• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإستغفار.. دأب الصالحين ونهج المتقين

حياة كتبي

الإستغفار.. دأب الصالحين ونهج المتقين

من ثمراته: تطهير النفوس.. البركة في الرزق.. دفع البلاء وإزالة الهموم

كثيراً ما تُقرن التوبة بالإستغفار، ذلك أنّ الإستغفار يكون باللسان، والتوبة تكون بالإقلاع – عن الذنوب – بالقلب والجوارح، وبهذا يكون الاستغفار هو وسيلة التوبة. من عظيم فضل الله ومنته على عباده المؤمنين، أن شرع لهم الإستغفار، وفتح لهم باب التوبة، فالخطأ والتقصير مما جُبل عليه البشر، قال (ص): "كلّ إبن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". ومن واسع رحمته تعالى أيضاً أنّه يغفر الذنوب مهما عظمت، ويعفو عن السيئات مهما بلغت، قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53). روى الترمذي في سننه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "قال تعالى: يابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثمّ إستغفرتني غفرتُ لك ولا أبالي، يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمّ لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" ففي الحديث السابق يذكر لنا إبن رجب: أن لحصول المغفرة ثلاثة أسباب:

أوّلها الدعاء مع الرجاء: فإنّ الدعاء مأمورٌ به، وموعود عليه بالإجابة كما قال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، وفي الحديث: "إدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة"، كما أنّ الإلحاح في الدعاء موجب للمغفرة، ومهما بلغت وعظمت ذنوب العبد، فإن مغفرة الله أعظم منها، ففي الصحيح عن النبي (ص): "إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإنّ الله لا يتعاظمه شيء"، وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

يا كثير الذنب عفو **** الله من ذنبك أكبر

ذنبك أعظم الأشياء **** في جانب عفو الله يغفر

ثانيها الإستغفار: فلو عظمت الذنوب والخطايا، فإن كثرة الإستغفار كفيلة بالمغفرة قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 110). وقد كثر ذكر الإستغفار في القرآن الكريم، فتارة يُؤمر به كقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل/ 20)، وتارة يُمدح أهله كقوله تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) (آل عمران/ 17). كما أن هناك ساعات إجابة كالأسحار، وأدبار الصلوات المكتوبة، قال الحسن: أكثروا من الإستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.

ثالثها التوحيد: وهو السبب الأعظم، ومن فقده فقد المغفرة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء/ 48)، فإن كَمُلَ توحيد العبد إخلاصه لله، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه وَجَبَتْ له المغفرة على ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بإذن الله.

 

-        لماذا نستغفر؟

يعتقد بعض الناس أنّه ليس محتاجاً إلى التوبة والإستغفار مادام مقيماً على أداء الفروض والواجبات التي فرضها الله عليه وملحقاً بها بعض النوافل والطاعات، ويظن أنه مستغن عن التوبة والإستغفار لأنّه ليس لديه ما يتوبه منه. وهذا إعتقاد خاطئ وظن في غير محله، فقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب التوبة والإستغفار، فهما من أسباب تنزل الرحمات الإلهية، وتحقيق صلاح العبد وفلاحه في الدنيا والآخرة قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 31). كما أنّ الله عزّ وجلّ قد أمر أكرم الخلق (ص) بإخلاص الدين، ودوام الإستغفار، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد/ 19). ولقد حثنا الرسول (ص) على الإستغفار والإكثار منه، فكان (ص) مستغفراً على الدوام ملازماً له، إذ قال عن نفسه: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".

 

-        أهل الطاعات محتاجون للإستغفار والتوبة كما يحتاج إليها أهل الذنوب:

فالإستغفار ليس مقتصراً على المذنبين، بل هو مطلوب من الأبرار، فالأنبياء مكلفون به وهم الذين ليس لهم ذنوب إذ قيل فيهم: "حسنات الأبرار سيئات المقربين" – وقد إختلف العلماء في تعليل هذا التكليف من المولى سبحانه وتعالى لأصفيائه، وأوليائه، فمنهم من رأى أن إستغفارهم ليس من الذنوب وإنما هو من أجل أن يبقوا في الأوج الذي يحلق فيه مع الملأ الأولى، حيث لا يمكن أن يهبطوا إلى مستوانا الأرضي، ومنهم من قال: إظهار العبودية والتذلل لله سبحانه وملازمة الخشوع – وبذلك يُعد الإستغفار من أفضل الكمالات فهو دأب الصالحين، ونهج المتقين، إمتلأت قلوبهم بخشية الله، وجاشت نفوسهم بعظمة الخالق. فإذا كان هذا شأن أصحاب العزائم، وأهل الإيمان يكثرون من الإستغفار صادقين مخلصين غير يائسين ولا مصرِّين فمن الأولى أن يكون الإستغفار واجباً على جميع الخلق.

موجبات الإستغفار: الإستغفار مطلوب لجبر ما في الخلق من ضعف، وقصور، ونقص قد يحملهم على اقتراف الذنوب، والمعاصي، فهو مطلوب أيضاً لأمور منها:

1-    الخلل الذي يقع في الطاعات نفسها، فنادراً ما يأتي أحد بالعبادات المفروضة كاملة.

2-    التقصير أو التفريط في شكر النعم التي لا تعد ولا تحصى.

3-    مما قد يشوب العمل من الرياء والسمعة والتباهي.

4-    غلبة الهوى، والميل إلى ما ترتاح له النفس من الطاعات في حين أنّ المؤمن مطالب بصنوف من العبادات يؤديها كلها كاملة من غير تقصير في إحداها.

5-    تمام الأعمال الصالحة، وكمالها.استحقاق الرضوان الأعلى، فالخطأ في حق الله لا يجبره إلا الاعتذار والاستغفار.

 

-        ثمرات الإستغفار:

من فضائل الله، وعظيم منِّه على عباده أن رتّب على الإستغفار جزاءً عظيماً، وعطاء سابغاً من خيري الدنيا والآخرة، ومن ذلك:

1-    غفران الذنوب: قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء/ 64).

2-    تطهير النفوس: قال الرسول (ص): "إني ليغان على قلبي فأستغفر ربي أكثر من مائة مرة".

3-    سعة العيش والبركة في الرزق، وكثرة النسل، قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 10-12).

4-    دفع النقم والمحن والبلاء، قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال/ 33).

وقد ورد في هذه الآية أنّ الرسول (ص) قال: "لهذه الأمة أمانان"، أحدهما وجود الرسول (ص) نفسه، والثاني الإستغفار، وقد ذهب الأمان الأوّل وبقي الأمان الثاني إلى قيام الساعة.

5-    زوال الهموم، وتفريج الكربات، عن ابن عباس عن الرسول (ص)، قال: "من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب".

6-    القوة والتمكين، والعزة، قال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود/ 52).

7-    تيسير العسير، قال الإمام أحمد: "إنّ المسألة لتستعصي عليّ فأستغفر الله، فيفتح الله عليَّ".

 

-        أفضل أنواع الاستغفار:

من آداب الاستغفار البدء بالثناء على المولى جلّ وعلى، ثمّ الإقرار بالذنب، وقد ورد في الحديث صيغ كثيرة لأنواع الاستغفار من أفضلها:

-        سيد الاستغفار: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شمر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت".

-        قال (ص): استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم وأتوب إليه"، من قال غُفر له وإن كان فرَّ من الزحف.

-        قال الرسول (ص) حيث طلب منه الصديق أبو بكر (رض) يعلمه إستغفاراً: "اللّهمّ إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".

جعلنا الله من المداومين على الإستغفار، وممن قال فيهم: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) (آل عمران/ 16-17).

وختاماً: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الصافات/ 180-182).

ارسال التعليق

Top