلة لِعَرْض الفكرة، مجرّدة عن علاقة حقّة بين الصفة والموصوف بها، بل يستهدف القرآن في كلّ ذلك تشخيص الحقيقة والتعبير عن العلاقة. فهو يقصد من ضمّ هذه الصفوة تحت صفة الرّحمة، ونسبتها إلى هذه الصفة الإيحاء لها بالأمن والسلام، وتأكيد وقايتها من طائلة الغضب والجبروت التي يتعامل بها الله سبحانه مع العُصاة والمجرمين. وهم ما استحقّوا هذا الإنضواء إلا بعد أن أشرقت في نفوسهم أنوار الرّحمة، وامتدّت في آفاقهم ظلال الهدى، فصاروا عباداً رحمانيين، متجاوبين مع هذه الصفة، يتعاملون مع الخلق بأُسلوب الرّحمة، وينسابون على الأرضِ بِخُطى الودِّ والسّلام. عرفوا أنفسهم، وأدركوا خالقهم، فخلعوا له رِداءَ الكبرياء، وتواضعوا بين يديه بهوانٍ وتصاغر، فلا عالَم الأشياء المتلاطم – بصوره وأحداثه – يملأ قلوبهم، ولا ضجيج الحياة وزُخرف الدُّنيا يزرع الكبرياء في نفوسهم. كيف وقد انفتحت آفاقهم على ذلك العالم القدسي!! فأطلّت عليه أرواحهم، حتى صاروا هم والدُّنيا كزائر مودِّع، وهم والآخرة كقاصد يرجو الوصول. مشي عباد الرَّحْمن فاستحقوا أن يصفهم الرّحمنُ ثانياً عليهم (بعباد الرَّحْمن) فيقول فيهم: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63). وبذا استحقّوا أن يعرضهم قدوة رائدة في طريق الحياة، متّصفين بأخلاق الرّحمن، يعفون ويصفحون، فيشيعون في ربوع الأرض السلام. فهذه الرّوح التي تسامحت نحو خُلق الله وسعت كلمة الرّحمن، لا تضيق بالتجاوز عن الجاهل ولا ترضى بالنزول إلى مستواه. وعباد الرّحمن حينما يعفون ويصفحون، وحينما يطلقون بوجه الجاهل كلمة السلام، إنّما يفعلون ذلك رجاء أن تزرع الكلمة في نفس هذا البائس موقف الهُدى، أو تحرِّك في نفسه إحساس الخير، عَلّهُ يستضيء بنور الكلمة، أو يستوحي قيم الروح النبيلة؛ فليس لدى العالِم أفضل من الصّفح والسّلام وهو يتعرّض لخطاب الجاهل وحواره. وعباد الرّحمن هم أولئك الّذين وعوا حقيقة الوجود، واستشفّوا أبعاد الحياة، وعرفوا صفة الرحمن، فاستهاموا بحبِّه وقُربه، واختاروا اللّيل بصمته وسكونه المعبِّر، ليكون موعداً للقاء وملتقى للمناجاة. مبيت عباد الرَّحْمن أمّا النوم فقد غرقت أطيافه في بحر هذا الحبّ السرمدي، فلم تعد ترسو على مرفأ الأجفان، فباتوا في محراب الحبّ سجّداً وقياماً: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان/ 64). يستمتعون بلذيذ المناجاة، ويتذوقون طعم القرب الّذي حُرِمَ منه المحجوبون عن عالم القدس، المغلّفون بدِثار العوالم الكثيفِ، الّذي كدّر صفو الروح فيهم، وشوّه جمال السعادة عندهم، فعاشوا متاهات البُعْد عن الحقيقة الّتي يسعى الوجود نحوها، وقاسوا آلام المعاناة في البحث عبثاً عن غيرها. إنّها الحقيقة الكبرى الّتي يبحث الإنسان عنها. إنّها سرّ السعادة الفطري الّذي انطوى عليه ضميره. إنّها الغاية الكبرى الّتي يبحث عنها، كلّما أطلّ على حقيقة وهو يهيم في عوامل البُعْد والتيه النائية. إنّه الحقّ الذي أفاض على العوالم حرارة الشوق إليه، وزرع في أعماقها بذرة الاتِّجاه نحوه، فكلّ معبود – سواه – منحه الآخرون وجهتهم، أو اتّجهوا إليه بحبِّهم فهو صنم متحجِّر في هياكل الفناء. وعباد الرّحمن هم أُولئك العباد العارفون الّذين تفحّصوا العالَم فلم يروا فيه الحقيقة والغاية، بل بدا لهم كتاباً مفتوحاً يتحدّث عن عالَم الحقيقة، ورسالة صامتة تنطوي صفحاتها على كلّ رمزٍ معبِّرٍ وحرفٍ مُوحٍ بأنوار ذاك العالَم المحجوب.. ذلك العالَم الّذي يفيض على النفوس سعادة القُرْب والحضور، فيتجلّى لكل روح تشرق فيها أنوار ذاك الجمال القدسي، الّذي يوحي به كتاب الوجود بصمته الناطق، ويتحدّث عنه بنطقه الصامت، الّذي ألفوه لغةً وحواراً. فكلّ ظاهرة في عالمهم الصامت هي كلمة في كتاب الكون الكبير، تنطق بلسان الحقيقة، وتشرح للقارِئ العارِف فكرة، أو تحمل لعقله المتأمِّل معنى. وهم حينما يتأمّلون في كل حرف على صفحات هذا السفر العظيم، إنّما يبحثون عن عالِم خطٌّ سطور هذا الكتاب، ومُبْدِع صاغَ عبارات هذه الرِّسالة، فليس ما فيه من سطور ورموز هو الّذي يشغل بالهم، أو يستهوي نفوسهم، أو يستوقف مسيرتهم، بل هم عشّاق يبحثون عن يدٍ خطّت رسالة هذا الكتاب العظيم، وهم روح توّاق يستشف أبعاد هذا الهيكل المنتصب حجاباً. فجمال العالَم وجلاله عندهم محراب عبادة، وليس معبوداً يؤهِّلونه، كما يفعل غيرهم من السذّج المخدوعين، فهم كلّما اكتشفوا من عوالمه رمزاً، أو صادفوا في تآلفه جمالاً، إزدادوا من عوامل النور قرباً، وامتلأوا لجمال ذاك الوجود شوقاً. أُولئك عباد يبيتون لربِّهم سجّداً وقياماً، إنّهم يعيشون تجربة الحبّ الإلهي الفريدة في عالم الإنسان، فهم قد اختاروا العيش بأرواحهم مع الطائفين في مسارب النور حول عالَم القدس، فساروا في مسالك الشوق نحو عالم القرب، ليردّدوا وهم في عالَم البُعْد زجل الملائكة القدِّيسين اُنشودة الوصل والتقديس: سبّوح قدّوس. سبحان ربّنا الأعلى. لم يكن له كفواً أحدٌ. لَهُ الحمدُ. إهدنا الصراط المستقيم. صِل بيننا وبينك بطريق يؤدِّي إليك، فلا نُخطئ المسير، فتضلّ الرحلة، وتتيه السفينة، وينقطع الوصل، ونفقد المعبود الحبيب. نحن سائرون إليك في رحلة الروح، على بحار النور، نستهدي بومضات الإشراق الوافدة على قلوب السارين إليك في مسيرة الشوق والبحث البعيدة. إنّا نخاف ضياعَ السفينة وتيهَ الرَّبّان، وتلاطمَ أمواج الخطر، ونخشى معاناةَ الضّلال، ونيرانَ البُعْد فنظلّ نبحث دونما جدوى عن شاطئ السّلام، في بحار التَيهِ والعذاب: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) (الفرقان/ 65). إنفاق عباد الرّحْمن أولئك عباد الرّحْمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67). وعباد الرّحْمن الّذين وعوا معنى الوجود، وعرفوا قيمة الأشياء في هذا العالَم، لم يكن دأبهم التعامل معها إلا بصيغتها الكونيّة المحسوبة، اتساقاً مع قانون الطبيعة وانسجاماً مع نظام السلام في الحياة، فكلّ شيء عندهم بمقدار، وكل شيء – بمفهومهم – له في الوجود موضع وغاية، فهم إذا ما تعاملوا مع ما في الحياة من خيرات وثروات ونعم وموجودات، لم يتعاملوا معها إلّا وفق هذا المفهوم والتقويم الواعي للأشياء، فكلُّ شيء في عُرفهم يجب أن يحتلّ موقعه ويؤدِّي دوره في عالَم الوجود، فلا يجوز حبسه أو منعه عن أن يُستعمل في موضعه المحدّد له: لأنّهم يعلمون أنّ الشّحّ والبُخْل يمنع النفس من التطابق مع مبادئ الخير في الحياة، وهم يعلمون أنّ الشّحّ مرض تُصاب به النفوس التافهة الضعيفة التي تتصوّر أهميّتها وقيمتها في جمع المال وتكديس الثروة، فهم يرون الجَشِع اللّئيم هو المغرور ببريق المال والثروة، وهو المخدوع بحبِّها وجمعها، ليرضي في نفسه نزعة الإحتواء والخلود في هذا العالَم الزّائل، فهو يبحث عن الخلود في عالَم الفناء. وفي عُرْفهم أنّ خيرات الوجود – كل خيرات الوجود – ليست إلّا وسيلة لتموين رحلة الحياة العابرة. فَلِمَ الجمع وهم راحلون؟ وعلامَ البُخْل والمنع وهم يعتقدون العوض والجزاء؟ وكيف يبخلون، والوجود فيض لا ينقطع، وعطاء لا ينفد؟ وهؤلاء العباد، عباد الرّحمن، عندما اجتازوا عقدة الجشع والإحتواء الذميم، لم يتخطّوا بهذا الإجتياز حدود الاعتدال والموازنة ليسقطوا في رذيلة الطيش والعبث والإسراف، فيعبثوا أو يعتدوا على نظام الحياة، فيضعوا الأشياء في غير مواضعها، أو يغيِّروا مواقعها التي خُصِّصت لها، أو يمنحوا الأُمور غير استحقاقها، فدأبهم الاعتدال، ومذهبهم الاقتصاد، وأخلاقهم الإتزان والانضباط: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا). فمجتمعهم لا يعرف التقتير والإسراف، ولا تنمو فيه مأساة الفقر إلى جانب بحبوحة الثّراء، شأن مجتمعهم في ذلك شأن حقائق الوجود الأخرى، يملأها الغنى ويسيِّرها الاعتدال والإتزان، فكل إنسان في مجتمعهم يأخذ حاجته ثمّ يمرّ بسلام، ليترك لغيره مثلما أخذ لنفسه. دعوة عباد الرّحْمن وأُولئك الرّحمانيّون: (لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ...) (الفرقان/ 68). فهم الموحِّدون الّذين أدركوا حقائق التوحيد فألّهوا وعبدوا الإله الأحد، حتّى صار التوحيد عندهم مذهباً ووعياً ومنهجاً للحياة، وحقيقة كُبرى تملأ ضمائرهم، وتستوعب عالمهم، وتستحوذ على وعيهم وإحساسهم، فوقفوا مذهولين أمامها لا يدركون لغيرها أثراً، ولا يستهدفون سواها غاية.

ارسال التعليق

Top