قال الله سبحانه في كتابه الكريم:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).
وفي آية أخرى:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60).
مع هاتين الآيتين وغيرهما من الآيات التي عالجت موضوع الدعاء في القرآن الكريم، نشعر بطبيعة الأهمية التي يمثِّلها الدعاء في علاقة الإنسان بربّه، وارتباطه بقضية الإيمان والعقيدة.
الرعاية الإلهية:
ففي الآية الأولى: نواجه أسلوب الرِّفق والرّحمة والحنان، الذي يمسّ شغاف القلب بحلاوة، فيحسّ الإنسان ببراءة الطفولة وصفائها تزحف إلى قلبه في وقفته الخاشعة أمام ربّه، فيشعر بالرعاية الإلهية وهي تلامس روحه وتمسّ ضميره وتدعوه إلى أن يفتح قلبه بكلّ ما فيه من هموم وآلام، وإلى أن يعرض حياته بكلّ ما فيها من مشاكل وعقبات، ويرفع صوته بكلّ ما لديه من غايات وحاجات، ليجد الله قريباً منه، يسمع دعاءه ويعلم نوازعه ويحيط بشؤونه وشجونه فيسكن ويطمئن ويخفِّف من أعباء ذاته وأثقالها.
الخط الفاصل:
وفي الآية الثانية: نقف مع أسلوب الحزم الذي يجعل من موضوع ممارسة الإنسان الدعاء أو عدم ممارسته قضية الاعتراف بالعبودية لله جلّ شأنه، أو التمرّد عليها، ويوحي للعبد أنّ ذلك هو الخط الفاصل بين الإيمان والكفر، وبين الجنّة والنار.
ففي الدعاء: يجد الإنسان ربّه مع مشاعره وحاجاته، بينما لا يواجه الإنسان في حالة التمرّد عليه إلّا الحرمان من فضله في الدنيا ومواجهة العقوبة في الآخرة.
أهمية الدعاء:
وربما نجد فكرة الأهمية القصوى للدعاء في أوضح دلالتها في الآية الكريمة: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) (الفرقان/ 77)، التي تحدِّد رعاية الله لعباده بمقدار ارتباطهم به بالدعاء.
وهنا نسأل: ما هو السر في ذلك كلِّه؟
وكيف يمكن لطقس من الطقوس الدينية أن يرقى إلى المرتبة التي تتحدّد فيها علاقة الإنسان بربِّه على أساس ممارسته أو عدم ممارسته؟
ولكن القضية – في ما يبدو لنا – ونحن في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، ليست قضية طقس عبادي مجرّد أو تقليد ديني شكلي. بل الدعاء هو التعبير الحي عن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى الله في جميع أموره، واعترافه الخاضع بصفة العبودية التي تتمثل في الإحساس بالارتباط العميق بالله والفناء فيه، بحيث لا يحسّ معه بوجوده ولا يشعره بكيانه.
ومن البديهي أنّ الإيمان الحي لا يتحقّق بدون هذا الشعور وهذا الإحساس، إذ لا معنى للإيمان بالله إلّا بالإحساس بالقدرة الخالقة التي لا تقف عند حدّ، والقوّة المطلقة التي لا تنتهي إلى غاية، في مقابل عجز الإنسان وضعفه الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلّا بالله.
وعلى ضوء هذا، فإنّ حاجتنا إلى الدعاء تتمثّل في حاجتنا إلى التعبير عن هذا الإيمان، والعمل على استمراره داخل النفس حيّاً نابضاً بالحياة، يجدِّد للإنسان إيمانه ويركِّز ثقته بالله.
ولهذا ورد في الحديث أنّ "الدعاء مخّ العبادة" لأنّه التعبير الحي عن معنى العبودية والخضوع والخشوع الذي يتمثّل في العبادة، بدونه تصبح العبادة جسداً لا روح فيه.
وبذلك يخرج الدعاء عن أن يكون طقساً تقليدياً يمارسه الإنسان بدون فهم ووعي، بل بفعل العادة الدائبة.
تلك هي بداية الدعاء في مفهوم الأديان التي التقت كلّها في تقديس الدعاء وإعطائه هذه الأهمية عندما التقت في تأكيد الإيمان بالله، وقد نصّ القرآن الكريم على دعاء نوح وإبراهيم وموسى وأيّوب وزكريا وغيرهم في ساعات الحرج والضِّيق، وفي حالات الابتهال والانقطاع، كأسلوب عملي يوحي للناس بقيمة هذه العبادة في علاقة المرء بربّه، وبأصالاتها في مفهوم الإيمان، حتى في حياة الأنبياء الذين يمثِّلون القمة الإنسانية في القرب إلى الله.
قيمة الدعاء في الإسلام:
وانطلق القرآن الكريم بعد ذلك ليؤكِّد هذه العبارة في جميع حالات الإنسان، حتى لا تكون علاقة الإنسان بالله علاقة منفعة مادّية، فنراه في الوقت الذي يحثُّ الإنسان على أن يدعوه خوفاً وطمعاً، يطلب منه من آية أخرى أن يدعوه مخلصاً له الدين، في دعاء الإخلاص والتوحيد الخالص. ويشير في بعض الآيات إلى نماذج من الناس لا يعرفون الدعاء إلّا في أوقات الشدة حتى إذا كشف الله عنهم ذلك نسوا الله (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) (الزّمر/ 8).
ونخرج من ذلك كلّه بفكرة واحدة هي أنّ قيمة الدعاء في حياة الإنسان لا تنطلق من شعوره بالحاجة الآنيّة المحدودة، بل تمتد لتشمل الشعور العميق بالصلة الروحية التي تشدّ الإنسان إلى ربّه في محبّة واطمئنان.
وبدأت السنّة النبوية الشريفة وأقوال الأئمة الهداة من أهل البيت (عليهم السلام)، تعطي الدعاء دوراً حيوياً في حياة الإنسان العامة؛ ففي بعض هذه الأحاديث دعوة إلى أن لا يقتصر الإنسان بالدعاء لنفسه، بل يعمل على أن يدعو لأخيه بظهر الغيب، ليحصل على النتيجة لنفسه أكثر ممّا لو دعا لنفسه؛ وفي ذلك إيحاء خفي بضرورة الشعور بالأخوة التي تربطه بالآخرين، حتى ليحسّ – وهو بين يدي الله – بحاجات اخوانه قبل أن يحسّ بحاجته الخاصة. ولعلّنا نجد ذلك واضحاً في النصوص الدينية كما جاء في حديث الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع):
"إنّ الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب أو يذكره بخير قالوا: نِعْمَ الأخ أنت لأخيك، تدعو له بالخير وهو غائب عنك وتذكره بالخير، قد أعطاك الله مِثْلَي ما سألتَ له وأثنى عليك مِثْلَي ما أثنيتَ عليه ولك الفضل عليه".
وقد يتسامى هذا المعنى فيبلغ مستوى الغيرية المطلقة التي تجعل الإنسان يهتم بغيره أكثر ممّا يهتم بنفسه، فقد رُوي عن الإمام الحسن بن علي (ع) أنّه يقول عن أُمّه فاطمة الزهراء (عليها السلام): كانت تقضي اللّيل بالعبادة والدعاء للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فسألها لِمَ لا تدعين لنفسك؟ فقالت: يا بُنيّ، الجار ثمّ الدّار.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق