• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«اليقين» يغني الروح

أسرة البلاغ

«اليقين» يغني الروح

عن رسول اللَّه (ص): « كفى باليقين غنى».

تنقسم حالات الإنسان في الحكم على الأشياء إلى أنحاء:

الأول  الشَّك‏

وهو أن يستوي طرفا الحكم، فلا يُحكم بإيجاب أو سلب، فلا يترجَّح أحدهما على الآخر، كما لو قيل:« المريخ مسكون » وأنت لا تعرف هل هو مسكو حقيقة أم لا، فيستوي طرفا الحكم، أي بتعبير الأرقام لكل من الطرفين نسبة 50%.

الشَّك هذا في الأمور الاعتقادية التي تمثِّل مصير الإنسان ومستقبله غير مقبول إسلامياً، وهو خطير إذا لم يُزال من النفس والفكر، ويؤدي إلى مضاعفات خطيرة على سلوك الإنسان وروحه وسعادته.

انظر إلى القرآن الكريم كيف يصف الكافرين، الذين لم يحسموا أحد طرفي الحكم وبقوا في شك: (وإنّهم لفي شك منه مريب) (هود/110)، (إنَّهم كانوا في شك مريب) (سبأ/54)، (بل هم في شك يلعبون) (الدخان/9).

الثاني  الظن‏

وهو أن يترجَّح أحد طرفي الحكم، ترجّحاً ضعيفاً، أي بتعبير الأرقام أن تحكم على الشي‏ء بنسبة 60 أو 70%.

الظن هذا أيضاً ليس مقبولاً إسلامياً، في الأمور الاعتقادية الأساسية، مثل الإيمان باللَّه ورسله واليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار.

يقول القرآن الكريم:(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) (النجم/23)، (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً) (النجم/28)، (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً) (يونس/36)، (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين) (الجاثية/32). إلى غير ذلك من الآيات التي لا تقيم وزناً للظن، والتي في بعضها إشارة إلى حالة الكافرين الفكرية الذين لا يظنون إلا ظناً ولا يحسمون الأمور ليصلوا إلى حالة العلم واليقين.

الثالث  اليقين‏

وهو الحكم على الأمور بنسبة 100%، فيترجّح أحد طرفي الحكم، ترجحاً قويّاً.

اليقين هذا هو المطلوب إسلامياً وخاصة في الأمور المصيرية، التي تجيب على أسئلة، من أين، وكيف، وإلى أين؟

يقول القرآن الكريم:(ومن أحسن من اللَّه حكماً لقوم يوقنون) (المائدة/50).

ويصف المتقين فيقول: (... وبالآخرة هم يوقنون) (البقرة/4)، (... ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) (النمل/3)، (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) (لقمان/4).

وفي المقابل يصف كثيراً من الناس (إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) (النمل/82). إلى غير ذلك من الآيات التي سيمر بعضها.

واليقين أعلى درجات الإيمان ودونه درجات، يقول أبو عبد اللَّه (ع): «... الإسلام درجة،... والإيمان على الإسلام درجة،... والتقوى على الإيمان درجة،... واليقين على التقوى درجة،... فما أوتي الناس أقل من اليقين، وإنما تمسّكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن ينفلت من أيديكم».

فعلى الإنسان المؤمن أن يحاول جهده أن يصعد في الدرجات ولا يكتفي بدرجات الاعتقاد الأوليّة، لأنها إذا لم تقوّى يخشى عليها من الزوال.

النبي إبراهيم (ع) نموذج  مهمّ‏ لنا في طلب المزيد من درجات الإيمان، يقول القرآن الكريم: (وإذ قال إبراهيم ربّ‏ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي...) (البقرة/260)، (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين) (الأنعام/75).

وفي الحديث، عن صفوان، سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن قول اللَّه لإبراهيم «أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي» أكان في قلبه شك؟ قال (ع): «لا، كان على يقين ولكنّه أراد من اللَّه الزيادة في يقينه».

ولقد حذّر رسول اللَّه من ضعف اليقين «ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين».

بين اليقين العقلي والقلبي:

هنا نودّ الإشارة إلى أمر مهم وهو أنه صحيح أن اليقين العقلي مطلوب، ولكن هنا سؤال، لماذا نرى أناساً يقولون إننا موقنون باللَّه وبالآخرة، ولكنهم في نفس الوقت نراهم ضعفاء في عملهم والتزامهم بأوامر اللَّه ونواهيه؟

نقول: إن هناك فرقاً بين اليقين القلبي والعقلي، فانظر إلى إبليس، فإنَّه كان موقناً باللَّه عقلاً ولكن لم يترسّخ يقينه في قلبه.

إنّ‏ الاعتقاد والعلم مغايران للإيمان، فالعلم باللَّه وأسمائه وصفاته وسائر المعارف الإلهية الذي يوجد فينا، مغاير للإيمان وليس بإيمان.

والدليل على ذلك أن الشيطان كما يشهد له الذات المقدسة عالم بالمبدأ والمعاد ومع ذلك فهو كافر؛ لأنه يقول:(خلقتني من نار وخلقته من طين) (الأعراف/12)، فهو إذاً يعترف بالحق تعالى وخالقيته، ويقول أيضاً:(انظرني إلى يوم يبعثون) (الأعراف/14). فيعتقد بالمعاد وهو كذلك عالم بالكتب والرسل والملائكة، ومع ذلك كله خاطبه اللَّه سبحانه بلفظ الكافر، وأخرجه من زمرة المؤمنين.

فإذاً يمتاز أهل العلم من أهل الإيمان، وليس كلّ من هو من أهل العلم أهلاً للإيمان، فيلزم للسالك أن يدخل نفسه في سلك المؤمنين بعد سلوكه العلمي، ويوصل إلى قلبه عظمة الحقّ وجلاله وبهاءه... وإلا فمجرد العلم لا يوجب خشوعاً كما ترونه في أنفسكم فإنكم مع كونكم معتقدين بالمبدأ والمعاد، ومع اعتقادكم بعظمة اللَّه وجلاله ليست قلوبكم خاشعة.

فإذن المطلوب أن ينزل العلم واليقين العقلي إلى منطقة القلب حتى يؤثر اليقين أثره في نفس وسلوك الإنسان.

وقد فرق بعض العلماء بين الإيمان العقلي والقلبي بمثال معبِّر، حيث مثَّلوا لذلك بالإنسان الذي ينام مع ميّت في غرفة لوحدهما، فقالوا: إنّ الإنسان يعلم يقيناً أنّ الميت لا يؤذي، ولكن يخاف أن ينام معه منفرداً، وما ذلك إلا لأنّ اليقين العقلي بعدم أذيّة الميت له، لم ينزل إلى القلب.

أهمية اليقين وثمراته:

الأحاديث كثيرة في أهميَّة اليقين نأتي على بعضها:

1 - رأس وعماد الدين والإيمان كله: عن الإمام علي (ع): «اليقين رأس الدين».

وعنه(ع): «اليقين عماد الإيمان».

عن رسول اللَّه (ص): «إنّ الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كلّه».

2 - اليقين والعبادة: عن الإمام علي (ع): «باليقين تتم العبادة».

وعن رسول اللَّه (ص): «لا عمل إلا بنية، ولا عبادة إلا بيقين».

3 - قوّة القلب باليقين: عن الإمام علي (ع): «أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوِّه باليقين».

4 - اليقين فلاح ونجاة وصلاح: عن الإمام علي (ع): «من أيقن أفلح».

وعنه (ع): «من أيقن ينجو». وعنه (ع): «أيقن تصلح».

5 - اليقين سعادة: عن الإمام علي (ع): «ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببرد اليقين».

6 - الصبر: عن الإمام علي (ع): «الصبر ثمرة اليقين».

7 - الإخلاص: عن الإمام علي (ع): «إخلاص العلم من قوّة اليقين».

8 - الزهد: عن الإمام علي (ع): «اليقين يثمر الزهد».

9 - التوكل: عن الإمام علي (ع): «التوكل من قوة اليقين».

10 - الرضا: عن الإمام علي (ع): «بالرضا بقضاء اللَّه يستدل على حسن اليقين».

11 - تهوين المصائب: من وصايا أمير المؤمنين لابنه الإمام الحسن (ع): «اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين».

12 - الهداية: عن الإمام علي (ع): «هُدى من ادرع لباس الصبر واليقين».

ما يساعد على تحصيل اليقين:

1 - عدم تعطيل العقل :

... إنماؤه بالتفكُّر والاعتبار والعلم، يقول الإمام علي (ع): «الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد... واليقين على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين،...».

وفي رواية أخرى عنه (ع): «اليقين على أربع شعب: على غاية الفهم، وغمرة العلم، وزهرة الحكم، وروضة الحلم، فمن فهم فسَّر جُمل العلم، ومن فسَّر جُمل العلم عرف شرائع الحكم...».

2 - انكار المنكر (الجهاد):

عن الإمام علي (ع): «... ومن أنكره( المنكر ) بالسيف لتكون كلمة اللَّه هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، ذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريقة ونوّر في قلبه اليقين».

3 - صلاح النفس:

عن الإمام الكاظم (ع): «تعاهدوا عباد اللَّه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً، وتربحوا نفيساً ثميناً».

موانع اليقين:

1 - غلبة الهوى والشهوات: عن علي (ع): «يفسد اليقين الشك وغلبة الهوى».

2 - الحرص: عن علي (ع): «من كثر حرصه قلّ يقينه».

وعنه (ع): «الحرص يفسد الإيقان».

3 - الصحبة الفاسدة: عن علي (ع): «خلطة أبناء الدنيا تشين الدِّين وتضعف اليقين».

4 - سيطرة التقليد والعادة: يقول اللَّه في كتابه الكريم: (وإذا قيل اتبعوا ما أنزل اللَّه قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) (البقرة/170).

خاتمة:

إنكم إذا رجعتم إلى أنفسكم، عرفتم جيداً، مدى خطورة الشك والظن على النفس الإنسانية، حتى في الأمور الدنيوية؛ الشك والظن صعب على النفس، فكيف بالأمور المصيرية، التي تجيب على أسئلة، من أين، وإلى أين؟

إنكم إن لم تقوُّوا يقينكم وإيمانكم بالمبدأ والمعاد، ستكون حياتكم صعبة قلقة مضطربة، وآخرتكم أمرَّ وأدهى.

فكونوا كالنبي إبراهيم الذي طلب من اللَّه اطمئنان الروح، أو كالإمام علي (ع) الذي قال:«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً».

ولا يصبح القلب مرائياً ولا مخادعاً حينئذ. وإذا رأيتم رياء في قلوبكم، فاعلموا أن قلوبكم لم تسلِّم للعقل، وأنّ الإيمان لم يقذف نوره فيها، وأنكم تعدون شخصاً آخر إلهاً ومؤثراً في هذا العالم، لا الحق تعالى، وأنكم في زمرة المنافقين أو المشركين أو الكفار».

 

ارسال التعليق

Top