◄تتعدد مظاهر نسيان العبد لربّه، وأخطرها حالة القطيعة من طرف واحد، وهي حالة نسيان الإنسان -مخلوق الله ومربوبه- أنّ له ربّاً يفيض ويغدق عليه ألطافه ونعمه وبركاته، وأنّ بيده الأمر كلّه، وخطورة هذا النسيان متأتية من اتخاذ البديل المصطنع الهابط والسيِّئ وهو (الهوى) إلهاً، أو تنصيب الأصنام، بتعدد أشكالها، آلهةً، وكأنّ الإنسان -واعياً لذلك أم لم يكن- يرى أنّه لابدّ له في النهاية من إله يعبده وربّ يلتجأ إليه، فإن لم يكن إله الكون، وربّ الأرباب، وملك الملوك، فإنّه يعمد إلى إله يصنعه بيده، أو ذات سفليةيتعبّدها، الأمر الذي يشي بأنّ الحاجة إلى العبودية أو المربوبية (أن تكون عبداً مملوكاً لربّ) أساسية ولا يمكن الإستغناء عنها.
من هذا النسيان الكلّي المطبق تتفرّع نسيانات صغرى هي التي تؤدِّي مجتمعة إلى النسيان الأكبر، ويمكن أن نعرض لبعضها بالتالي:
1- الإنشغال والإنصراف والإستغراق الدنيوي الكامل:
أكبرُ عوامل التهذيب والتربية والهادفية في خلق الإنسان هو إرتباط (التوحيد) بـ(المعاد) أي بالمبدأ والمنتهى.. متى ما نسي الإنسان (وهو كثير النسيان) حقيقة أنّه (كادحٌ) إلى ربّه كدحاً فملاقيه، وراح يلقي كلّ بيضه في سلّة الدنيا، فإنّه لا يشطر إنسانيته إلى شطرين متوائمين (دنيوي) و(أخروي) وإنما يُهشِّم كأس عمره على أرصفة الدنيا، كما يفعل السكارى عندما تفرغ قنانينهم!
من وجهة نظر إجتماعية، فإنّ الإنشغال الكلّي بشيء يصرف عن الإهتمام بشيء آخر، فإذا كان الإنشغال عن الله (القيام بالمسؤوليات التي أناطها بالإنسان) كلّياً، فإن أي إنشغال آخر -مهما بدا لوهلة أنّه مهمّاً- سيكون تافهاً ومفضياً إلى خروقات حياتية كثيرة لا يجد المنشغل عن مسؤولياته الربّانية مَن يسدّها له.
2- ترجيح الناقص المحدود على الكامل المطلق:
يتسع أُفق الإنسان بإتساع نظرته أو حقل رؤيته، فإذا حصر إهتمامه في الناقصات المحدودات تقلّص إلى درجة الإنحسار المريع، فليس هناك في حياة الإنسان ما يملأ حاجاته النفسيّة وأشواقه الروحيّة غير شعوره المتنامي أنّه مرتبط -عموديّاً وأفقياً- بنظام ربّاني علوي قادر على تنميته إن من حيث الفكر والعاطفة وإن من حيث السلوك والممارسة.
وتحت عنوان ترجيح الناقص المحدود على الكامل المطلق يندرج عنوان الشرك الخفيّ أو المبطّن، وهو لون من اتخاذ المثل الناقص ربّاً يتحكّم من موقع ناقصيته بالآخر الناقص مثله الظانّ أنّ اتباعه السادة الكبراء (بحسابات وإعتبارات دنيوية أو مادّية بحتة) هو الذي يهبه ما يناله المعلّق آماله على الله الذي لا إله إلّا هو، بنو إسرائيل، -مثلاً- نسوا المنقذ المنجي الذي راكم أمامهم المعجزات الخارقة للعادة، واتبعوا عجل السامريّ!! ومثل السامريين كل عبدة الأصنام والأوثان الحجرية والبشرية.. إنّه لون من قصور النظر في رؤية الفاني المتناهي دائم لا متناهياً، والغريب أن قصيري النظر هؤلاء كثيراً ما يصطدمون بضآلة مخترعاتهم أو معبوداتهم المصطنعة، لكن (نسيانهم) لله يجعلهم (يكابرون) فيكبِّرون ما هو صغير.
3- نسيان الله يتجلّى أيضاً في الغفلة الناقصة أو التامّة عن كمالية برامجه ومناهجه وتعاليمه، وقد لا يصحّ هنا التشبيه بين المربِّي الأكبر وهو الله سبحانه وتعالى، والمربِّي الأصغر وهو الأب أو الأُمّ، ولكن الإبن الذي يخالف أو يضادّ إرشادات ووصايا والديه هو أشبه بسائق يسير في عكس إتجاه السير، لا يعلم بالضبط كم من الحوادث المؤسفة سوف يُخلِّف وراءه، وقد يكون أكبرها وأخطرها حياته هو شخصياً.
أصحاب الإفك -مثلاً- نسوا رقابة الله تعالى وتعاليم دينه وضوابط شريعته ولم يحكِّموها في تعاملهم مع (الإشاعة) فانساقوا مع مجرى أهوائهم ليتهموا النّبيّ (ص) في عِرضه، ولو أنّهم استحضروا وتذكّروا حقيقة: "ما زنت امرأةُ نبيّ قطّ" ذكّر بعضهم بها بعضاً، أو حذّر بعضهم من سوء الظن والتهمة والجهر بالسوء، وهي جزء من ثقافتهم الدينية والأخلاقية المنصوص عليها -قرآنياً-، هل كنّا نشهد هذا الإنسياق الجمعي وراء الإشاعة؟!
4- نسيانُ الله أيضاً قد ينتج عن الإسترسال والإستغراق في المنح والعطايا الربّانية حتى ليرى النّاسي ربّه أنّ ما حصل أو يحصل عليه هو إستحقاق ذاتيّ محض وليس هبةً من رب رحيم، أو رزق من إله كريم، أو لطف من مولى عظيم، تماماً كما رأى صاحب البستان (الجنّة) أنّ ثمار بستانه لن تبيد، وكما تصوّر أصحاب الجنّة (البستان) أنّ الغدَ في أيديهم وسيقبضون من خلاله على حصاد بستانهم من غير استحضار للمفاجآت والإحتمالات.
لم يحضر الله عند هؤلاء الناسين له إلّا عندما حوصروا بالمحنة وتهديد الموت أو النكبة.. إنّهم -وأمثالهم كثيرون- ينسون الله على البرّ وهم سالمون معافون، ويذكرونه -رغماً عنهم- عندما تطغى أمواج البحر لإبتلاعهم!
5- ومن مظاهر النسيان البشريّ لله الحاضر والمنعم والقادر، إسقاطه من حساباتهم.. فالإنسان عندما يغتني لا يرى لله المتفضِّل عليه يداً في غناه، وحينما يبدع فكراً لا يرى أنّ عقله الذي أنجب أفكاراً مبدعة هو صناعة الله، وهو هبة الله، وهو علم الله، وعندما يحلل سياسياً يحسب لكلّ قوة مادية حسابها، ولا يدخل العامل الغيبي في تحليله السياسيّ، وقد يستخفّ بك إذا طالبته في إدخال الله في حساباته لأنّه يظنّ أن لا علاقة لله تعالى بالشؤون السياسية للناس، وعندما ينتصر في أيّة معركة مادية أو معنوية لا ينظر إلّا إلى ما أعدّه من قوّة.. وهكذا ترى كلَّ شيء حاضراً عنده إلّا الله فهو الغائب الوحيد في فكره.
6- التعالي على مقام الربوبية تكبُّراً وإستكباراً من موقع الجهل بقيمة العبودية، هو مظهر آخر من مظاهر نسيان العبد لربّه، ويمكن إستبيان ذلك من خلال الإستهانة بمفهوم العبودية لله واعتباره قيداً يُقيِّد حرِّية الإنسان، ومن خلال حسبان الإلتزام بالطاعات الشرعية التي تخدم مصلحة الإنسان أوّلاً، تكبيلاً لتلك الحرِّية، فهو يُفلسف كلّ ذلك على أنّه حدود وقيود تقف سداً بوجه حرِّيته التي يبحث عنها في تحرره من (المدرسة).
إنّه ليس إلّا تلميذ سائب مستهتر يرفض العلم والتعلُّم، ولا يرضى بالضبط والإنتظام، ولا يهمه، -بعد ذلك- إن عوقب بالرسوب، ما يهمه أن يتمرّد على (المعلِّم) و(المنهج) والمقررات والضوابط لأنها في نظره عدمية أو عبثية أو تسلطية لا همّ لها إلّا مصادرة حرِّيته، والحدّ من إندفاع أهوائه.
7- الإعتداد الزائد بالمواهب الذاتية والقدرات الشخصية، هو الآخر مظهر لنسيان مصدر الحول والقوة، فكأنّ النَّاسي لربّه نسيان قدرة ينسى أنّه لا يملك شيئاً إلّا ما ملّكه الله، وانّه (مُستخلَف) فيه (مسؤولٌ) عنه، هو في الجانب المالي (قارونيّ) يُردِّد كلّما ذكر إنجازاً أو موهبة أو نصراً قول قارون: ﴿قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (القصص/ 78). وهو في الجانب الإستبدادي الإستعلائي فرعونيّ يرى نفسه ربّاً ﴿فَقالَ أَنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ (النازعات/ 24). ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق