في التقويم الإسلامي يحمل اليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة الحرام عنوان (يوم دحو الأرض) لمشهدٍ من مشاهد الخَلق العظيمة، وواقعةٍ جليلةٍ في بديع الخلق الإلهيّ، وهي مذكورةٌ في الكتاب العزيز حيث قال الله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالَأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعات/ 27-30). دحاها: أي بسطها، ومدّها، وأوسعها، وجعلها صالحة للسكن. قال الإمام الباقر (عليه السلام): «لمّا أراد الله أن يخلق الأرض، أمر الرياح الأربع فضربن متن الماء حتى صار موجاً، ثمّ أزبد فصار زبداً واحداً، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلاً من زبد، ثمّ دحا الأرض من تحته، وهو قول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)، فأوّل بقعة خُلقت من الأرض الكعبة، ثمّ مُدّت الأرض منها».
وليلة دحو الأرض هو انبساط الأرض من تحت الكعبة على الماء ومدُّها وبَسطُها وتهيئتها لكي يحيى عليها الإنسانُ وبقيّة المخلوقات، وهي ليلةٌ شريفة تنزل فيها رحمةُ الله تعالى، وللقيام بالعبادة فيها أجرٌ جزيل. ورُوِي أنّ ليلة خمسٍ وعشرين من ذي القعدة وُلِد فيها نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام)، ووُلِد فيها عيسى بن مريم (عليه السلام)، وفيها دُحيت الأرض من تحت الكعبة، ويوم الخامس والعشرين أحدُ الأيّام الأربعة التي خُصّت بالصيام من بين أيّام السنة. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وأنزل الله الرحمة لخمسة ليالٍ بقين من ذي القعدة، فمن صام ذلك اليوم، كان له كصوم سبعين سنة». وإنّ أوّل موضع تحدَّد في هذه الأرض هو موضع الكعبة الشريفة، ثمّ بسط الله تعالى الأرض من جوانب هذا الموضع فهو المركز الذي انبسطت الأرض من بين أفنيته وجوانبه، وذلك هو معنى دحو الأرض من تحت الكعبة الشريفة، ويمكن تأكيد ذلك ببعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، فقد ورد عنهم أنّ دحو الأرض كان بعد خلقها بألفي عام.
كما قال الإمام عليّ (عليه السلام): «إنّ أوّل رحمة نزلت من السماء إلى الأرض في خمس وعشرين من ذي القعدة، فمن صام ذلك اليوم، وقام تلك الليلة، فله عبادة مائة سنة صام نهارها وقام ليلها، وأيّما جماعة اجتمعت ذلك اليوم في ذكر ربّهم عزّوجلّ، لم يتفرّقوا حتى يُعطوا سؤلهم، وينزل في ذلك اليوم ألف ألف رحمة، يضع منها تسعة وتسعين في حلق الذاكرين والصائمين في ذلك اليوم، والقائمين في تلك الليلة». وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): «في خمس وعشرين من ذي القعدة أنزل الله الكعبة البيت الحرام، فمن صام ذلك اليوم كان كفّارة سبعين سنة، وهو أوّل يوم أنزل فيه الرحمة من السماء على آدم (عليه السلام)».
يستحبّ أن يُدعى في هذا اليوم بهذا الدُّعاء: «اللّهُمّ داحِيَ الكعبةِ، وفالِقَ الحَبّةِ، وصارِفَ اللّزبَةِ، وكاشِفَ كلِّ كُربَة، أسألك في هذا اليوم من أيّامِك التي أعظَمتَ حقّها، وأقدَمتَ سَبقَها، وجعَلتَها عند المؤمنين وَديعَةً، وإليك ذَريعةً، وبرحمتِك الوسيعةِ، أن تُصلِّيَ على محمّد عَبدِك المُنتَجَبِ في الميثاقِ القريبِ يومَ التلاقِ، فاتِقِ كلِّ رَتْق، وَداع إلى كلِّ حَقِّ، وعلى أهلِ بيته الأطهارِ الهُداةِ المنارِ دَعائِمِ الجبّارِ، ووُلاةِ الجنّةِ والنارِ، واعطِنا في يومِنا هذا من عطائِك المخزون غيرَ مَقطوع ولا ممنوع، تَجمَعُ لنا به التوبةَ وحُسنَ الأوبَةِ، يا خيرَ مَدعُوٍّ، وأكرَمُ مَرجُوٍّ. يا كفيُّ يا وَفيُّ، يا مَن لُطفُهُ خَفِيٌّ الطُفْ لي بلُطفِك، واسعِدني بعفوك، وايِّدْني بنصرِك، ولا تُنسِني كريمَ ذِكرِك بِوُلاةِ أمرِك، وحَفَظَةِ سِرِّك، واحفَظْني من شَوائِبِ الدهرِ إلى يومِ الحشرِ والنشرِ، واشهِدني أولياءِك عندَ خُرُوجِ نفسي، وحُلُولِ رَمسي، وانقِطاعِ عملي، وانقضاءِ أجلي. اللّهُمّ واذكُرْني على طُولِ البِلى إذا حَلَلتُ بين أطباقِ الثرى، ونَسِيَني الناسُون من الورى، واحلِلْني دارَ المُقامَةِ، وبَوِّئني مَنزِلَ الكرامةِ، واجعلْني من مُرافِقي أوليائِك وأهلِ اجتبائِك واصطفائِك، وباركْ لي في لقائِك، وارزُقْني حُسنَ العملِ قَبلَ حُلُولِ الأجلِ، بريئاً من الزّلَلِ وسوءِ الخَطَلِ، اللّهُمّ واورِدْني حوضَ نبيِّك محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، واسقِني منه مَشرَباً رَوِيّاً سائغاً هنيئاً لا اظمأُ بعدَهُ ولا اُحلّا وِردَهُ ولا عنهُ اُذادُ، واجعلْهُ لي خير زاد، واوفى ميعاد يومَ يقومُ الأشهادُ...».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق