الإيثار هو شعور داخلي ونزعه موجودة بداخل كلّ فرد في المجتمع، ولكن يحتاج إلى طُرق عديدة وأساليب مبتكرة لتثيره في نفس الفرد وتخرجه ليصبح فعل عملي على أرض الواقع، وعليه فإنّ على كلّ فرد النهوض بنفسه وبمجتمعه، والتحلّي بصفة الإيثار لما لها من فوائد إيجابية تعود بالنفع على الفرد والمجتمع سوياً.
الإيثار في أبسط معانيه هو أن تقدّم منافع غيرك على منافعك، أن تحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك، بل وأكثر مما تحبّ لنفسك، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك، أن تخدم الغير -عند الحاجة- أكثر مما تخدم نفسك، وذلك رغبة في رضا الله تعالى، وبهذا الشعور النبيل يجدد حقيقة إيمانه فيطهر نفسه من الأثرة والأنانية التي هي حبّ النفس وتفضيلها على غيرها، وهي صفة ذميمة عند مَن كمل إيمانه.
فالإيثار منزلة رفيعة القدر لا يتخلّق به إلّا أصحاب القلوب التي وعت إنسانيتها وفهمت دينها وتحقّق لها القرب من الله، فهو الخلق الذي وصف به الحقّ سبحانه وتعالى أنصار رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين جسّدوا تجربة الأخوّة الإيمانية في صورة لا عهد لتاريخ البشرية بها، فقال عنهم: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9). وإنّما امتُدح ذلك الجيل القرآني بالإيثار لأنّه -بالشكل الذي طبّقوه- من أصعب ما يكون على النفس البشرية، فقد يضحي المرء بنفسه أو بماله من أجل مبدأ أو فكرة يؤمن بها ويتحرّك من أجلها، أمّا أن يقدم الإنسان غيره على نفسه كما فعلوا فهذا ممّا يستثقله الناس. وليس الإيثار ادعاءً ولا شعاراً فارغاً يعلنه الإنسان في السراء وأوقات الفراغ، وربما يؤثر على نفسه في المواقف والأشياء الصغيرة، أمّا إذا جدت ساعة الجد وحان وقت الفصل يؤثر نفسه، وهذا غالب حال البشر، فالإنسان لا يقدم غيره على نفسه إلّا لحبّ شديد له أو لإيمان بأجر هو أعظم من هذه المنفعة المقدمة.
الإيثار درجتان:
الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما يرضي الله عزّوجلّ ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه هي درجات المؤمنين من الخلق، والمحبّين من خلصاء الله.
الثانية: إيثارُ رضاء الله على رضاء غيره وإن عظُمت فيه المحن، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرُّسل عليهم صلوات الله وسلامه.
وإذا كان النوع الأوّل متداولاً عند أصحاب الأخلاق الكريمة في كلّ زمان ومكان، فإنّ النوع الثاني أقلّ انتشاراً لأنّه أصعب مراساً، فلا يقدر عليه إلّا ذوو الهمم العالية والنفوس التي استرخصت ذاتها في مرضاة الله، لأنّ فيه يتجلّى بوضوح وقوّة معنى التضحية التي تقتضي أداء الواجبات وتجاوزَها ابتغاءً لمنزلة الإحسان إلى درجة تتوارى معها المطالبة بالحقوق. الغالب على الناس الاشتغال بالحياة الدنيا أكثر من الآخرة ولو كانوا مؤمنين بها مصدّقين بما فيها، قال الله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى/ 16-17)، وهذا عائد إلى درجات الإيمان ونوعيّته المتأرجحة بين الرفيعة والمتوسطة والضعيفة. وحجم ما تؤثر الله عليه هو ما يحدّد إيمانك، ويحتلّ الأنبياء (عليهم السلام) المكانة الأعلى والأرفع في سلّم إيثار الباقية على الفانية، فنوحٌ (عليه السلام) آثر الله على امرأته وابنه، وإبراهيم (عليه السلام) آثر الله عزّوجلّ على أبيه ثمّ على ابنه، وموسى (عليه السلام) آثر الله على فرعون الذي تبنّاه وربّاه وأدخله في نعيمه، ومحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) آثر الله على عمّه وعشيرته ووطنه وأرحامه وعلى الملك العظيم الذي وعده به قومه .
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق