◄التكرار له تأثيره الغريب والمثير للاهتمام على العقل البشري. فمثلاً لو سمعت سلسلة من الأرقام مثل ٤، ٨، ١٥، ١٦ ،٢٣ ،٤٢ مرّة تلو الأُخرى فهي في نهاية المطاف ستعلّق في ذاكرتك. ولكن الأمر لا يتعلّق فقط بحفظ الأرقام لأنّه وبعد فترة من التكرار ستجد نفسك تكررها وفق لحن ما في عقلك. فالتكرار أحياناً يبدو وكأنّه يشوه الواقع والحقائق، ويمكنك التأكّد من ذلك بنفسك الآن، قم بتكرار مجموعة من الكلمات وستجد بعد فترة قصيرة بأنّها باتت تكرر وفق لحن معين.
واقع أو وهم.. سؤال حاولت جامعة كانساس الإجابة عليه من خلال دراسة قامت بنشر نتائجها في «بي ال أو أس ون» والتي بحثت فيما يسمى «وهم - الخطاب - إلى - اللحن». وفي الواقع الدراسة هذه بدأت منذ بداية التسعينات في محاولة لكشف لغز جديد من الألغاز العديدة التي تتعلّق بالعقل البشري وآلية عمله.
اللحن الناجم عن تكرار الكلمات هو الوهم، لأنّ الواقع هو الكلمات بكلّ مقاطعها وحروفها وآلية لفظها. هذا الوهم يحدث عند التكرار كما قلنا، وبعد فترة بتوقف عقلك عن سماعها ككلمات فتتحوّل إلى لحن. الخبراء يعتقدون بأنّ الأمر يتعلّق بالآلية التي نفسّر بها اللغات كالكلمات ومقاطع هذه الكلمات. فبعد فترة من تكرارها يتوقف العقل عن الانتباه إليها ككلمة وكلّ التركيز يتم توجيهه إلى المقاطع اللفظية والنغمات المرتبطة بها.
دراسات سابقة كانت قد وجدت بأنّ المناطق التي تحلل الكلمات تكون نشطة عندما نسمعها ككلمات ولكن المناطق الأُخرى التي تحلل الموسيقى تصبح في حالة من النشاط غير المسبوق عندما يتم تكرارها أكثر من مرّة وبالتالي تتحوّل إلى لحن. يمكنك الاستماع إلى هذه الجمل هنا واختبار الوهم هذا بأنفُسكم.
ورغم أنّ العلماء تمكّنوا من إثبات حدوث هذا الوهم ولكنّهم لا يملكون أدنى فكرة أو تفسير عن سبب نشوء اللحن الناجم عن تكرار الكلمات.
ما الذي يحدث في الدماغ عند تكرار الكلمات؟
الدراسات التي نشرت نتائجها هي في الواقع عبارة عن ٦ دراسات مرتبطة ببعضها البعض والهدف منها اكتشاف ما الذي يحدث في العقل عندما تتحوّل الكلمات إلى موسيقى.
تم اختبار عدد من النظريات ومنها نظرية «العقدة البنيوية» والتي هي حين تتحوّل العقد في الكلمات وتلك في المخارج اللفظية إلى «أداة للكشف» والتي تبدأ بالتعرّف على مختلف جوانب اللفظ في الكلمات والجمل. هناك في عقولنا ما يشبه «أداة كشف» واحدة منها يمكنها رصد الكلمات وأُخرى للمقاطع اللفظية وكما كلّ الأُمور في الحياة وعند الاستهلاك المتكرر لها فهي تصبح في حالة من الوهن والتعب. الأمر يشبه العضلات، فكلّ واحد منّا يملك مجموعة من العضلات التي تساعده على الركض السريع القصير وأُخرى تملك قدرة أعلى على التحمّل والتي نستخدمها خلال الركض لمسافات طويلة.
العقد هي كالعضلات المخصصة للركض القصير السريع، والمقاطع اللفظية هي كالعضلات التي تملك قدرة أعلى على التحمّل.
وعليه عندما نسمع الكلمات فإنّ «الكاشف» الخاص بالكلمات يتم تفعيله وبالتالي ندرك بأنّنا نسمع خطاباً يتألف من كلمات. ولكن عند التكرار الكاشف هذا يدخل مرحلة الإنهاك وكلّما تم تكرارها لوقت أطول كلّما أصبح أقل فعالية حينها يتم تفعيل كاشف المخارج اللفظية. وبعد فترة نبدأ بسماع الكلمات على أنّها لحن وليست ككلمات منفصلة لها معنى.
ماذا عن الكلمات التي لا نغم فيها؟
بعض الكلمات وعند لفظها تملك نغماً معيناً متشابهاً وحين يتم وضعها في جملة واحدة فهي بالتأكيد ستكون ذات لحن.. ولكن ماذا لو تم وضع كلمات لا نغم فيها ولا تشبه بعضها البعض.. فهل سيتعامل معها العقل بالطريقة نفسها ونسمع اللحن الناجم عن تكرار الكلمات؟
في الواقع تم اختبار هذا الأمر، وقام العلماء بوضع كلمات لا نغم فيها ولا تشبه بعضها البعض. عندما تم سماعها للمرّة الأُولى، فإنّ المشاركين أكّدوا أنّه لا نغم فيها وأنّهم يسمعون كلمات لا تتشابه على الإطلاق لناحية المقاطع اللفظية. ولكنّ المفاجئة كانت أنّه عند تكراراها ورغم أنّ لفظها يختلف كلّياً عن بعضها البعض إلّا أنّ العقل بعد فترة بدأ بسماعها كلحن.
أهميّة هذه التجربة هي أنّ التكرار تمكّن من تحوير الإدراك المسبق بأنّ هذه الكلمات ليست لحناً إلى إدراك مغاير تماماً.
الأدراك أمر هام جدّاً حين يتعلّق الأمر باللغة، فعقلنا أحياناً يبدو وكأنّه يمارس الألاعيب علينا، مثل ياني أو لوريل والتي كلّ شخص يسمعها بشكل مغاير. والمثير أكثر للاهتمام في كلّ هذه الدراسة هو أنّ عدد الكلمات التي يتم تكرارها يجب أن يكون ٤ كلمات لا أكثر أو أقل وإلّا لن يكون هناك أي تأثير.
هل الأمر ينطبق على كلّ اللغات؟
نعم، الأمر ينطبق على كلّ اللغات ففي الدراسة تم وضع كلمات باللغة الإسبانية لمستمعين لا يتحدّثون اللغة الإسبانية ومع ذلك وبعد التكرار تحوّلت إلى لحن في عقولهم. ولكن تبيّن في هذه المرحلة بأنّ بعض الأشخاص يسمعون اللحن بشكل أسرع وأكثر وضوحاً من غيرهم لكن العلماء لم يتمكنوا من معرفة السبب بعد لأنّهم كما قلنا لم يتمكّنوا من معرفة السبب الفعلي الذي يؤدّي إلى ذلك وما طرح حتى الآن مازال يدور في إطار النظريات. من النظريات المطروحة حول سبب اختلاف سرعة سماع اللحن بين شخص وآخر هو السرعة التي يتحدّث بها الشخص المعني وحتى ربّما طريقة لفظه للكلمات وحتى ربّما اللكنات.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق