• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسباب وقوع الفتن

أسرة البلاغ

أسباب وقوع الفتن

قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال/ 25).

إنّ تعرّض أي مجتمع سيّما المجتمع الرسالي لفتنة تحاول حرفه عن مساره الإلهي، وبالتالي مصادرة الرسالة الإلهية بكافّة إنجازاتها وانتصاراتها أمرٌ ينبغي توقعه دائماً، ولعلّ ذلك مردّه إلى أنّ الثبات على الرسالة في مراحل القوّة والسلطة والنعمة أعظم وأشدّ من الثبات عليها في مراحل الثورة والتغيير الذي يكون مطلب الجميع ورغبتهم، وإنّ امتلاك الإنسان لمقدّرات كبيرة وواسعة بدون الانغماس في لذائذ شهواتها أعظم بلاءً من ابتلائه بالمواجهة واستعداده للبذل في سبيل إقامة حكم الله في الأرض، ولذلك يسقط البعض من أهل الطمع والجشع وضعاف النفوس.

 

أسباب وقوع الفتن:

يقول أمير المؤمنين (ع): "إنما بَدْءُ وُقوع الفِتَنِ أهواءٌ تُتَّبعُ وأحكامٌ تُبْتَدَعُ يُخالَفُ فيها كتابُ الله ويتولَّى عليها رجالٌ رجالاً على غيرِ دينِ الله فَلَو أنّ الباطِلَ خَلَصَ مِن مِزاجِ الحقِّ لَمْ يَخْفَ على المُرتادِينَ (الطالبين) ولو أنّ الحقّ خَلَصَ مِن لَبْسِ (مخالطة) الباطِلِ انقَطَعَت عنه ألْسُنُ المُعانِدينَ، ولكن يُؤخَذُ من هذا ضِغْثٌ (القبضة من الحشيش أو أيّ شيء آخر) ومن هذا ضِغْثٌ فيُمزَجان فهنالِكَ يَسْتَولي الشيطانُ على أوليائه وينجو الذين سَبَقَت لهم من الله الحُسنى".

ويظهر من هذا النصّ مجموعة أسباب أساسية تُنشب الفتنة بين المسلمين وهي:

1- اتباع الهوى: أي سيطرة الأهواء الشخصية والمصالح النفعية وانحسار المبادئ والقيم الإلهية، لتصبح المعادلة الجديدة مقدار انتفاع الأشخاص وحيازتهم على المناصب والأموال بدل انتفاع الرسالة، فيعمل أرباب الفتنة سعياً لمراكز دنيوية لا مقامات أخروية.

2- ابتداع أحكام في عرض الأحكام الإلهية: وهذه الأحكام المبتدعة ليست مجرّد نظريات أو أفهام خاصة لنصّ النبيّ (ص) بل هي أحكام في عرض خطّ النبيّ ووصاياه وتعاليمه، وهي ليست في جانبٍ دون آخر كما يظهر من إطلاق القول بل هي أحكامٌ على امتداد الحاجة فتشمل السياسة والعلاقات العامة، بل قد تطال التشريع والعقيدة وكلّ ما من شأنه إذكاء أسباب الفتنة واستعارها.

3- اتباع الأحكام المبتدعة: أي تطبيقهم لهذه الأحكام واعتمادها بديلاً من سُنّة النبيّ (ص)، فهم لا يكتفون بالتنظير لها بل ينزلونها منزلة الفعل والعمل، ويدافعون عنها مُلصقين إيّاها بدين الله، فهم بذلك أتباع دينٍ جديد، وسُنّةٍ جديدة ما ألجأهم إليها إلّا ضعف إيمانهم عن اتباع سنّة النبيّ (ص).

4- نصرة البعض للأحكام الجديدة: وهو ما يظهر من قوله (ع): "ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله"، أي أنّهم يفرضون أحكامهم بالقوّة ويدافعون عنها بالسيف، ويواليهم على هذا الأمر أتباع كثيرون من الجهلة والسذّج وأهل الدنيا.

5- التخاذل عن نصرة الحقّ: عن عليّ (ع): "أيّها الناس لَو لَمْ تتخاذلوا عن نصر الحقِّ ولم تَهِنوا عن تَوهين الباطل لم يطمع فيكم مَن ليس مثلَكُم ولم يقوَ مَن قويَ عليكُم. لكنّكم تهتُم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليُضعَّفنّ لكم التِّيهُ من بعدي أضعافاً، بما خلّفتُمُ الحقّ وراء ظهوركُم، وقطعتُمُ الأدنى ووصلتُمُ الأبعد...".

ويدلّ قوله (ع) على أنّ نصرة الحقّ عملٌ دائم لأهل الإيمان وأنّ أرباب الفتن يتربّصون بالأُمّة لحظة التخاذل كي يسعّروا نار الفتنة.

 

وصف بدايات الفتنة:

ويصف الإمام (ع) كيف تبدأ الفتنة، ويصوّر آليّة حركتها وانتشارها في المجتمع، بقوله:

"... ثمّ إنّكم معشَرَ العرب أغراضُ بلايا قد اقتربَت، فاتّقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة (المصائب الكبرى)، وتثبّتوا في قتامِ العِشوة (غبار الظلمة) واعوِجاج الفتنة عند طُلُوع جنِينها، وظُهُور كمينها، وانتِصاب قُطبِها ومدار رحاها. تبدأ في مدارج خفيّةٍ، وتؤولُ إلى فظاعةٍ جليةٍ. شِبابُها كشِبابِ الغُلام (إشارة إلى قوّتها وعنفوانها)، وآثارُها كآثار السّلام (أي الحجارة الصمّاء أي أنّها تجرح وتكسر) يتوارثُها الظلمة بالعُهود، أوّلُهُم قائد لآخرِرِهم، وآخِرُهُم مُقتدٍ بأوّلهم. يتنافسون في دنيا دنيّةٍ، ويتكالبون على جيفةٍ مُريحة (نتنة). وعن قليلٍ يتبرّأُ التابع من المتبُوع، والقائدُ من المقُودِ، فيتزايلُونَ (يتفارقون) بالبَغضاء ويتلاعنون عند اللِّقاء"...

وهذا النص يشير إلى عدّة ملامح يجب التنبه لها وترصّدها في المجتمع قبل استفحالها، وأهمّها:

1- إنّ الفتنة إنّما تلازم شيوع روح التّرف في المجتمع كما حذّر الإمام من هذا بقوله: "فاتقوا سكرات النّعمة..."، والحرص على التنعّم بملذّات الحياة وتوفير أسباب الراحة والحياة الناعمة ممّا يصيب المجتمع بالترهّل والانكماش وعدم التأثير في الآخرين، ويفقده الروح الثورية وأهدافه الكبرى القائمة على تحرير الإنسان من براثن الجهل والضلالة.

2- ما عبّر عنه الإمام بقوله: "تبدأ في مدارج خفيّة، وتؤول إلى فظاعة جليّة"، فهي تتسلّل إلى الأذهان بطرقٍ خفيّة ولعلّ ذلك إشارة إلى إيحاءات الشيطان، ويكون المرء في سكرةٍ عنها، ثمّ ما تلبث أن تتعاظم شيئاً فشيئاً حتى تصبح كبيرةً وفظيعة، ولا يلتفت لها الإنسان إلّا بعد هدأتها وانجلاء غبارها كما عبّر (ع) في الخطبة 93 من نهج البلاغة، قال: "إنّ الفتن إذا أقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وإذا أدبَرَتْ نَبّهَتْ، يُنكَرْنَ مُقْبِلاتٍ ويُعرَفْنَ مُدبِراتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّياح يُصِبْنَ بلداً ويُخطِئْنَ بَلَداً".

فالفتن إذا أقبلت تشابه الأمر على الناس وضاعوا في غياهبها، فإذا أدبرت أدركوا كنهها وحقيقتها وأهدافها وعظيم جريمتها، فمثلها مثل الإعصار يضرب مدينةً فلا تعرف حجم خسائره إلّا بعد زواله ولا تعرف ما ينبغي لك فعله ما لم تلتزم بالإرشادات المطلوبة لهذه اللحظة.

3- ما عبّر عنه الإمام بقوله: "شِبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السِّلام"، فهي في فورتها كعنفوان الشباب قويةٌ طموحةٌ لا تهدأ عند هدف، بل تسعى للمزيد من التسلّط والتملّك، وأمّا آثارها فهي كآثار الحجارة الصلبة التي إذا أصابت تركت جراحاً وكدمات بل وكسوراً في جسم الإنسان، فهي كذلك لا تترك جسد الأُمّة دون أن تصيبه بالجراح والكسور.

4- ما عبّر عنه الإمام بقوله: "تتوارثها الظلمة بالعهود، أوّلهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأوّلهم..."، وهذه الفتنة ليست مرحلة عابرة وغيمة صيف في تاريخ الأُمّة، بل سيعمد أربابها إلى توارثها بالعهود والمواثيق بينهم، وعلى الأُمّة أن تبقى على جهوزيّة لهذا الأمر.

5- ما عبّر عنه الإمام بقوله: "... وعن قليل يتبرّأ التّابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللّقاء". فالفتنة بعد انتشارها، واستحكامها في المجتمع سوف تبرز التناقضات بين القادة وتظهر الخلافات بينهم على اقتسام الغنائم ويحاول كلٌّ منهم أن يستأثر بأكثر من الآخر، وحينئذٍ تنقسم قيادة الفتنة إلى فئات متخاصمة متناحرة، وتجرّ المجتمع وراءها إلى التخاصم والتناحر والحروب فتتحوّل من فتنة إلى فتن ومن جماعةٍ إلى جماعات يسبّح كلٌّ منها بحمد قائده، وهم في الحقيقة يأكلون منها وتأكلهم ليخسر الجميع بعد ذلك دنياهم والآخرة.

ارسال التعليق

Top