من الضروري أن نمهِّد لحديثنا حول واقعية الرسالة الإسلامية المباركة بذكر حقيقة كون الإسلام رسالة تتناول حياة الإنسان من جميع أطرافها، وتلبّي كلّ حاجاته، وتأخذ بنظر الاعتبار كلّ ما يتعلق بواقعه الحياتي والمستقبلي من بعيد أو قريب، إضافة إلى تحقيقها لكلّ تطلعاته، واستجابتها لكلّ ميوله وأشواقه الروحية.
وتتّضح هذه الحقيقة الكبرى من خلال المبادئ التالية:
1- شمول أحكام الإسلام وتعليماته لكلِّ مجالات الحياة الإنسانية، كما يتّضح ذلك من خلال الأبحاث الفقهية العظيمة الشاملة التي عرضها علماء الشريعة الإسلامية، وهي تتناول أحكام الإسلام في مختلف شؤون الحياة الخاصة والعامة[1].
2- إعلان النصوص الإسلامية الشريفة عن استيعاب الشريعة الإسلامية لجميع الحاجات الإنسانية، وامتدادها لكلّ المجالات التي يعيشها الناس، فعن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يقول:
"سمعت رسول الله (ص) يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلّه الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الردّ ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به اُجِر، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراط مستقيم"[2].
ويتحدث أميرالمؤمنين (ع) عن علوم القرآن الكريم ومعارفه، فيقول:
"ذلك القرآن، فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن اُخبركم عنه: ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم"[3].
ويصف الإمام أبو عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (ع) حقيقة الشمول الذي تتمتع به الشريعة الإسلامية المباركة فيقول:
"فيها كلُّ حلال وحرام وكلّ شيء يحتاج الناس إليه، حتى الأرش في الخدش"[4].
بيد أنّ صفة الشمول والاستيعاب المذكورة لا يعني بالضرورة أنّ من مهامّ الشريعة المباركة أن تتولى عملية تحديد المصطلحات اللغوية والفلسفية والفنية والعلمية وما إلى ذلك، لأنّ من مهامّ الرسالة أن تحدد المضامين والأفكار والرؤى، وليس من شأنها أن تحدد مصطلحات من هذا القبيل، ففنّ المصطلحات موكول للّغة، وفنّ التعريف بالأفكار الذي يتولاه أصحاب الرسالات عادة وهو مرهون بالتعبير الفنّي.
ومن استقراء لواقع التجربة الحضارية التي باشرها الإنسان المعاصر – بكلّ اتجاهاتها ومضامينها – يتّضح أنّ التجربة الحضارية المعاصرة قد شهدت تحولات هائلة في حقول الحياة الإنسانية كلها: اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو علمية أو فنّية أو ما إلى ذلك.
وقد صحب هذه التحولات العديدة والمستجدّات الضخمة المتشعّبة ظهور قاموس واسع، مفصّل من المصطلحات في مختلف جوانب الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، كادت أن تستوعب هذه التطورات الحاضرة بمجموعها.
على أنّ المصطلحات المطروحة في ثقافة اليوم تنقسم من ناحية دلالتها إلى قسمين:
أ- مصطلحات فنّية تحمل طابعاً حضارياً لا تنفكّ عنه بحال كمصطلح الاشتراكية والديمقراطية والمادية التاريخية والوجودية والقومية وأمثالها، فهي ألفاظ موضوعة لمسميّات محدّدة لا تتخطاها.
فالاشتراكية نظام اقتصادي له نظرته الخاصّة تجاه الملكية وتوزيع الثروة، والعلاقة مع الدولة.
والديمقراطية نظام سياسي معروف بمجالس النوّاب واشتراك الأمة باختيار طريقة إدارة الحياة السياسية.
والمادية الجدلية: مصطلح فلسفي بالغ الماركسيون في تبنّيه وفرضه على تفسير الكثير من الأفكار والأحداث الاجتماعية والسياسية في الحياة وغير ذلك...
وهذا اللون من المصطلحات، مثقل بمفاهيم ورؤى حضارية أخرى، لا تنسجم مع روح الإسلام ووعيه ومفاهيمه التفصيلية بشكل كامل، ولا يمكن إطلاقه على حقل من حقول الإسلام ومقاصده، فهذه المصطلحات تعبّر عن مفاهيم محددة لرسالات، ومذاهب أخرى، لها ظروفها وأوضاعها الخاصة.
ب- مصطلحات ذات طبيعة (حيادية) غير مثقلة بصيغ حضارية معينة، ولا مصطبغة بصيغة مذهبية خاصّة، الأمر الذي يمنحها امكانية الانتشار والاستفادة من مدارس فكرية أو فنية متعددة..
وهذه الأدوات الفنّية وإن نشأت أساساً في بيئات حضارية معيّنة، بيد أنّها بقيت تحتفظ بمرونة وقابلية على أن تستفيد منها مذاهب عديدة، واتجاهات متفاوتة، وبيئات حضارية متنوّعة، ومن أمثال ذلك: العدالة الاجتماعية، والواقعية، والرسالية، والانقلابية وغيرها، على أنّنا عند الاستعمال نحتاج إلى الدقّة ومزيد من التحديد لئلاّ ننزلق عند الاستعمال باتجاه المفاهيم التي تحملها عند استعمالها في التجارب الأخرى.
فالعدالة الاجتماعية مثلاً مصطلح ذو طبيعة حيادية، قابل أن تستعمله المذاهب الاجتماعية عموماً، فإنّه يرد في أدبيات الرأسماليين والاشتراكيين والإسلاميين على حدٍّ سواء، إلاّ أنّ الاستعمال لا يلغي كون المداليل متناقضة، والمضامين متباينة أحياناً في هذه المدارس الثلاث.
ومصطلح الواقعية شبيه بمصطلح العدالة الاجتماعية، في كونه لم يرد في الأدوات التعبيرية الفنّية التي استخدمتها الرسالة الإسلامية عبر نصوصها الأصيلة في الكتاب المعصوم وفي سنة المعصومين (ع)، بيد أنّ هذا المصطلح غير مصطبغ بصبغة حضارية معينة، لذا فإنّ كثيراً من المذاهب الاجتماعية والأدبية والفنّية تتبنّى هذا المفهوم للتعبير عن اتجاه معيّن فيها، ممّا يدلُّ على حيادية اللفظ وديناميكيته.
وهكذا فإنّ بالإمكان أن تستعير أدبيات المسلمين في العصر الراهن هذا المصطلح بعد تجريده عن خلفياته الفكرية المخالفة!
على أنّنا نحتاج أن نحدّد معنى الواقعية التي تنتهجها الرسالة الإسلامية في تعاملها مع الأشياء والحقائق والأحداث والمشاكل فنقول: إنّ الواقعية المقصودة التي يحرص الإسلام على تبنّيها هي "أخذ الإنسان على طبيعته، واعتراف الإسلام، وتعامله مع كلّ طاقاته وميوله الفطرية، وأشواقه المادية، والروحية التي جُبِل عليها دون العمل بأيّ شكل من الأشكال على تنمية جانب على حساب آخر.
فالإسلام يتناول الإنسان من جميع أقطاره، جسداً وروحاً، عقلاً وعاطفة، فرداً وعضواً في مجتمع مع الأخذ بنظر الاعتبار حالات الضعف الإنساني، والفروق الفردية بين الناس"[5].
إنّ هذه الواقعية تتجلّى في مختلف المعالجات التي يضعها الإسلام للمشاكل الفكرية والنفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها التي يواجهها الإنسان.
وهذه بعض الصور الواقعية التي يتبنّاها الإسلام الحنيف لأهمّ المسائل في مسيرة الحياة الإنسانية العامّة.
الهوامش:
[1]- يراجع وسائل الشيعة، للمرحوم الحرّ العاملي، وشرائع الإسلام، للمحقِّق الحلّي. وفقه الإمام الصادق، للشيخ محمد جواد مغنية، وغيرها.
[2]- بحار الأنوار، ج9، ص7، وصحيح الترمذي، ج11، ص30.
[3]- نهج البلاغة، ص223.
[4]- أصول الكافي، الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة (ع)، ص239.
[5]- استفدناه بشكل ما من رسالتنا: جماعة العلماء في النجف الأشرف، موضوع "رسالتنا إنسانية عالمية".
ارسال التعليق