◄يأتي الحظ في أوقات مختلفة وبأشكال عديدة، يتمناه الإنسان وينتظره من دون التصريح بذلك، لئلا يُتّهم بالسذاجة والاتكالية. ولكنه الحظ، مُقَدّر لكل إنسان في وقت وزمن ما وبشكل ما. الحظ السيِّئ هو ما نخشاهُ، ولكننا ننتظره ونأمل أن يكون حظاً طيّباً، خاصة في أوقات الأزمات والسقطات، نتطلّع إليه وندعو إلى امتلاكه أو لمسه حتى ولو بشرائه. والأمثال الشعبية تدلنا على أنّه موجود منذ بداية الخليقة، يقول المثل الشعبي: "أعطني حظاً وارمني في البحر" أو "يللّي ما عنده حظ لا يتعب ولا يشقَى".
ولكن، كيف لطفل وحيد في عالم مُتخبّط غير متوازن شراء الحظ، وهو لا يملك سوى طفولته المشرّدة وقميصه البالي ويديه المتّسختين ووجهه المعفّر وشَعرهُ الأشعث؟ بنظرات بريئة مُنبعثة من عينين سوداوين تنمّان عن ذكاء وتحدٍّ، ويتجول في السوق (سوق الخضار والفاكهة) منذ عامين مضيا. هو ابن هذه السوق، هكذا وجد نفسه فجأة واحداً وحيداً يجول بين الباعة والمشترين، يساعد ذلك على حمل مشترياته ويُنظّف أمام دكان هذا، ويكسب لقمة عيشه وكلمة استحسان وتشجيع من الباعة، لمواجهة وَجَع الحياة. عندما تقسو الحياة، تُجبر على الكفاح للإستمرار والتعلق بها، بغض النظر عن سنوات العمر والمقدرة. غيّب الموت عنه والده وضاعت منه والدته، بزواجها برجل خسيس. لذا، أصبح وحيداً لا يستطيع حل المعادلة وفهم النظرية القائمة، ولم يَبْق في خياره سوى الكفاح. وتحمّل مَشَقّة الحياة بغريزة طفل جَمَع باكراً كل مواجع وآلام وأحزان الكبار. هو حظ، وفأل سيئ لعيون بعض المترَفين عندما يحمل حاجاتهم إلى مركباتهم. وحظ، وفأل طيّب لأمثاله من المحرومين، يُشاركهم غلّة يومه ويُشاطرهم حزنه ومكان نومهم. ولكن اليوم، سيسعى وراء حظه الجميع في السوق، يشهدون بكفاءته وفطنته. لكن، ومع الأسف أيضاً بسوء حظه. لقد شهدت دكاكين السوق سرقات صغيرة وسريعة، ولم تهتم الشرطة بتلك السرقات التافهة. فأعلن أصحاب الدكاكين جائزة صغيرة لمن يستدل على اللص ويُعرّف أهل السوق إليه. جائزة صغيرة لكنها كبيرة وقيّمة، بالنسبة إلى طفل في العاشرة من عمره، حُرم من كل شيء وليس لديه شيء سوى تمنّي دخول محل الجزّار، وشراء رغيف كباب، وشُرب علبة كولا، ومن ثمّ التوجه مباشرة إلى شراء حذاء بنّي اللون، يُشبه حذاءه الصغير الذي كان يرتديه وهو يتجول في الحديقة، مُتعلّقاً بيد والده وتُطعمه أمه الآيس كريم. ربّما إذا لبس لون ذاك الحذاء نفسه.. ستعود إليه تلك الأيام ولو بتفصيل الذكريات. شحذ همّته وطرد النوم من عينيه، قاوم لسعة برد الليل وأخذ يُراقب الطريق.. ينفخ بين كفّيه ليشعر بالدفء وأحياناً يفرك عينيه. أعجبته الحال، فهو الآن يمثل دور الشرطي، وغداً سيكشف عن شخصية السارق وينال المكافأة. إنها ليلة باردة كئيبة، فهل سيحالفه الحظ ويأتي اللص في هذا الجو القارس ليتعرّف إليه وينال المكافأة؟ ولكن لماذا لا يسرق اللص سوى القليل في كل مرة؟ سؤال حار فيه أصحاب المحلات وأدّى إلى عدم مُبالاة رجال الشرطة.
رمَى برأسه الصغير على طرف الحائط وغَفا غَصْبَاً عنه. مُوَاء قطة شاردة مثله نبّهه، اندَسّت إلى جانبه، أشعرته بالدفء، إنها تتبعه دائماً في السوق، يحنو عليها، يُداعبها، يعتذر لها إن لم يجدها. هو في حاجة إليها كحاجتها إليه. دَسّ أصابعه الصغيرة في شعرها الناعم ورَبت على ظهرها.. إنها إشارات حظ، فلولا صوت موائها لما صحا من غفوته. ظهر السارق في آخر السوق يمشي مُتلّفتاً حوله، وبحذَر تَفرّس الصبي في شكله، هو في حجمه يلف رأسه بشال مُهترئ، تبعه بخفّة ليتأكد من شخصيته. انْسَل السارق من فتحة التهوية إلى داخل مخزن صغير للأغذية، تبعه بخفّة، فتقابلا وجهاً لوجه، وجوهٌ متشابهة مُعَفَرة. نظرات واحدة تائهة، متألمة. سأله الصبي: أنت السارق؟ أجاب اللص: نعم. وأنت مَن يُريد الجائزة؟
جَمَع اللص الصغير القليل من البسكويت وعلبة حليب، وخرَج من حيث دخل. تبعه الصبي وشعر بأنّ اللص لم يُمانع أن يتبعه، بل أراده أن يكون معه إلى قربه. لذلك، كان يتمهّل الخطَى أحياناً. دخل وراءه كوخاً حقيراً. في الزاوية امرأة شاحبة اللون، مستلقية على فراش ضيّق، يُداهمها سُعال حاد بين حين وآخر. يَتَفَصّد العرق من وجهها، تمسحه بخرقة رمادية. ويخزها ألم يدفعها إلى التأوّه بصوت حاد. إلى جانبها طفلان صغيران يلتصقان بها.. هَلّا فرحاً بحضور أخيهما وحضور مأدبة الطعام..! تَبَادَل الصبيّان الصغيران النظرات. إن الوَجَع واحد، والألم هو سبيلهما في الحياة. عاد الصغير يضرب بحذائه البالي حصى السوق، ناداهُ صاحب مخزن الأغذية مُتهكّماً: ضيّعت الجائزة عليك، لقد أتى اللص في الأمس وسرق بضاعة غالية، ألم تتعرّف إليه.. هل غفويت؟ إنه حظك السيِّئ.. إنّه الحظ.. فاز به وخسره، ويمكن أن يأتيه في الغد، فسوف ينتظره.►
*كاتبة من جدة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق