• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كلّ واحد منا يولد مرتين

كلّ واحد منا يولد مرتين

إنّ رؤية الطفل يعيش ويكبر سبب من أجمل أسباب السعادة. نحن نراه يجهد للمشي والتحدث، نراه يضحك من لا شيء ويتساءل حول كلّ شيء. بيد أننا قد لا نلاحظ الأهم وهو أنّه في نحو سن الخامسة من عمره يكتسب القدرات الإنسانية الأكثر تطوراً ليدرك أنّ حياته فريدة وأنّ لها نهاية كما أنّ لديه تاريخاً وذكريات ومشاريع فيبدأ في تطوير شخصيته وبناء هويته.

إنّ طفلكم يقوم برحلة رائعة تحت ناظريكم وسيمكنكم هذا الموضوع من اكتشاف كم يقوم أطفالنا بإعادة اختراع عبقرية الإنسانية في خلال طفولتهم حيث يقومون بأجمل رحلة هي رحلة الإنسانية. وهذا ما يفعله كلّ إنسان حتى يصبح واعياً وما يقوم به كلّ طفل ليصير كائناً حراً. أما نحن الأهل، فإنّنا أوّل شهود على هذه الرحلة الاستثنائية التي سنسير في ركابها والتي ستغيرنا نحن كذلك. هذا لأنّ الطفل سيمضي ما بين أربع وست سنوات ليقفز نحو الوعي، بين ولادته التي لا يذكر منها شيئاً وذاك اليوم الذي سيسألكم فيه عن الحياة وما بعدها وعن مصير البشر. وهكذا، يولد كلّ واحد منا مرتين، مرة يرى فيها نور الحياة، كسائر الحيوانات، ومرة أخرى يدرك فيها الوعي كسائر البشر.

وكيف عسانا أن نعرف الوعي إلّا بالقول إنّها القدرة على أن نرى أنفسنا بوضوح وأن نسقطها على الزمن في خيالنا لنسير قدماً؟ هذه هي خاصية البشر، بناؤو الحضارات والتواريخ، أصحاب الرؤى حول المستقبل، فنانون يتخيلون الجمال من حولهم. وهذا الطفل الذي يزن قدر الريشة بين ذراعيكم اليوم، سينطلق بدوره في أجمل رحلة، تلك التي ستحمله نحو الوعي والحرية ونحو تاريخه الخاص.

يتشكل الوعي فينا مع أولى الذكريات وأيضاً مع لحظات وضوح ذات كثافة كبيرة. لقد وجدت ستة مؤشرات عالمية يمكن ملاحظتها لدى أطفالنا تجعلنا نفهم كيف تطور الوعي لدى الإنسانية وكيف وجد. كلّ واحد منا هو مرشد طفله نحو نور الإنسانية لأنّ ما من أحد يبلغ هذه المرحلة لوحده وما من طفل عاش حياة برية وصار واعياً. لدينا الكثير لننقله إليهم وأوّلها اللغة لتغذية نفوسهم ومساعدتهم على أن يحبوا تاريخهم الخاص.

لذا من المهم أن نفهم جيداً كيف يُبنى الوعي لدينا وكيف يعمل وكيف يمكننا أن نصير ما نريد أن نصير عليه. بهذه الطريقة تقوم طفولة أولادنا بتغييرنا ونأخذ منهم بقدر ما نعطيهم. بهذه الطريقة يمكننا أن نساعدهم على أن يصيروا بشراً أحراراً وسعداء من خلال طريقتنا في أن نكون سعداء ومحبين معهم ومن خلال تفاؤلنا وثقتنا بهم وطريقة كلامنا معهم واختيار كلّ كلمة وأيضاً من خلال أسلوب تربيتنا التي تغذي في الطفل حبه للاستقلالية والثبات.. لن يكون طفلكم بالنسبة إليكم مجرد رضيع أو ولد أو مراهق محبوب، ولكن سيكون كائناً استثنائياً ونظرة تلقونها على الإنسانية بأسرها.

المؤشر الأوّل: الانتقال من لغة مركزية الذات إلى الحوار الداخلي.

قبل سن السادسة كلّ حوار يقوم به الطفل، حتى في حضور أتراب له، هو في الحقيقة حوار مع نفسه، فهو لا يتبادل الحديث معهم، بل يحدّث نفسه بصوت عالٍ وهذا ما يسمى لغة مركزية الذات. وفي حوالي سن السادسة يبدأ الحوار الداخلي عند الطفل الذي يسمح بالانتقال من لغة مركزية الذات إلى الفكر الواعي ليشكل المؤشر الأوّل على قفزة الوعي. مع اختفاء لغة مركزية الذات قبل سن السابعة أو الثامنة، يمكن اعتبار عملية استبطان اللغة قد تمت قبل هذا السن علماً أنّ مؤشر استبطان اللغة يصعب ملاحظته لدى صغارنا لأنّه لا يحمل مظاهر واضحة. فكيف نرى أنّ الطفل يكلّم نفسه في رأسه؟ مع تضاؤل لغة مركزية الذات يمكننا أن نلاحظ أنّ الطفل يكرر في رأسه، على طريقة الهمس، حين يحاول أن يحفظ قائمة أشياء مطلوبة منه. مع قيام هذه القدرة الجديدة بإمكاننا أن نحرز أنّ عالمه الداخلي يتطور بسرعة. وحتى لو كان هذا المؤشر شبه خفي، إلّا أنّ قفزة الوعي مرتبطة بظهور المؤشر الثاني الذي سنأتي على ذكره، وهو ظهور الذكريات الثابتة. فبفضل السرد والقصة الداخلية تتطور المقدرة الجديدة سيصير الطفل بطل قصته الخاصة.

إنّ التحدث مع الطفل وقص الحكايات على مسامعه هي أنبل أعمالنا التربوية. الكلمة غذاء الروح البشرية وهي لابدّ منها للقيام بقفزة الوعي والحوار الداخلي وكلّ المؤشرات الأخرى التي سنراها. فلستمتع بالكلمة التي نشاركها مع طفلنا ولنخبره ما جرى معنا ولنحدثه عن أفراحنا وأحزاننا، وهذا منذ ولادته.

وبالأخص لنحدثه حتى عندما لا نهتم به مباشرة، في خلال تحضير الطعام وحتى تنظيف المنزل. دعونا نتوقف عن كوننا نريد أن نكون فعّالين بأي ثمن. لنقم بما علينا من دون عجلة بحجة أنّنا نريد أن نهتم بالطفل بالكامل بعدها. فكلما تصرفنا بهذه الطريقة، نشعر أنّ الطفل مصدر مضايقة وتوتر بما أنّه يمنعنا من القيام بما علينا من واجبات ويجعلنا نبطئ في عملنا.

كثير من الأهل يعيشون الوقت الذي يكرسونه للطفل على أنّه مصدر توتر بما أنّ الأعمال التي ينبغي أن يقوموا بها تتراكم على كاهلهم، وهذا أمر مفارق ولكنه حقيقي.

دعونا لا نسعى لأن نكون فعّالين دائماً حين نحث الطفل. فلشدة ما نستخدم كلمات مفيدة وذات معنى ننسى أنّ مجرد صوتنا بحد ذاته لطيف على مسامعه. صوتنا هو المؤشر الأكبر على وجودنا وعلى دفئنا وبمجرد أن يسمعنا الطفل داخلين إلى غرفته، يدرك حالتنا النفسية. وسواء كانت الكلمات مفيدة أو تافهة فهي مثابة الحلوى بالنسبة إليه.

المؤشر الثاني: ظهور أولى الذكريات الثابتة في نحو سن الرابعة أو الخامسة تظهر أولى ذكرياتنا. يمكن صياغة هذه الملاحظة بطريقة مختلفة؛ حتى عندما يتمتع الطفل بذاكرة هائلة وحتى ولو كان قادراً على إعادة إنتاج العديد من الأمور التي خزنها، إلّا أنّه لا يحفظ شيئاً من تاريخه السابق لسن الرابعة والخامسة. فقدان الذاكرة الطفولي هذا ثابت وكلّ ذكرياتنا الأولى التي تسبق الخامسة من العمر معدودة. أما لماذا لا نذكر شيئاً قبل هذه السن فهو سؤال لم يجد له جواباً حتى يومنا هذا.

يجدر التمييز بين الذاكرة والذكرى ولنقل أنّ الذاكرة تعمل في الحاضر باستمرار في حين أنّ الذكرى تعمل في الماضي. الذاكرة هي المقدرة على التعرف إلى تجربة ماضية (إدراك، حس، معرفة، حدث...). أما التذكر بشكل دائم فهو القدرة على ذكر بعض الوضعيات وقولها أي القدرة على سرد تاريخنا الخاص أو معاشنا بطريقة تتسم بالاستمرارية. فالذكرى هي إعادة تذكر وليست مجرد خزن في الذاكرة.

لكن حين نصبح كباراً، يتذكر كثيرون منا حوادث حصلت في خلال طفولتهم. وحين يحدث هذا ونتذكر أحداثاً وقعت قبل سن الخامسة نفعل هذا انطلاقاً من عناصر خزنت في الذاكرة (كإحساس فظيع بالألم أو خوف شديد مثلاً) إلّا أنّه ينبغي كذلك أن نستعين بعناصر من سيرتنا الذاتية استوعبناها بعد سن الخامسة، إما لأنّ أحدهم قد أخبرنا إياها أو لأنّنا شاهدنا أفلاماً أو صوراً خاصة بهذه المرحلة.

 

وعلى عكس الذكريات الخاصة بمرحلة ما قبل الخامسة من العمر، فإنّ الذكريات التي تخزن بعدها تجد مكاناً لها في قصة حياتنا وهي ليست معزولة إذ نتذكر الكثير من الأوقات المهمة والكثير من الأشخاص أو الأجواء. وقد أكدت الأبحاث في مجال العلوم العصيبة اليوم أنّ ذاكرة السيرة الذاتية، تلك التي تسمح بقيام ذكريات ثابتة، لا تقوم بوظيفتها قبل سن الخامسة وهي تتطور بعد الذاكرة العامة الخاصة بخزن المعلومات. كما أنّ ذاكرة السيرة الذاتية تزداد بسرعة مع السن. وهكذا، فإنّ الأولاد في سن 11-13 سنة يتذكرون غالبية الأحداث التي حصلت خلال السنة الدراسية والسنة السابقة لها، في حين أنّ الأولاد في سن 7-8 سنوات لا يتذكرون إلّا 80 في المئة من أحداث السنة الجارية و25 في المئة من أحداث السنة التي سبقتها.

وهكذا في البداية يكون الطفل قادراً على تذكر أحداث وقعت منذ فترة قصيرة ثم، مع القدرة على السيطرة على اللغة، يصير قادراً على تذكر أحداث بعيدة، شرط أن تكون مرتبطة بالكلام. لذا، فإنّ تعليقاتنا على الأحداث تساوي وزنها ذهباً! فكلّ ما يمكن أن نقوله أو نعبر عنه في خلال لحظة معينة أو حدث معين مع الطفل سيغني تاريخه ويساعده على الاحتفاظ بأثر من هذا الحدث أو الذكرى.

ولنكرس كذلك وقتاً لنحكي له تاريخه الخاص، فهذا ما سيساعده على بناء سيرته الذاتية، وهو عمل يكرس له البشر الكثير من الطاقة كما أنّه يتطور باستمرار مع الزمن، وكلما كانت القصة جميلة، شعر بارتياح إزاءها وكان لحياته معنى أكبر.

 

الكاتب: د. فيليب بريل/ إعداد: هدى محيو

ارسال التعليق

Top