• ٢١ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

محبّة أهل البيت «عليهم السلام»

محبّة أهل البيت «عليهم السلام»

◄من خطبة للإمام عليّ (ع) لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال له (ع): "أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان".

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (الشورى/ 23).

أجمع أهل البيت (عليهم السلام) وأولياؤهم على أنّ المقصود في (القربى) هنا إنّما هم: عليّ وفاطمة وأبناؤهما، والمعنى: قل لا أسألكم على أداء الرسالة أجراً إلّا أن تودّوا قرابتي وتحفظوني فيهم. وهذا في الحقيقة ليس أجراً له (ص)، لأنّ قرابته حجج الله البالغة على الخلق، ونعمه السابغة لديهم، فمودّتهم لازمة للخلق، ونفعها عائد عليهم، كما قال في سورة سبأ الآية (47) – وهو أصدق القائلين –: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)،يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرَض الدنيا ليتّهمني المنافقون، وما طلبت منكم أجراً من مودّة قرابتي فإنّما هو لكم.

وقد روى الزمخشريّ وهو من أعلام المفسِّرين السنّة، قال: "أتت الأنصار رسول الله (ص) بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت، وردّه (النبيّ (ص) وتلاها عليهم)" إلى أن قال (أي الزمخشري): "والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلّا أنّها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولاً أولياً كأنّ سائر الحسنات لها توابع".

وروى ابن حجر الهيثمي وغيره: عن ابن عبّاس قال: لما نزلت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى/ 23)، قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: "عليّ وفاطمة وابناهما".

وفي الحديث المتواتر عن رسول الله (ص) بلغة للباحث وهداية للطالب وقد ذكره أعلام المسلمين في كتبهم، إذ يقول (ص): "مَن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له... ألا ومَن مات على حبّ آل محمّد على السنّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله...".

وبعد هذا كلّه يتبيّن لنا أنّ محبّة أهل البيت (عليهم السلام) ومودّتهم الخالصة هي سبيل النجاة، وسبب الفلاح، ومنطلق الوصول إلى ساحة رضا الله تعالى، وبدونها لا يقبل العمل إذ إنّ سائر الحسنات لها توابع.

ولنعم ما قيل:

إذا أنا لم أهوَ النبيّ وآله *** فمن غيرهم لي في القيامة يشفع

فلا دين إلّا حبّ آل محمّد *** ولا شيء في يوم القيامة أنفع

 

لماذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بمحبّتهم (عليهم السلام)؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال يظهر ممّا روي عن الإمام الحسن العسكري (ع) حيث روى محمد بن يعقوب عن علي بن محمد عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري أنّ العالم كتب إليه يعني الحسن بن علي العسكري (ع): "إنّ الله تعالى بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليها بل رحمة منه إليكم – لا إله إلّا هو – ليميز الخبيث من الطيِّب وليبتلي ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنّته ففوّض عليكم الحج والعمرة وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرايض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمد (ص) والأوصياء من ولده كنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرايض، وهل تدخل قرية إلّا من بابها؟!

فلمّا منّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيّكم (ص) قال الله عزّ وجلّ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3)، وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً فأمركم بأدائها إليهم ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم ويعرّفكم بذلك البركة والنماء والثروة وليعلم من أن يطيعه منكم بالغيب، وقال الله تبارك وتعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى/ 23)، فاعلموا أنّ مَن يبخل فإنما يبخل على نفسه إنّ الله هو الغنيّ وأنتم الفقراء إليه لا إله إلّا هو، فاعملوا من بعد ما شئتم فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون والعاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين".

فمحبّة أهل البيت (عليهم السلام) واتّباعهم في امتحان للمؤمنين برسالة النبيّ الأكرم (ص) بها يميّز الله سبحانه الخبيث من الطيب ويرفع الدرجات ويجعل البركة في الدنيا والآخرة.

ولنعم ما قال الفرزدق:

هم معشر حبّهم دين وبغضهم *** كفر وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبّهم *** ويستربّ به الإحسان والنعم

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم *** في كلّ بر ومختوم به الكلِم

 

كيف تكون المحبّة؟

إنّ المحبّ صنفان فصنف أحبّ بقلبه ولم يظهر ذلك الحبّ بعمله وصنف أحبّ بقلبه وأيّد ذلك بعمله، فأي الصنفين يُقصد من محبّة أهل البيت (عليهم السلام)؟

نجد الجواب عن هذا السؤال أيضاً في كلام إمامنا الباقر (ع) حيث قال لجابر بن عبدالله الأنصاري: "يا جابر أيكتفي مَن ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلّا من اتّقى الله وأطاعه؛ وما كانوا يُعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال (ع): "يا جابر لا تذهبن لك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إني أحبّ رسول الله فرسول الله (ص) خير من عليّ (ع) ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ "وأكرمهم عليه" أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولا يتنا إلّا بالعمل والورع".

إنّ كثيراً من الروايات جاءت دالة على نفس هذا المعنى وفيه تحذير واضح لكلّ من ادّعى محبّة وودّ وولاية أهل البيت ولم يعمل بعملهم، فالأمر الإلهي بمودّتهم (عليهم السلام) لا عن عبث بل المراد منه أنّهم وصلوا إلى هذه الدرجة بطاعتهم لله فكلّ عمل يقدمون عليه لا يمكن أن تشوبه شائبة المعصية، وإلّا فكيف يأمر الله تعالى بمودّة العصاة ومحبّتهم، إنّه سبحانه يأمر بمودّة المطيعين، لأنّ محبّتهم من محبّة عملهم، فإن كنت من أهل هذا الحب فعليك بالعمل الموافق له، وإلّا تكون كما قال الفرزدق للإمام الحسين (ع) في وصفه لأهل الكوفة: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

 

أهوى أخيك معنا؟

فمن كان يمتلك هذه الخصائص ولديه هذا الحبّ فهو ممّن ذكره أمير المؤمنين (ع) في معركة الجمل إذ سأله بعض أصحابه فقال: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال له (ع): "أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: "فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان".

إنّ الجواب من الإمام (ع) فيه أمل المحبّ ومنية المريد إذ معناه أنّ مَن كان يحبّنا ويميل بقلبه إلينا فهو معنا ومشارك فيما صنعنا وشريك في أجرنا حتى إن لم يكن معنا في مكاننا وزماننا.

ونحن نلاحظ تأكيد الإمام (ع) على الهوى، فإنّ مَن كان قلبه معه فهو مشارك في هذا المشهد، إذ لا فرق بين حاضر وغائب، ولا بين زمان ومكان، وقد أنبأ الإمام أنّه سيأتي رجال يرعف ويجود بهم الزمان بعد حين، تكون قلوبهم معنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، وهؤلاء كأنما هم حاضرون معنا في معركتنا هذه...

فالهوى هنا هوى مَن لو أدرك أمير المؤمنين (ع) لكان معه في جنده وحارب بين يديه وبين يدي رسول الله (ص) في معارك بدر وأحد وخيبر وأحزاب، بل كان ممّن نصر الإمام الحسين (ع) بكربلاء ووقاه بنفسه الحتوف وحدّ السيوف.

نقول في زيارته (ع): "لبّيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني فقد أجابك قلبي وشعري وبشري ورأيي وهواي".►

 

المصدر: كتاب مواعظ من نهج البلاغة

ارسال التعليق

Top