◄يقول تعالى في كتابه العزيز: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
الإيمان هو محور السعادة في الدنيا والآخرة، متى أتبع بالعمل الصالح، والناس متفاوتون في الإيمان، فمنهم قوي تدفعه عزيمته إلى الأعمال الصالحة، والأمور الخيِّرة، بما يعود على نفسه وأُمّته بالخير والإسعاد في الدنيا والآخرة، فتراه مقداماً في ميادين الجهاد على اختلاف أنواعها، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى كلّ خير، ويسهم في كلّ عمل إنساني نبيل، لا تفتر همته، ولا تلين عزيمته ولا يجد الخَوَر إلى نفسه سبيلاً.
ومن اتصف بهذه الصفات، فذلك هو المؤمن القوي الذي أراده الإسلام وحرضه على أن يكون كذلك، تمشياً مع تعاليمه التي تدعو دائماً إلى القوة والعزة والشجاعة (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8).
أما ضعيف الإيمان فتراه بعكس سابقه، لا يقدم على خير، ولا يحض على بِر، ولا يسهم في بناء، فبقي إشعاع الإيمان خافتاً في نفسه، لم يقوِّه بالعمل، ولم يغذه بفعل الخير.
وهذان الصنفان من المؤمنين، هما اللذان أشار إليهما النبيّ الكريم (ص) بقوله: «المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك واستعنْ بالله ولا تعجز...».
والقوة التي أشار إليها الرسول الكريم، والتي دعا المؤمن إلى الاتصاف بها، والعمل على اكتسابها، هي عامة شاملة لجميع أفراد القوة، ولكل نواحيها.
فالمؤمن يجب أن يكون قوياً في إيمانه، قوياً في عزيمته، قوياٌ في عقيدته، قوياً في إرادته، قوياً في نفسه، قوياً في بأسه، قوياً في عدته قوياً في إنسانيته، قوياً في أمله، قوياً في بدنه، قوياً في عقله وتفكيره. وكلّ هذه الصفات يفرضها عليه إسلامه، وتوجبها عليه عروبته، فمن تخلى عنها، فهو مسلم من غير إسلام، وعربي من غير عروبة.
وإنّ قوة البدن وصحة الجسم بسلامته من العلل والأمراض، هي الأساس للاتصاف بكل تلك القوى المتقدمة، لذلك وضع الإسلام تشريعات خاصة للأبدان تقيها من العلل، وتحفظها من الأمراض، لأنّ صاحب الجسد العليل، لا تتاح له الفرصة للسير في مضمار الحياة، والقيام بواجبه الإنساني كعضو في الهيئة الاجتماعية.
ذلك لأنّ الإنسان المريض، ضعيف الإرادة، واهي الأعضاء، مضطرب التفكير، عصبي المزاج، لا يستفيد منه المجتمع الإنساني، كما يستفيد من الأصحاء الأقوياء، ولذلك مدح الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قوة البدن، مع سلامة النفس، ومتانة الخلق، في قوله على لسان ابنة شعيب، عن موسى (ع): (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ) (القصص/ 26). كما أشارت آية أخرى إلى أنّ القوة الجسمية مزية محمودة، وهي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 247).
والخطاب في هذه الآية لبني إسرائيل في شأن طالوت، فقد بينت الآية الكريمة أن اختيار طالوت كان لسببين، هما بسطة العلم، وهو الاطلاع الواسع في العلم الذي يكون فيه حسن التدبير، وجودة الفكر في تصريف شؤون الأُمّة، وبسطة الجسم وهو الكمال الجسماني المستلزم لكمال العقل وصحة الفكر.
والذي يتتبع التشريعات الإسلامية المتعلقة بصحة الأجسام يلاحظ أنّ الإسلام فرض على متبعيه كثيراً من الأصول التي يعتبرها الطب اليوم من القواعد الأولية، التي تصلح لدفع أكثر الأمراض قبل وقوعها، وللتخفيف من حدَّتها إذا وقعت.
من هذه الأصول التي وضعها الإسلام، النهي عن الشراهة، والاستزادة من تناول الأطعمة، لأنّ الإسراف في تناول المآكل يعرض الجهاز الهضمي للأمراض والخلل. قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).
إنّك إذا تأملت بهذه الكلمات القليلة، وجدتها قانوناً عظيماً من قوانين الصحة، متى سار الإنسان على حكمها، ضمن لنفسه الصحة، ولجسده القوة، وكان بعيداً عن الأمراض. وللنبيّ (ص) حديث في هذا المعنى، إذ يقول: "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابدّ، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه". يأمر النبي (ص) بأن يبقى ثلث المعدة خالياً حتى يترك مجالاً للتنفس بسهولة، وفي هذا حكمة واضحة في راحة المعدة، والانتفاع بالطعام.
وقد ثبت أنّ الإنسان إذا أكثر من الطعام لم يستطع له هضماً، ويصاب بالتُّخمة وعسر الهضم، وقد يحدث أن تصاب المعدة بالاتساع والتمدد بنتيجة الإفراط، فيفقد الإنسان الشهية بتناول الطعام، وإن تناوله لم يستطع له هضماً، ويتسبب عن ذلك القيء أو الإسهال أو الإمساك أو الصداع، وما شاكل ذلك من الأمراض والآلام.
ولأنّ الإسلام حريص كلّ الحرص على أن يكون المسلم قوياً في جسمه ليكون قوياً في جميع مرافق حياته، وليستطيع أن يؤدي رسالته في الحياة كاملة على أحسن وجه، أمر المسلم بالاعتدال في تناول طعامه، ونهاه عن الإسراف، ولعمر الحق، إن كلّ ما بحثه الباحثون، وقرره الأطباء وأشار إليه الفلاسفة والمصلحون في هذا الموضوع؛ إنّ كلّ ذلك ينطوي تحت ما تشتمل عليه هذه الكلمات القليلة في الآية الكريمة: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).
بعد أن يكون الجسم صحيحاً، والعقل سليماً، يتمكن المسلم من أداء رسالته نحو أُمّته، ونحو مجتمعه، ورسالة المؤمن شاقة قوية، تتطلب أجساداً صحيحة، وإرادات حديدية.
نعم، إنّ المسلمين مكلفون بتحقيق العدالة في الأرض، وهذا التكليف يقتضي أن يكافحوا الظلم والعدوان حيث كان، يزيلوا أسبابه، إنّهم مكلفون بذلك لا ليملكوا الأرض، ويستولوا على المرافق ويستذلوا الأنفس، بل لإعلاء كلمة الله في الأرض، خالصة من كل غرض، وبذلك يتحقق النظام الصالح الذي يسعد البشرية كافة، بقطع النظر عن ألوانهم وأجناسهم وأديانهم.
ولتكليف الأُمة الإسلامية بهذه المهمة الكبرى أشارت الآية الكريمة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...) (البقرة/ 143).
وقد حرم الإسلام الدار الآخرة، والنعيم المقيم، على الذين يبتغون العلو في الأرض، والإفساد في المجتمع. قال تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين) (القصص/83).
وهذه الدعوة الصادقة التي كلف المسلم بنشرها في الأرض، قد تجد في طريقها عقبات، من عصبيات وزعامات لا تقبل الحق، ولا ترغب في إقامة العدل؛ لذلك أمر الإسلام بالاستعداد لمواجهة هؤلاء، وأخذ الأهبة للحرب، فقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (الأنفال/ 60).
أمر الله المسلمين في هذه الآية الكريمة، بأن يستعدوا لأعدائهم بكل ما لديهم من قوة، وهو أمر لا يختص بزمان ولا بفريق من الناس، ولفظ القوة عام في كلّ ما يتقوّى به على حرب العدو، وكلّ ما هو آلة للحرب من الحصون، وأسلحة البر والبحر والجو، على اختلاف أنواعها وأشكالها، بحسب الأزمنة والأمكنة المختلفة، ومصانع الذخيرة، وإنشاء معاهد لتعليم فنون الحرب، وقيادة الجيوش، وغير ذلك من الأسباب التي تجعل الأُمّة شديدة القوة مرهوبة الجانب.
والقصد من إعداد هذه القوى إرهاب أعداء الإسلام، وتحذيرهم من عاقبة التعدي على الإسلام والعرب وعقائدهم ومصالحهم، ولتكون الأُمّة آمنة مستقرة في عقر دارها، وهذا ما يسمى في عرف العصر الحديث بالسلم المسلح، فقد أوجبه الإسلام قبل أن تعرفه أوربا بزمن طويل. وهذا معنى قوله تعالى: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال/ 60).
وقد أشار القرآن الكريم إلى مادة عظيمة من أهم المواد التي تتكون منها وسائل الدفاع، وهي الحديد. فقال تعالى في سورة سمِّيَت بهذا الإسم: الحديد: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد/ 25).
ثم حض الإسلام المؤمنين على إنفاق المال في سبيل الله لإعداد القوى العسكرية التي أقر بها، فقال تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (الأنفال/ 60).
وقد بينت آية أخرى في القرآن الكريم، أن ترك الإنفاق في سبيل الله من أسباب التهلكة: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة/ 195)، والمعنى: لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم بترك الإنفاق، فيغلبكم العدو، ويتمكن من قهركم وإذلالكم واستعماركم.
أيها المسلمون: هذا هو دينكم يدعوكم إلى العزة والقوة، ويحذركم من الضعف والذلّة، ويرسم لكم الأسباب التي تنهض بكم، وتأخذ بأيدكم إلى قمة المجد، وتجعلكم دائماً وأبداً سادة الناس، وقادة الدنيا، ومعلمي الخير. فقوموا بواجبكم في الأرض، واعرفوا مكانكم في الوجود (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 139). (وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد/ 35).►
المصدر: كتاب من وحي المنبر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق