◄بين مرحلة الطفولة والعمر المتقدّم، قد نتوهم أنّنا سنبقى أقوياء طوال حياتنا قادرين على الاعتماد على ذواتنا في أُمور الحياة كلّها؛ لكنّ الحقيقة تشير إلى أنّه لا يمكن لأحد أن يمر في هذه الحياة من دون الحاجة إلى مساعدة الآخرين.
فالتقدّم في السن يحمل معه ضعف البصر والسمع وتراجع القدرة على النهوض والمشي، والأسوأ من كلّ ذلك المعاناة من فقدان القدرات العقلية، والإصابة بمرض الألزهايمر.
وغالباً ما تقع مسؤولية رعاية الوالدين المسنين على عاتق أولادهم الذين قد يشعرون بصعوبة هذه المهمّة، لاسيّما إذا كان عليهم في المقابل إهمال أُسرهم واحتياجاتهم وأهدافهم الشخصية، وإذا كانت المسافة الجغرافية التي تفصلهم عن ذويهم بعيدة بعض الشيء.
وإدراكاً من بعض السلطات في العالم بأنّ متطلّبات الحياة العصرية أدّت إلى تآكل الالتزامات التي يتم تكريسها لرعاية الآباء المسنين، فقد وضعت الصين في الآونة الأخيرة قانوناً عُرف بـ«قانون ضمان حقوق المسنين لجمهورية الصين الشعبية»، الذي ينصّ على ضرورة اهتمام أفراد العائلة بكبار السن، ودعا الأبناء الذين يسكنون بعيداً عن آبائهم إلى زيارتهم والتواصل معهم بصفة مستمرة، وإلّا فهناك عقوبة تقع على الأبناء إذا تخلّفوا عن زيارة والديهم. كما نصّ هذا القانون على جعل يوم 9/9 من كلّ سنة وفقاً للتقويم القمري الصيني عيداً للمسنين.
وفي أوكرانيا وبعض دول الاتحاد السوفيتي السابق، يُجبر الأبناء على إظهار الاهتمام وتقديم المساعدة لأهلهم المسنين، وذلك من خلال تشريع يسمح للوالدين المتقدّمين في السن بمقاضاة أبنائهم لعدم تقديمهم الدعم المالي اللازم إليهم.
ومن المثير للاهتمام أنّ هناك قوانين مماثلة لا تزال موجودة بالكُتُب في عديد من الولايات الأميركية من حقبة ماضية؛ لكنّ معظمها غير مطبق، ومع وجود قانون ينظّم علاقة الأبناء بأهلهم أو عدم وجوده، فالالتزامات الأخلاقية لمساعدة الوالدين المسنين شائعة، عدا عن أنّها أمر طبيعي نابع من العاطفة البشرية، كما أنّها داخلة في صُلب الديانات السماوية، وخاصّة في الديانة الإسلامية التي تشدّد على برّ الوالدين، وتؤكّد أنّ الله سبحانه وتعالى أوصى بالوالدين إحساناً.
- الأبناء ودور الأبوة:
وبينما تضج رفوف المكتبات بالكُتُب التي تساعد على تربية الأطفال وتزدهر المجلات والمقالات والدراسات التي تركّز على سبل التنشئة السليمة، فإنّه قلّما توجد هناك دراسات وإرشادات ليكفية رعاية المسنين والاهتمام بهم، خاصّة من قبل أبنائهم؛ ولكنّ الحاجة إلى مثل هذه الأفكار والإرشادات ضرورية، لاسيّما أنّه بالنسبة إلى عديد منّا تكون تجربة رعاية الوالدين جديدة وصعبة لا يمكننا التعامل معها بسهولة.
وكثيراً ما نسمع عن مدى الصعوبة التي يواجهها مقدّمو الرعاية من الأبناء لوالديهم، حيث يشعرون بأنّ هناك انعكاساً للأدوار، إذ يشعر الأبناء بأنّ أهلهم قد تحوّلوا إلى أبناء لهم، ويجب عليهم رعايتهم والاهتمام بهم كالأطفال الصغار.
وقد يُدخل الأبناء أنفُسهم في دور الأبوة، لأنّه دور يبدو مألوفاً بالنسبة إليهم. ومن الطبيعي أن يبحث الأبناء عن هذا المكان المألوف عندما تكون الحياة مرهقة، وكلّ شيء يحدث من حولهم غريب وغير مألوف، فدور الوالدين، بالنسبة إلينا جميعاً هو النموذج الأصلي الذي يجسِّد الحنان والرعاية والسلطة أيضاً، وهناك سهولة لأن نتعايش مع هذه المعادلة التي تنطوي على الرعاية والاهتمام، وبالتالي، الأمل.
وفي حين أنّ العلاقات بين الوالدين والأطفال تتغير بشكل واضح مع مرور الوقت، من اعتماد الأطفال على أبويهم بشكل كامل وامتلاك الأهل السلطة الكاملة عليهم، إلى سن الرشد والشعور بالقدرة على التعامل بشكل متكافئ مع الأهل على أساس الاحترام المتبادل، إلى المرحلة التي تتراجع فيها صحّة الأهل ويحتاجون إلى أبنائهم بطُرُق جديدة.
- مشاعر محيّرة:
وهذا الوضع يفرض، إلى جانب الصعوبة الجسدية التي يعانيها الأبناء في رعاية آبائهم، تغيّر صورة أهلهم بالنسبة إليهم. فالشخص الذي كان قوياً في يوم من الأيّام أصبح ضعيفاً، ومَن كان يقدم الرعاية تحوّل اليوم إلى مَن يحتاج إليها، والحامي أصبح ضعيفاً، ومَن كان يتحرّك باستقلالية يحتاج الآن إلى المساعدة حول المنزل.
وكلّ ذلك يدفع الأبناء إلى اختبار مشاعر مختلفة ومحيّرة، أفضل ما لخّصتها مود بورسيل، وهي معالجة نفسية ومديرة تنفيذية لمركز الحلول الحياتية بولاية كونيتيكت الأمريكية، في قائمة عددت فيها المشاعر التي يحتمل أن يتعرّض لها الأبناء وهم يواجهون تراجع قدرات والديهم وتدهور صحّتهم، من أبرزها:
- الخوف، عند الإدراك أنّه لا يمكن للأهل الاعتماد على أنفُسهم بشكل كامل، وأنّهم بحاجة الآن إلى المساعدة.
- الحزن، لأنّ قدرة الوالدين (أحدهما أو كليهما) على التحرّك بشكل مستقل قد تراجعت فجأة أو تدريجياً.
- الغضب والإحباط ونفاد الصبر عندما تتداخل احتياجات أحد الوالدين مع حياة الأبناء الخاصّة.
- الشعور بالذنب، بسبب عدم القدرة على قضاء وقت كاف مع الأهل الذين هم بحاجة إلى المساعدة بسبب بُعد المسافة أو مطالب الحياة الأُخرى.
ولاشكّ في أنّه في أساس الطبيعة البشرية الرغبة في أن تظل العلاقات مع الأهل كما هي، وقد تكون النصيحة الأجدى هنا هي التي تعبر عنها الكاتبة الأمريكية Anne Morrow Lindbergh عندما تقول: «عندما تحبّ شخصاً ما، فإنّك لا تحبّه طوال الوقت بالطريقة نفسها، بل هناك استحالة في ذلك، ويبقى أنّ الأمان الحقيقي الوحيد في العلاقة يجب ألا يكمن في النظر إلى ما كان والحنين إلى الماضي، ولا إلى الأمام إلى ما قد يكون والعيش في حالة من الخوف والترقب، بل أن نعيش في العلاقة الحالية، وأن نتقبّلها كما هي عليها الآن».
- انعكاس الأدوار للطرفين:
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ انعكاس الأدوار يحدث لكلا الطرفين عندما يحتاج الوالدان إلى مساعدة، وهناك خيط رفيع تجب المحافظة عليه والموازنة بين السماح للوالدين بالحصول على بعض من الاستقلالية، حتى لو لم يعدّ ذلك آمناً لهم بشكل كامل، أو حرمانهم من الاستقلالية بداعي السلامة.
ولاشكّ في أنّ هذا أمر صعب، ولاسيّما بالنسبة إلى الآباء المسنين القادرين على اتّخاذ قراراتهم الخاصّة؛ لكنّهم يتّخذون قرارات غير حكيمة وخطيرة أحياناً. وهنا نتحدّث عن إعطاء المسن الاحترام الكافي ومنحه الثقة التي تحفظ عزّته وكرامته واحترامه لنفسه وتضمن خصوصيته بقدر المستطاع.
وقد أجرت أُستاذتان من جامعة ولاية نيويورك، هما أُستاذة الصحّة العامّة ماري غلانت، وعالمة الاجتماع غلينزا سبيتز، دراسة حاولتا فيها معرفة ما يبحث عنه الأهل المسنون في علاقتهم مع أبنائهم.
واستكشفتا هذه المسألة من خلال مقابلات مع مجموعات برؤية من كبار السن. ومن بين النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة أنّ المشاركين فيها عبروا عن «رغبة قوية في المحافظة على الاستقلالية، في موازاة التواصل الجيِّد مع أبنائهم».
ولاشكّ في أنّ هذا الأمر يطرح تناقضاً معيّناً، إذ عرّف أغلبهم أنفُسهم على أنّهم مستقلون؛ ولكنّهم يأملون في أن تكون مساعدة أبنائهم لهم متاحة عند الحاجة. كما عبّروا عن الشعور بالضيق من الإفراط في الحماية التي يتلقّونها من أبنائهم في الوقت الذي يقدرون فيه القلق الذي يعبّر عنه أبناؤهم تجاههم، وبالتالي يستخدم هؤلاء المسنين مجموعة متنوعة من الإستراتيجيات للتعامل مع مشاعرهم المتناقضة، مثل التقليل من المساعدة التي يتلقّونها، أو تجاهل أو مقاومة محاولات الأبناء للسيطرة على مجريات حياتهم.
- نصائح للطرفين:
ولاشكّ في أنّ مفتاح التعامل مع هذه التغييرات هو القبول والأمانة من كلا الجانبين، والتواصل الجيِّد.
يحتاج الأبناء إلى أن يكونوا قادرين على التحدّث بصراحة بشأن المخاوف التي يعيشونها، والتي تتعلّق بصحّة أو موقف الوالدين. كما أنّ دورهم يجب ألا يتمثّل في مجرد «إرضاء» الوالدين، بل بالأحرى، مساعدتهما على التعامل بفعالية مع التغييرات التي حملها إليهم التقدّم في العمر. كما يحتاج كبار السن إلى تقبّل قيود جديدة فرضت على حياتهم، وإلى أن يكونوا قادرين على طلب المساعدة عند الحاجة وقبولها بشجاعة.
وفي بعض الأحيان، أفضل شيء يمكن القيام به هو تقييم الوضع معاً أو البحث عن علامات تحذيرية لتحديد ما إذا كانت هناك حاجة إلى طلب مساعدة خارجية للتعامل مع الأوضاع الجديدة. وتبقى الإشارة هنا إلى المثل الشعبي الذي يقول: «إنّ الدُّنيا سَلَفٌ ودَين» الذي يلخص العلاقة بين الأبناء ووالديهم في أنّ ما قدّمه الآباء لأبنائهم من رعاية واهتمام وهم أطفال، عليهم تقديمه لوالديهم في شيخوختهم.
كما أنّه من الجميل استرجاع قول الكاتبة تيا واكر، صاحبة كتاب «مقدّم الرعاية الملهم.. إيجاد الفرح ونحن نقدّم الرعاية لأُولئك الذين نحبّ»، عندما تقول إنّ: «تقديم الرعاية لمن كانوا يقدّمون الرعاية لنا في وقت من الأوقات، هو أعلى مرتبة من مراتب الشرف».►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق