• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصوم.. تقوية للروح

د. يوسف القرضاوي

الصوم.. تقوية للروح
لا نستطيع أن ندرك سر هذا الصوم إلا إذا أدركنا سر هذا الإنسان.. فما الإنسان وما حقيقته؟ هل هو الجثة القائمة، وهذا الهيكل المنتصب؟ هل هو هذه المجموعة من الأجهزة والخلايا واللحم والدم والعظم والعصب؟ إن كان الإنسان هو ذلك فما أحقره وما أصغره!! نعم.. ليس الإنسان هو ذلك الهيكل المحسوس، إنّما هو روح سماوي يسكن هذا الجسم الأرضي. وسر من الملأ الأعلى في غلاف من الطين! ليست حقيقة الإنسان إلا هذه اللطيفة الربانية، والجوهرة الروحانية التي أودعها الله فيه، بها يعقل ويفكر، وبها يشعر ويتذوق، وبها يدبر مُلك الأرض، ويتطلع إلى ملكوت السماء، وبها أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم، لا لما فيه من حمأ مسنون، وطين معجون، (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص/ 71-72). ذلكم هو الإنسان؛ روح علوي وجسد سفلي، فالجسد بيت، والروح صاحبه وساكنه، والجسد مطية، والروح راكب مسافر، ولم يخلق البيت لنفسه، ولا المطية لذاتها، ولكن البيت لمصلحة الساكن، والمطية لمنفعة الراكب، فما أعجب هؤلاء الآدميين الذين أهملوا أنفسهم وعنوا بمساكنهم وجعلوا من ذواتهم خداماً لمطاياهم؛ وأهملوا أرواحهم وعبدوا أجسادهم، فللجسد وحده يعملون، ولإشباع غرائزه الدنيا ينشطون، وحول بطونهم وفروجهم يدورون، نشيدهم الدائم قول القائل: إنّما الدنيا طعام **** وشراب ومنام فإذا فاتك هذا **** فعلى الدنيا السلام أولئك الذين وصفهم الله بقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) (الفرقان/ 43-44). ذلكم هو الإنسان روح وجسد، فلجسده مطالب من جنس عالمه السفلى، وللروح مطالب من جنس عالمها العلوي، فإذا أخضع الإنسان أشواق روحه لمطالب جسده، وحكّم غريزته في عقله، استحال من ملاك رحيم إلى حيوان ذميم، وربّما إلى شيطان رجيم، هذا الذي ناداه الشاعر المؤمن: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته **** أتطلب الربح مما فيه خسران؟! أقبل على النفس واستكمل فضائلها **** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان!! أمّا إذا عرف الإنسان قيمة نفسه، وأدرك سر الله فيه، وحكّم جانبه السماوي في جانبه الأرضي، وعنى بالراكب قبل المطية، وبالساكن قبل الجدران، وغلّب أشواق الروح على نوازع الجسد. فقد صار ملاكاً أو خيراً من الملاك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة/ 7).

ومن هنا فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة، فليس عجيباً أن يرتقي روح الصائم ويقترب من الملأ الأعلى، ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح، ويدعو ربه فيستجيب له، ويناديه فيقول: لبيك عبدي لبيك، وفي هذا المعنى يقول النبي (ص): "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم...".

المصدر: كتاب العبادة في الإسلام

ارسال التعليق

Top