أوّلاً- قصّة الإفك: 1- إنّ الذين جَمَّدوا القرآن فرأوا في قصصه التاريخية حوادث منفصلة عن واقعهم المعاش، أو رأوها أحداثاً ماضوية تخصّ شخصياتها التي لعبت أدوارها، قد خسروا خسراناً مبيناً.
«قصّةُ الإفك» في الآيات (11-26) من سورة النُّور، لم تكن مشهداً على مسرح طوي بإنزال الستار عليه، ولم تعد رواية نقرأها، كما نقرأ (البؤساء) لفيكتور هوجو.. هي قصّتنا التي نحياها يومياً وعلى مدار الساعات واللحظات، لا في طبيعة القصّة (فحواها)، بل بــ(الافتراء)، و(الاختلاق)، و(بث الإشاعة)، و(نشر الفاحشة) في الأوساط المجتمعية من غير تبيُّن ولا تثبُّت.
2- ولأنّ القصّة إنسانية ذات أبعاد وليست مختصّة بزوج النبيّ (ص)، فهي أعمّ من أن تكون حادثة تهكُّم، وافتراء، ومساس بعرض النبيّ (ص)، وإنّما هي قصّة كلّ الأخبار والمرويات غير المؤكَّد من صحّتها، وقصّة كلّ النصوص التي تُساق بإرسال، واسترسال، واستلال، وقصّة كلّ الأقوال التي تُطلق من غير استشعار لرقيب (داخلي) أو (خارجي).
3- كثيراً ما يحصل التعامل الفجّ غير الناضج مع المرويات (المكتوبة، والمصوَّرة، والمسموعة) فنلوكها، ونعيد إنتاجها وتدويرها، ونتسامر بها في نوادينا ومجالسنا من دون أن نعرف أنّنا نعيش (قصّة الإفك) وإن تعدَّدت مشاهدها، وتباين رواتها، وتباعدت أمكنة وأزمنة حدوثها.
4- إنّ قصّة الإفك تتحدَّث عن (مجتمع ناقل) و(مجتمع متساهل)، مجتمع له قيمَهُ لكنّه يتجاهلها، ذلك أنّ حسّاسية سمعه لالتقاط (الفضائح) أشدّ من حسّاسيته لاستماع المواعظ والنصائح، والوصف بــ(العصبة) أي العصابة المتآمرة والمتواطئة على الترويج للإفك، والافتراء، والبهتان، من غير دليل ولا برهان، وصفٌ دقيق، لأنّ المتورِّطين بنشر (الأكذوبة) والإشاعة، استحالوا إلى عصابة لانتهاك (الأمن المجتمعي) من خلال أخطر أدواته (الأمن اللساني)!
5- والعصابة التي تناقلت قصّة الإفك ليست مندسَّة من الخارج، وإنّما هي من داخل المجتمع المسلم ذاته (منكم).. من بيئتكم، من الذين يتلون الكتاب، ويتلقّونه طازجاً من فم رسول الله (ص)، الأمر الذي يشير إلى ازدواجية هذا المجتمع الناقل المتساهل، بين ما يتلقّاه من تعاليم، وبين ما يمارسهُ من انتهاكات.
6- القرآن - في تقييمه لحادثة الإفك - لا يحكم على الجميع المتورِّطين في تداول القصّة وإشاعتها بحكم واحد، وإنّما يوزِّع الحكم بالحصص، فحصّة مُختلق الرواية وصانعها ومُسوِّقها الأكبر، لاحظوا: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ﴾ (النُّور/ 11)، سواء بإثم النقل بالحرف والحذافير، أم بإثم الإسقاطات والزيادات.. أمّا باثّ الدعاية، ومصطنع الرواية، فإثمه مضاعف ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النُّور/ 11).
7- المحاكمة القرآنية لقصّة الإفك المفتعلة تأخذ منحى الأسئلة الاستنكارية (المعنِّفة)، ولذلك تكرّر (لولا) فيها ثلاث مرّات، و(لولا) حرف امتناع لوجود، أي امتنع الجواب لوجود الشرط.
لماذا لم يقف (السامعون، الناقلون، المردِّدون، والمشيِّعون) عند عتبة الخبر الفرية، ليتبيَّنوه، ويحاكموه، ويتحرّوا مدى صِدقه وصحّته: هل صدر فعلاً أم أنّه مجرّد فرية كاذبة لا أصلَ لها: ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ (النُّور/ 12).. أما كان يُفترض بالمؤمنين، بدلاً من إشاعة الفاحشة، أن يتريّثوا، ويتردَّدوا، ويسألوا أنفُسهم: أليس أمراً كهذا مستبعدٌ من امرأة محصّنة مؤمنة (بل أُمّ المؤمنين)؟! فضلاً عن كونها زوج النبيّ التي تحترم سمعته ومكانته ومقامه؟! لماذا لم يُلجموا التهمة عندما وصلتهم؟! لماذا لم يقبروها في مهدها بالقول: ﴿هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ (النُّور/ 12)؟! لماذا لم يحملوا أُمّ المؤمنين على مَحمل حَسَن؟! لماذا صدَّقوا الكذبة وراحوا يتداولونها على أنّها حقيقة واقعة؟! لماذا نسوا أو تناسوا في (حُمّى التداول) أنّه «ما بغت امرأةُ نبيّ قطّ»؟!
لماذا لم يطالبوا بالدليل والبرهان وهم يتلون الكتاب الذي يصدح بوجود الأشهاد بأربعة شهود لإثبات واقعة الزنا، وأنّهم رأوا بأُمّ أعيُنهم الفاحشة ولم يسمعوها من رواة: ﴿لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (النُّور/ 13).. إمّا الدليل الإثباتي، وإمّا الناقلُ كاذب، وحتى ولو اجتمع خمسون ينقلون ما سمعوه، لما كان ذلك سبباً لتصديقه!
8- الاستطرادات، والاستغراقات، وإضافة الرتوش والبهارات، والغمزات واللمزات، خروج لا أخلاقي على أصل الحادثة (هذا إذا افترضنا وقوعها أصلاً)، إذ هو لون من ألوان توسعة دائرة الاتهام، وصبّ زيت الألسنة على نار الرواية المفتراة المفتعلة: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النُّور/ 14).
ومن الإفاضة التمادي في المسارّة، والنقل في المحافل العامّة، والإفاضة هي امتلاء الإناء عن آخره حتى يسيح منسكباً، هناك في قصّة الإفك (إسهابٌ وإطناب)، وليس مجرّد نقل وارتياب.
9- تداول التهمة غير المحاكمة (ضمن الآليات التي عرضنا لها) أمرٌ شنيعٌ فظيع: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ﴾ (النُّور/ 15).
هناك (تلقٍ) و(استقبال) من غيرِ فحصٍ ولا سؤال، وهناك (إفاضة) و(إضافة) بلا دليل موثوق، ولا شهود عيان، وكم يسوقُ لك مجترح الفرية دليلاً مريضاً لنفسه محاولاً إقناعك أنّ ما لم يحدث حدث فعلاً.
10- القرآن، وإن طوى صفحة (قصّة الإفك) تاريخياً؛ لكنّه نبّه إلى مخاطرها المستقبلية وتبعاتها المجتمعية الوخيمة، حيث فتح الدرس المُستفاد منها على كلّ قول مختلف، ونصّ مكذوب، وخبر ملفَّق: ﴿يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (النُّور/ 17)، معتبراً (الإفك)، وهو صرف الخبر والقول والنصّ عن سياقه ووجهه الصحيح (فاحشة): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (النور/ 19)، وواصفاً إيّاه بأنّه (خطوات شيطانية): ﴿لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (النُّور/ 21)، ومؤكداً أنّه (لعنة) في الدُّنيا والآخرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النُّور/ 23).
إنّ قصّة الإفك ليست قصّة (قذف) المحصنات البريئات فحسب، بل هي قصّتنا جميعاً مع الأقاويل والنصوص والمتلاعب بها، والأخبار العارية عن الصحّة: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ (الشُّعراء/ 221-222).
ثانياً- رواية (الهُدهُد) ومحاكمة (سليمان (ع)):
1- الموظفُ في مملكة سليمان (ع) ملتزمٌ بالقواعد والضوابط والقوانين، يعلم موقعه من مملكة ربّانية يسير كلُّ شيء فيها دقيقاً كآلة ضبط الوقت، فلا يَتخلَّف أو يتأخَّر عامل من عُمّالها أو مُوظَّف من مُوظَّفيها عن الالتزام بمسؤولياته، صغيراً كان هذا المُوظَّفُ أو كبيراً، لأنّه يعرف (المقرَّرات المرعيّة) مثلما يعلم (العقوبات السارية).
2- (الهُدهُد) بصفته مُوظَّفاً عند سليمان يعرف ذلك جيِّداً؛ لكنّه يعرف أيضاً أنّ مهمّة استثنائية فيها لله رِضا، ولمملكة سليمان مصلحة، لا يتردَّد عن القيام بها، ولا تحتاج إلى إذن شرعي (ربّما استوحى ذلك من هامش الحرّية الذي منحه سليمان (ع) لعُمّاله ومُوظَّفيه، بقرينة قوله: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ (النمل/ 21))، سافر الهُدهُد إلى سبأ وأتى بالنبأ اليقين.
3- رواية الهُدهُد قويّة، متكاملة، متماسكة، متوفِّرة على شرائط النقل الخبري الدقيق.. وعلى الرغم من ذلك يتردَّد سليمان (ع) في قبولها من غير محاكمة، لا لكونها (خبر الواحد) لاسيّما وأنّه يعلم أنّ مُوظَّفه الهُدهُد لا يجرؤ على الكذب؛ لكنّه في موقع يجعله لا يكتفي بسماع رواية يرويها مُوظَّف من غير تثبُّت وتحرِّي عن صحّتها، لأنّ على الصحّة يتوقَّف الموقف واتّخاذ القرار، وهذا هو الذي يستدعينا إلى الإفادة من آليات محاكمة النصوص والأخبار والمرويات: ﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (النمل/ 27).
4- سليمان (ع) لم يكذِّب هُدهُده، خاصّة وأنّه قدَّم الصِّدق على الكذب، وإنّما هو في موقع الاحتراس والاحتراز، وعدم التسرُّع في بناء موقفه على مجرّد رواية وصفية لم يتحقَّق من ملابساتها على أرض الواقع.
5- كتاب (رسالة) سليمان إلى بلقيس (ملكة سبأ) دليل على تصديقه لرواية الهُدهُد؛ لكنّه أراد أن يُجري مقارنة بين (الرواية المنقولة) وبين المضامين والتفاصيل الواردة فيها، ودليلُ تصديق سليمان لهُدهُده أنّه لم يُكلِّف هُدهُداً آخر لتحرّي الدقة والصحّة، بل بعثه هو نفسه!
6- وعلى الرغم من أنّ رواية الهُدهُد يقينية (بنبأ يقين) ومتوفِّرة على شروط الخبر، إلّا أنّ محاكمة سليمان (ع) للخبر تجعلنا في زمن التواصل الاجتماعي والنقل السريع، وأجواء الإعلام الفضائي وقلّة المتورّعين في تداول الأخبار والنصوص والأقوال إلى أن نُعيد النظر مراراً وتكراراً، قبل أن نحكم (لِــ)، أو نحكم (على) أو (ضدّ)، وسؤال: ﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (النمل/ 27)؟ هو برسم كلّ مَن يصله خبر من (سبأ) أو من قرية بعد (عبّادان)!
التحقُّق أوّلاً..
وترتيب الأثر، واتّخاذ الموقف، لاحقاً!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق