◄الأساس المهم والقاعدة الأساسية التي يُبنى عليها المجتمع الإسلامي هي الإيمان بوحدة المنشأ البشري، وتعامل الشريعة والسلطة والأخلاق مع أفراد المجتمع على هذا الأساس. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات/ 13). ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرُّوم/ 21). ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (يس/ 60-61). ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف/ 110). ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء/ 1).
وإذا كان هذا هو منهج القرآن ونظرته للإنسان فإنّ المشكلة الكبرى التي تعاني منها الإنسانية اليوم هي مشكلة الاستعلاء العنصري، والصراعات القومية بين بني الإنسان، ومما يزيد المشكلة تعقيداً وتأزماً أنّ هذه المفاهيم سلكت أساساً لصنع الفوارق الطبقية والعصبيات العنصرية بين أبناء المجتمع الواحد، وبين الشعوب والأُمم، ثمّ نُظِّرت هذه المفاهيم الخاطئة، وبُنيت على أساسها دول ومفاهيم اجتماعية وسياسية واقتصادية وعسكرية.. إلخ.
وبدافع من هذه المفاهيم والنظريات البعيدة عن مقاييس العلم والعقل والأخلاق.. خاضت البشرية الحروب والصراعات الدموية الرهيبة.. حروب الاحتلال والاستعباد والسيطرة، ومورس الاضطهاد العنصري والإبادة العرقية في عصر يدّعي أجياله أنّها تعيش في عصر العلم والمعرفة، وإنّ أبسط قواعد العلم البيولوجية والسكيولوجية ومقاييس العقل تتحدَّث عن النوع الإنساني كإنسان، كما تتحدَّث الدراسات العلمية الأخرى عن أنواع الأحياء المُصاحبة للإنسان على هذه الأرض بأنّ كلّ نوع له خصائصه المشتركة بين أفراده.
والقرآن يثبت الحقيقة العلمية والأخلاقية والاجتماعية للنوع البشري، ويؤكِّد للناس أنّهم أبناء آدم، وأنّهم نشأوا من منشأ واحد، ولا فرق بينهم في التكوين البشري، وليس ما يشاهدونه من فوارق في اللغة واللون إلّا آية من آيات عظمة الخالق، ولا دخل لها في الأصل الإنساني، ولا يصح أن تكون اللغة أو اللون أو الجغرافية، أو ما يكسبه الإنسان من مال أو سلطة أو جاه.. إلخ سبباً للاختلاف العنصري والعرقي والإثني، فضلاً عن اعتبارها مقياساً للتعالي والتسلُّط والتمييز العنصري بين أبناء آدم، أو أساساً متميزاً للدولة والسياسة.
والقرآن سجَّل هذه الحقيقة وخاطب بها العقل البشري.. خاطبه بقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الرُّوم/ 22).
وعندما نريد فهم هذه القضية في ثقافة القرآن وشريعته وتقيمه العلمي للأصل البشري سنجده في كلّ مخاطبة وتشريع وتعريف يتحدَّث عن الإنسان كنوع يشترك أفراده جميعاً بالصفة البشرية التي لا تقبل التجزئة العنصرية والتمييز العرقي والاستعلاء الإثني، فتراه يخاطب الإنسان في سبع آيات بقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ ليفهمهم أنّهم أبناء آدم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (يس/ 60-61). ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾ (الإسراء/ 70). ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف/ 31). ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (الأعراف/ 35-36).
ويوضح القرآن للإنسان وحدة الأصل والمنشأ، ويرفض التمييز العنصري المفتعل، واتّخاذه أساساً ومقياساً للتفاضل.. سجَّل هذا المبدأ العلمي بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات/ 13).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء/ 1). ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرُّوم/ 21).
القرآن في هذه الآيات يريد أن يُفهِّم الإنسان أنّ الناس - رجالاً ونساء - خُلقوا من نفسٍ واحدةٍ، وإنّ مقياس التفاضل بينهم هو (التقوى).. أي الاستقامة السلوكية والفكرية، فخيرهم خيرهم في سلوكه وفكره وعمله، والقرآن في مخاطبته للناس بأنّهم أبناء آدم، إنّما يريد أن يرسي قواعد الأخوة الإنسانية بين الناس الذين هم أخوة، وأبوهم آدم (ع).. إنّه يريد أن يشعرهم ويُحسِّسهم بذلك لئلا يتعالى البعض على البعض، أو يستغله أو يحتقر وجوده؛ لذلك وضَّح للناس أنّ الخالق العظيم كرَّم بني آدم جميعاً، وعليهم أن يجعلوا هذا التكريم سلوكاً عاماً فيما بينهم، كأخوة متساويين في المنشأ وفي استحقاق التكريم، إنّهم كرَّموا أنفسهم بالالتزام بمنهج الحقّ والخير والهدى الذي جاءهم من خالق الوجود.
ومما يزيد المفهوم إيضاحاً وتأكيداً هو إنّ استعمال الخطاب ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾.. جاء في أربع آيات متقاربة بعد الحديث عن خلق آدم وقصّته مع إبليس في أوليات سورة الأعراف، فخاطب الناس جميعاً بأبناء آدم.
ويتحدَّث القرآن عن الفروق الفردية في الناس والتفاوت في المستوى العقلي والجسمي والنفسي والإمكان البشري.. يتحدَّث عنه ويوضِّحه بأنّه تعبير عن حكمة الله في الخلق، وإنّه من أُسس التكامل في بناء المجتمع البشري، لئلّا يُفسِّره البعض بالاستعلاء والتفوق النوعي، فالمجتمع يحتاج بناؤه إلى مختلف الطاقات والكفاءات والإمكانات البشرية لسدّ حاجاته في مجال إنتاج الغذاء والدواء والبناء واللباس، وتوفير الاختصاصات العلمية والعملية المختلفة.. إلخ. قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف/ 32).
وما تحدَّثنا عنه في هذا المجال هو قبسات مما جاءت به الرسالة الإسلامية، وهي كافية لأن توضح للبشرية أنّ الدِّين الإسلامي شريعة احترمت الإنسانية في الإنسان، وتعاملت مع الجميع على حدٍّ سواء، وإنّما يصنع الإنسان ذاته الاجتماعية، فيصوغ شخصيته الخيِّرة أو الشريرة، والمهتدية أو الضالة، فيكون هو المسؤول عن الوضع الذي يضع نفسه فيه، وعلى هذه الأُسس بنى الإسلام مجتمعه ونظامه الاجتماعي وقوانينه المنظِّمة للحياة البشرية بمختلف مجالاتها.
وعلى هذه الأُسس بنى الإسلام الحقوق والواجبات والتكاليف في المجتمع الإنساني، ولم تصل البشرية إلى هذه القيم والمبادئ إلّا بعد الحرب العالمية الثانية حيث أعلنت عُصبة الأُمم (الأُمم المتحدة) وثيقة حقوق الإنسان في 10 كانون الأول / ديسمبر 1948م، وثبَّتت فيها أنّ الناس جميعاً ينتمون إلى أصل بشري واحد وهم متساوون في المنشأ والتكوين البشري.
ويجب أن يكونوا متساوين في الحقوق والواجبات مع ما في هذه الوثيقة من نواقص وعيوب وإشكالات.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق