• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تأملات في سورة «آل عمران»

د. محمد سيد طنطاوي

تأملات في سورة «آل عمران»

1- سورة "آل عمران" هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف، إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة، وتبلغ آياتها مائتي آية، وهي مدنية باتفاق العلماء.
وسميت بسورة "آل عمران" لورود قصة آل عمران بها، بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد في غيرها.
والمقصود بآل عمران: عيسى، ويحيى، ومريم، وأمها، والمراد بعمران: والد مريم الذي ينتهي نسبه إلى سيدنا إبراهيم، وقد ذكر العلماء أسماء أخرى لهذه السورة الكريمة منها:
أ‌- أنها تسمى بسورة "الزهراء" لأنها كشفت عمّا التبس على بعض الناس من أمر عيسى (ع).
ب‌- وتسمى بسورة "الأمان" لأن من عمل بتوجيهاتها أمن الخطأ في الأحكام لاسيما التي تتعلق ببعض الأنبياء.
ت‌- وتسمى بسورة "الكنز" لتضمّنها الأسرار التي تتعلق بعيسى (ع).
ث‌- وتسمى بسورة "المجادلة" لنزول عدد كبير من آياتها في شأن الجدال الذي دار بين الرسول(ص) وبين نصارى نجران.
ج‌- وتسمى بسورة "طيبة" لجمعها الكثير من أصناف الطيبين في قوله تعالى: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) (آل عمران/17).
2- قال الإمام القرطبي – رحمه الله – عند تفسيره لهذه السورة ما ملخصه: "وهذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار، فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وبأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران...".
ثم قال الإمام القرطبي: وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران، وكانوا قد وفدوا على رسول الله (ص) إثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحبرات أي: ثياب جميلة.
قال بعض الصحابة: ما رأينا وفداً مثلهم جمالاً وجلالة.
وحانت صلاتهم، فقاموا فصلّوا في المسجد إلى المشرق، فقال النبي(ص): دعوهم، ثم أقاموا بها أياماً يناظرون رسول الله(ص) في شأن عيسى (ع) وكان رسول الله(ص) يرد عليهم بالبراهين الساطعة، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية، إلى أن دعاهم رسول الله(ص) إلى المباهلة".

- قسمان واضحان:
3- والمتأمل في سورة "آل عمران" يراها تكاد تنقسم إلى قسمين واضحين: يراها في القسم الأول منها تتحدث عن أهل الكتاب حديثاً مفصّلاً، يحكي الرد على شبهاتهم وعلى أقوالهم، ويدعوهم إلى اتباع الحق الذي جاءهم به رسول الله(ص).
ويراها في النصف الثاني تتحدث عن أحداث غزوة أحد، بتفصيل لا يوجد مثله في سورة أخرى، وهذا لا يمنع أنّ السورة الكريمة قد ذكرت موضوعات أخرى مهمة، ولكن ليس بالتفصيل الذي ذكرته عن أهل الكتاب، أو عن غزوة أحد.
4- لقد افتتحت سورة آل عمران بالثناء على الله – عز وجل –، وبإقامة الأدلة على وجوب إخلاص العبادة له.
(الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ...) (آل عمران/ 1-4).
وبعد أن مدحت الراسخين في العلم، الذين يؤمنون بمحكم القرآن ومتشابهه، والذين يتضرّعون إلى خالقهم بقولهم: (ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
وبعد أن حذرت المغرورين والجاحدين بسوء المصير، إذا ما استمروا في غدرهم وفجورهم، وبيّنت للناس جميعاً، أنّ الله – عز وجل – "يؤيد بنصره من يشاء".
بعد كل ذلك، وضحت لأولي الألباب، أن ما أعدّه الله – تعالى – للمؤمنين الصادقين، خير من شهوات الدنيا، فقال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران/ 14-15).

- جدال وبشرى:
5- ثم نراها في الربع الثاني منها بعد أن تسوق ألوانا من المجادلات مع الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، ومع الذين قالوا (..لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ...) (آل عمران/24)، نراها تأمر كل عاقل أن يوقن بأنّ كلّ شيء في هذا الكون إنما هو ملك لله – عز وجل – ، وأنّ قدرته – سبحانه – لا يعجزها شيء، وأنّ خير دليل على ذلك هو المشاهدة لما يجري في هذا الوجود، من قوة وضعف، ومن غنى وفقر، ومن قيام لدول، ومن زوال لأخرى.
قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران/ 26-27).
فإذا ما طالعت – أيها القارئ الكريم – الربعين الثالث والرابع من سورة "آل عمران" وجدت فيهما حديثاً حكيماً، فقد تحدثت السورة الكريمة، عمّا قالته امرأة عمران – أم مريم – عندما أحست بالحمل في بطنها، وعما قالته عندما وضعت حملها.
كما تحدثت عن الدعوات الخاشعات التي تضرع بها زكريا(ع) إلى ربه – عز وجل –، سائلاً إياه الذرية الطيبة، وكيف أنّ الله تعالى أجاب له دعاءه، فبشره (.. مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ...) (آل عمران/ 39).
كما تحدثت عن اصطفاء الله لمريم، وتبشيرها بعيسى(ع)، وتعجبها من أن يكون لها ولد دون أن يمسّها بشر، وكيف أنّ الله تعالى قد ردّ عليها بما يزيل عجبها.
(قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران/ 47).
كما تحدثت بشيء من التفصيل، عن الصفات الكريمة، والمعجزات الباهرة، التي منحها الله تعالى لعيسى(ع)، وعن دعوته الناس إلى عبادة الله وحده، وعن موقف أعدائه منه، وعن صيانة الله – عز وجل – له من مكرهم، وعن تشابه عيسى وآدم – عليهما السلام – في شأن خلقهما دون أب، وكيف أنّ الله تعالى أمر نبيه محمداً(ص) أن يتحدى كل من يجادله بالباطل في شأن عيسى، فقال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران/ 59-61).
ثم وجهت السورة الكريمة أربعة نداءات إلى أهل الكتاب، دعتهم فيها إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى ترك الجدال الذي لا فائدة من ورائه، وإلى الحوار بالعقل والمنطق، لا بالجهل والوهم.
قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ...) (آل عمران/ 64).
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (آل عمران/ 65).
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 70-71).
6- ثم واصلت سورة "آل عمران" في الربعين الخامس والسادس منها حديثها عن أهل الكتاب، فمدحت القلة المؤمنة منهم، وذمّت من يستحق الذم منهم، وحكت بعض الرذائل التي عرفت عن أشرارهم، وعن فريق من علمائهم، فقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 78).
ثم ساقت السورة الكريمة بعض الشبهات التي أثارها اليهود حول ما أحله الله وحرّمه عليهم من الأطعمة، وردّت عليهم بما يفضحهم ويثبت كذبهم، ووبختهم على كفرهم وعلى صدّهم الناس عن طريق الحق، وحذّرت المؤمنين من مسالكهم الخبيثة التي يريدون من ورائها تفريق كلمتهم، وفصم عرى أخوتهم، واعتصامهم بحبل الله، وذكّرتهم بنعمة الإيمان التي بسببها نالوا ما نالوا من الخير، فقال تعالى: (.. ذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ...) (آل عمران/ 103).
ثم بشرت السورة الكريمة المؤمنين بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم هم الغالبون ما داموا معتصمين بدينهم، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...) (آل عمران/ 110).

- غزوة أحد:
8- لقد بدأت سورة آل عمران حديثها عن غزوة أحد، بتذكير المؤمنين بما فعله الرسول(ص) قبل بدء المعركة من إعداد وتنظيم للصفوف، وبما هَمّ به بعضهم من فشل، وبما تم لهم من نصر على أعدائهم في غزوة بدر الكبرى التي سمّاها القرآن بيوم الفرقان.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي كل ذلك بأسلوبه المعجز المؤثر فيقول: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران/ 121-123).
وفي هذا الربط بين الغزوتين، تذكير للمؤمنين بأسباب انتصارهم في غزوة بدر، وبأسباب هزيمتهم في غزوة أحد، حتى يسلكوا في مستقبل حياتهم السبيل التي توصلهم إلى الظفر، ويهجروا الطريق التي تقودهم إلى الفشل.
ثم حضّتهم على الألفاظ بسنن الله في خلقه، وأمرتهم بالتجلّد والصبر، ونهتهم عن الوهن والضعف، وبشرتهم بأنّهم هم الأعلون، وشجعتهم على مواصلة الجهاد في سبيل الله، فإنّ العاقبة لهم، وأخبرتهم بأنّ ما أصابهم من آلام وجراح في غزوة أحد، قد أصيب أعداؤهم بمثلها، وأنّ الأيام دول، وأنّ هزيمتهم في تلك الغزوة، من ثمارها: أنها ميّزت قوي الإيمان من ضعيفه، لأنّ المصائب كثيراً ما تكشف عن معادن النفوس، وخفايا الصدور، واتجاهات العواطف.
قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 137-141).
9- ثم بينت السورة الكريمة أنّ الآجال بيد الله تعالى وحده، وأنّ محمداً رسول الله(ص) قد خلت من قبله الرسل، وسيدركه الموت كما أدركهم، وأنّ الأخيار من أتباع الرسل السابقين، كانوا يقاتلون معهم بثبات وصبر من أجل إعلاء كلمة الله، فعلى المؤمنين في كل زمان ومكان أن يقدموا على الدفاع عن عقيدتهم، وعن أنفسهم، وعن أرضهم، وعن وأعراضهم، بكل ثبات وقوة، لأنّ الإقدام لا ينقص شيئاً من الحياة، كما أنّ الإحجام لا يؤخرها.
وأخبرتهم بأنّه سبحانه قد صدق وعده معهم، حيث مكنهم في أول معركة أحد من الانتصار على أعدائهم، ولو أنّ المؤمنين جميعاً اتبعوا ما أوصاهم به نبيهم(ص) لتم لهم النصر.
قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 152).
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد، ببيان فضل الشهداء، وببيان ما أعدّه الله تعالى لهم من ثواب جزيل، ومن عطاء عظيم، فقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران/ 169-170).
وكما أثنت السورة الكريمة على الشهداء، أثنت – أيضاً – على الذين عاشوا بعد غزوة أحد، وهم ثابتون على عهودهم رغم ما أصابهم من جراح فيها، والذين لم يغرهم وعيد، بل كانوا كما أثنى عليهم خالقهم بقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران/ 173-174).
ثم تحدثت السورة الكريمة في أواخرها عن تلك الدعوات الخاشعات التي تضرع بها أولو الألباب إلى خالقهم، وكيف أنّه سبحانه أجاب لهم دعاءهم ببركة إخلاصهم وصدقهم. قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ...) (آل عمران/ 195).
10- هذا، ونستطيع بعد هذا العرض المجمل لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة آل عمران، أن نستخلص ما يلي:
أ- أنّ السورة الكريمة قد اهتمت بإثبات وحدانية الله تعالى وإقامة الأدلة الساطعة على ذلك، وإثبات أنّ الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده هو دين الإسلام، الذي أرسل به نبيه محمداً(ص).
وقد ساقت السورة الكريمة لإثبات هذه الحقائق آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...) (البقرة/ 255).
وقوله سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ ...) (آل عمران/ 18-19).
وقوله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران/ 85).
ب- أنّ السورة الكريمة قد عرضت أحداث غزوة أحد عرضاً حكيماً زاخراً بالعظات والعبر، وفصلت الحديث عنها تفصيلاً لا يوجد في غيرها من السور، وساقت ما دار فيها بأسلوب بليغ مؤثر، يخاطب العقول والعواطف، ويكشف عن طوايا القلوب ونوازعها، وخفايا النفوس وخواطرها، ويعالج الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين حتى لا يعودوا لمثلها، ويشجعهم على المضي في طريق الجهاد، حتى لا يؤثر في عزيمتهم ما حدث لهم في غزوة أحد، ويبشّرهم بأنّ الله تعالى قد عفا عمّن فر منهم، ويذكرّهم بمظاهر فضل الله عليهم خلال المعركة وبعدها، ويبصرهم بسنن الله التي لا تتخلف، وبقوانينه التي لا تتبدل، وبتوجيهاته وبأحكامه وبتشريعاته التي من سار عليها أفلح وانتصر، ومن أعرض عنها خاب وخسر (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا) (فاطر/ 43).

- سبعة نداءات:
جـ- أنّ السورة الكريمة قد اهتمت بتربية المؤمنين تربية، ينالون باتباعها النصر والسعادة في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة.
فقد وجهت إليهم سبع نداءات، أمرتهم فيها بتقوى الله، وبالصبر والمصابرة والمرابطة، ونهتهم عن طاقة الكافرين وعن التشبّه بهم، كما حذّرتهم من اقتراف ما يتنافى مع أحكام دينهم ومع آدابه وتوجيهاته، وهذه النداءات السبعة نراها في قوله تعالى:
1- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران/ 100).
2- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 102).
3- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران/ 118).
4- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 130).
5- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (آل عمران/ 149).
6- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ...) (آل عمران/ 156).
7- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 200).
وبجانب هذه النداءات التي اشتملت على أسمى ألوان التربية الفاضلة، والتوجيه القويم، نرى السورة الكريمة تسوق للمؤمنين في آيات كثيرة منها، ما يهدي بهم إلى الخير والرشاد، ويبعدهم عن الشر والفساد.
فهي تحكي لهم من الدعوات التي يتضرع بها الأخيار من الناس لكي يتأسوّا بهم، وتبين لهم أنّ حب الشهوات طبيعة في الناس، إلا أنّ العقلاء منهم يجعلون حبّهم لما يرضي الله فوق أي شيء آخر، وتحرّضهم على الاعتصام بحبل الله، وتحثّهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضا الله تعالى.
إلى غير ذلك من التوجيهات الحكيمة التي زخرت بها سورة آل عمران، والتي من شأنها أن تزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم، وأن تهديهم إلى الصراط المستقيم.

المصدر: مجلة العربي/ العدد 492 لسنة 1999م

ارسال التعليق

Top