• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الزواج.. لقاء المودة والرحمة

العلامة عبدالحميد المهاجر

الزواج.. لقاء المودة والرحمة
◄قال الله تعالى: (.. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا...) (إبراهيم/ 34). وإذا كان الفكر المادي والحضارة المادية غير المؤمنة قد حطما الأسرة، فكيف نظر إليها الفكر الإسلامي؟ يقول القرآن الكريم: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل/ 72). تعبير (جعل من أنفسكم أزواجاً) يؤكد في البداية أنّ الزواج هو لقاء انسجام وتكامل، بحيث يكون الشريك في مؤسسة الزواج موازياً ومعادلاً وكفئاً للشريك الآخر، وكأنّه تعبير عن نفسه، أو هو جزء من نفسه ومن ذاته. وهذا اللقاء يكون في جوّ من المودة والرحمة، أي في مناخ صحي يؤمن الحياة الهادئة المستقرة للأُسرة. والمودة والرحمة عنصران أساسيان للتفاهم فيما بين الزوجين. ذلك أنّ الحياة اليومية لا تخلوا من مشاكل كبيرة أو صغيرة، ولا تخلوا من منغِّصات. فإذا لم نواجه هذه المشاكل بالمحبة والرحمة، فإنّ الصغير منها يكبر ليصبح مشكلة مستعصية لا تحل إلا بالانفصال. ومن هنا وضع الفكر الإسلامي قاعدة أساسية للتفاهم والتعامل بين الزوجين، وهي المودة والرحمة. والمودة تعني المحبة والألفة وصفاء السريرة والتفاهم بالتي هي أحسن والابتعاد عن المشاكسة والتحدي وشراسة الطبع وحبّ السيطرة والتملك. إذا توفرت هذه العناصر الخيِّرة التي تجمعها كلمة المودّة، فإنّ العلاقة الزوجية تكون سعادة وهناء. فالإسلام يريد للزواج أن يكون سكناً للإنسان وليس حالة من الاضطراب والقلق. وفي سورة الروم الآية 21، يقول القرآن الكريم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، والسكن يعني السكينة والاستقرار والطمأنينة والراحة. إذا تأملت هذه العناصر في عملية الزواج، فإنها تؤمِّن الجوّ الصالح للأبناء. فالزواج والأسرة في الإسلام.. لا يعنيان فقط وجود زوجين. فهذا زواج ناقص وأسرة ناقصة، لأنّ السعادة الأسرية والسكن والطمأنينة لا تكتمل إلا بوجود الأبناء. وهذه ناحية فطرية طبيعية في الإنسان. فالبيت الذي يخلو من الأبناء، مهما كان التفاهم والمحبة قويين بين الزوجين، هذا البيت يجد نفسه بعد فترة قليلة هامداً حزيناً، ثمّ لا يلبث أن يسيطر على الزوجين القلق والاضطراب. لماذا؟ لأنّ الأبوة والأمومة من الحاجات الفطرية القومية الطاغية في نفس الإنسان. لقد سادت لفترة ما في المجتمعات الغربية المادية نزعة إلى الابتعاد عن الإنجاب، وإذا كان لابدّ من تكوين أسرة فلتكن صغيرة جدّاً تقتصر على الأب والأُم وولد واحد، هذا الولد لا ينجبانه إلا بعد فترة طويلة من الزواج، بحيث يستطيع الزوجان، حسب اعتقادهما، أن يتمتعا بحياتهما لأطول مدة ممكنة بعيداً عن همّ الأولاد ومسؤولية تربيتهم. هذا النمط من التفكير أساسه الأنانية المفرطة التي تطبع النهج المادي في التفكير. ولكن ما هي النتيجة؟ النتيجة التي رأيناها ويعترف بها أكثر الغربيين أنّ الأسرة الغربية مفككة، وتفككها بات يمثل جحيماً لا يُطاق للإنسان الغربي.. فالأنانية التي دفعت الزوجين إلى تأجيل الإنجاب، ودفعتهما أيضاً إلى الاقتصار على ولد واحد، هذه الأنانية نفسها، هي التي جعلتهما يسعيان إلى التخلص بأسرع وقت ممكن من مسؤولية رعاية الولد.. والحقيقة أنّ الأولاد حتى في سن مبكرة جدّاً يَعُون هذه المسألة ويحسّون بها، أيّ أنهم يشعرون بأنّ وجودهم يمثل عبئاً على أهلهم، فالزوج والزوجة اللذان يخرجان إلى السينما ويستأجران شاباً أو فتاةً للاعتناء بطفلهما مدة غيابهما، هذان الزوجان لا يستطيعان التحايل طويلاً على الطفل، لأنّه سرعان ما يكتشف بحسّه المُرهف أنّه مهمل ومتروك. ولا نظن أنّ أحداً يستطيع إقناعنا بأنّ المستأجر يقوم بدور الأُم. ثمّ ماذا بعد ذلك؟ ما إن يصل الشاب أو الفتاة إلى سن الثامنة عشرة حتى ينفصلان عن أهلهما برغبة منهما للتخلص من برودة الجوّ المحيط بهما، وبرغبة من الوالدين في التخلص من هذا العبء! وسرعان ما يكتشف الولدان انهما باتا وحيدين، في حياة رتيبة مملة، تتحول رتباتها ومللها إلى جحيم لا يطاق مع تقدمهما في السن. فالإبن لا يرى أهله إلّا في حالات نادرة، مرّة كلّ سنة في أعياد الميلاد. ولكن لننظر في الجهة المقابلة إلى الأسرة الإسلامية. هل الأسرة الإسلامية هي زوجان فقط؟ هل هي زوجان وبعض الأبناء فقط؟ إنها أب وأم وأبناء وأحفاد: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) (النحل/ 72). لماذا قالت الآية الكريمة: (وحفدة)؟ الحفدة أو الأحفاد تشير إلى الجدين، أيّ إلى والد ووالدة ربّ الأسرة أو ربّة الأسرة. الجد والجدة في المجتمعات الغربية مكانهما مأوى العجزة حيث يمضيان شيخوخة قاتلة مخيفة، أما مكان الجد والجدة في المجتمع الإسلامي الصحيح فإنّه قلب الأسرة وفي إطارها الدافئ الحنون. هذه المكانة للجدين نابعة من التوجيه الإسلامي المتمثل بالآية الكريمة: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/ 23-24). والقرآن الكريم هنا يلفت نظرك إلى مسألة جوهرية أساسية باتجاهين: الأوّل معاملتك لأهلك، والثاني معاملتك لأبنائك. فأنت عندما تعرف فضل أهلك وتضحية أبويك حتى كبرت وصرت رجلاً، تعرف في نفس الوقت أنّ عليك واجباً من الرعاية والرحمة تجاه أبنائك. هكذا تكون الأسرة الإسلامية ثلاث حلقات مؤلفة من: "الآباء والأبناء والأحفاد. حلقات متصلة مترابطة بالمودة والرحمة. الإسلام يعتبر أنّ الذي يتهرب من واجبه تجاه أهله أو أبنائه إنما هو في عداد الملعونين المغضوب عليهم. يقول الرسول الأكرم (ص): "يا علي، لعن الله أبوين حملا ولدهما على عقوقهما". وهذا القول ينطبق تماماً على مثل الأسرة الغربية الذي أشرنا إليه. .. ذلك: أنّ إهمال الأبناء يؤدي إلى عقوقهم. فكأن الوالد الأناني هو الذي يحمل ولده على الابتعاد عن أهله والتنكر لهم. ولا يذهبن الظن إلى أنّ الإسلام يريد أن يخلق عصبية عائلية أسرية تعادي ما سواها. إنّ الإسلام بقدر ما يشدد على تماسك الأسرة ونشر المودة والرحمة في أجوائها، بقدر ما يشدد على المودة والرحمة مع القريب والجار. فاطمة الزهراء – عليها السلام – كانت تدعو في صلاتها لجيرانها قبل أن تدعو لأهلها وأسرتها. والرسول الأكرم (ص) كان يشدد على حسن معاملة الجار حتى قال المسلمون: "حتى ظننا أنّه سيورثه". وفي أمثالنا النابعة من آدابنا الإسلامية، نقول: "الجار قبل الدار". كلّ هذا يعني أنّ الإسلام يريد للمجتمع أن يكون وحدة متراصةً متكافلةً متضامنةً، انطلاقاً من الأسرة الصالحة السعيدة إلى الدائرة الأقرب وصولاً إلى الدائرة الأوسع وهي المجتمع. وهذه النظرية الإسلامية.. لا تقف عند حدود المجتمع الواحد بل تنطلق إلى العالم تريد أن تصنع منه مجتمعاً إنسانياً متعاوناً متعارفاً تسوده مبادئ السلام والعدالة والمحبة والرحمة ويحكمه ميزان التقوى والإيمان. (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). إذن نحن أمام فكرين ومنهَجَين في الحياة: الفكر المادي البشري، والفكر الرباني. المنهج الأوّل: قاصر أناني محدود النظرة والآفاق، والمنهج الثاني واسع منطلق غير محدود. المنهج الأوّل يخلق القلق والاضطراب والحيرة والظلم والألم ويضع الإنسان أمام الحائط والطريق المسدود. والمنهج الثاني: يخلق الطمأنينة والسلام في النفس والمجتمع ويفتح عقل الإنسان وآماله، إنّه منهج الأمل والحياة. فأي المنهجين نختار؟

المصدر: مجلة الإيمان/ العدد التاسع والسبعون لسنة 1419هـ

ارسال التعليق

Top