الوصية هي العهد بأمر من الأمور، كي يفعل، مما فيه صلاح عند الموصى. ووصاه بالشيء: رغب إليه في أن يفعله، وأوصاه بكذا: عهد إليه به، وتواصى القوم: أوصى بعضهم بعضاً، والوصية تقترن في العادة بوعظ لكي يحبب قائل الوصية من يوصيه في عمل الخير. والتوصية في الميراث هي ذكر ما يراد فعله في المال والقرابة بعد الموت. وفضيلة التواصي بالخير تفيد أنّ صاحبها قد تعوّد أن يتقدم بالنصيحة أو وصية الخير إلى مَن يحتاج إليها، أو مَن يطلبها، وهو مع هذا أو قبل هذا قد تعوّد أن يطلب من غيره أن يوصيه وينصحه ويوجهه، وبذلك يكون الإنسان ناصحاً ومنصوحاً، موصياً وموصى إليه، وبذلك تتحقق فضيلة التواصي بالخير، لأنّ التواصي معناه أن يوصي بعض القوم بعضاً، أي هم يتبادلون الوصية، فكلّ منهم معط وآخذ. وأساس فضيلة التواصي بالخير أن يكون المجتمع قائماً على التذكير بالخير، والندب إليه، فتكون الوصية بما هو خير شائعة فيه ذائعة، ومن وراء شيوعها يكون هناك تبادل للوصية، فيتحقق التواصي بالخير. وهناك مَن يقبل الوصية ويستجيب لها، وهذه منزلة من الخير محمودة، وهناك مَن يحرص على بذل الوصية لغيره، وهذه منزلة أخرى من الخير محمودة، والأكمل الأفضل هو أن يتقبل الإنسان النصيحة المخلصة ويعمل بها، وأن يبذل الإنسان النصيحة المخلصة لغيره. فذلك جمع بين الحسنيين. وكأنّ الاستجابة للوصية الإلهية هي مفتاح العقل والبصيرة، وباب التذكر المرشد المسعد، وسبب التقوى المنجية المعلية. ففي سورة العنكبوت: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) (العنكبوت/ 8). وفي سورة مريم على لسان عيسى: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم/ 31). والتوصية بالخير من سنن الأنبياء وعادة المرسلين، ولذلك يقول القرآن الكريم في سورة البقرة: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 132). الصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة، والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته: درجة تماسك الجماعة المؤمنة، وتواصيها على معنى الصبر، وتعاونها على تكاليف الإيمان. فهي أعضاء متجاوبة الحس، تشعر جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه، فيوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك، ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل، ويقوي بعضها بعضاً فلا تنهزم. وهذا أمر غير الصبر الفردي، وأن يكن قائماً على الصبر الفردي، وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة، وهو ألا يكون عنصر تخذيل، بل عنصر تثبيت، ولا يكون داعية هزيمة، بل داعية اقتحام، ولا يكون مثار جزع، بل مهبط طمأنينة. وكذلك التواصي بالمرحمة، فهو أمر زائد على المرحمة، إنّه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتخاذه واجباً جماعياً فردياً في الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع. فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه، وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله (ص)، لأهميته في تحقيق حقيقة هذا الدين، فهو دين جماعة، ومنهج أُمّة، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحاً كاملاً. وأن نخضع لهذا الحقّ فنتبعه وتتمسك به وندافع عنه، وأن نخلص أخيراً في هداية غيرنا إلى طريقه، لأنّ الإيمان لا يكمل إلّا إذا أحب المؤمن لأخيه ما يحبه لنفسه. وتواصوا بالصبر، والصبر ملكة صاحبها يحتمل ما يشق احتماله، وأن يحتمله دون شكوى، والصبر أنواع، فهناك صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر في طلب العلم، وصبر في الإعداد، وصبر في الجهاد، وصبر على تبعات الواجب، وصبر في تعليم الغير، وصبر عند الغضب، وصبر ضد شهوات النفس، وهكذا. ويلزمنا حين نوصي بالصبر أن نصحح معنى الصبر، وأن نؤمن بأنّه طريق الفوز، وأن يخلص كلّ منا في نصيحة أخيه بالتزام الصبر. فهو لا يكتفي بصلاح نفسه، بل ينقل الخير إلى أخيه في الإسلام. فمن خلال لفظ "التواصي" ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأُمّة أو الجماعة المتضامة المتضامنة، الأُمّة الخيرة الواعية القيمة في الأرض على الحقّ والعدل والخير، وهي أعلى وأنصع صورة للأُمّة المختارة، وهكذا يريد الإسلام أُمّة الإسلام، هكذا يريدها أُمّة خيرة واعية قائمة على حراسة الحقّ والخير، متواصية بالحقّ والصبر، في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن. ألا ما أجمل المجتمع حين تعمه روح التواصي بالخير، ويشيع فيه توجيه النصيحة المخلصة، وتقبل الوصية النافعة. إنّه مجتمع الإسلام والإيمان، وموطن الرضى من الرحمن.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق