• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قول الأحسن.. حصانة للمجتمع

قول الأحسن.. حصانة للمجتمع

◄يقدِّم القرآن الكريم الأسلوب والمفردات التي يجب على الإنسان أن يتبعها في علاقته بالآخرين، في كلِّ ما يتكلم به، لأنّ الكلام هو الوسيلة التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان ليعبِّر بها عمّا يفكِّر فيه ويهتم به، وعمّا ينفتح به على الناس، وعمّا يمارسه من جدلٍ في القضايا التي يختلف فيها معهم، أو ما إلى ذلك. فالكلام إذاً هو الجسر الذي يربط الإنسان بالناس الآخرين، وهو الوسيلة التي تصنع للمجتمع تفاهمه وتواصله وتكامله وتعاونه فيما يشترك فيه أفراده بعضهم مع بعض.

وقد اهتمَّ القرآن الكريم بالقول الذي لابدّ أن يصدر من الإنسان في علاقته بالآخرين، وفي خطابه لهم، فقال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83) قولوا للناس القول الحسن الذي يتضمّن ما ينفعهم ويفيدهم، وما يقرِّبهم ويجمعهم ويؤلِّف قلوبهم. وقد ورد عن الإمام الباقر (ع) استيحاء هذه الآية، حيث قال: «قولوا للناس أحسن ما تحبُّون أن يُقال فيكم»، كيف تحبون أن يتحدَّث الناس معكم ويقولوا فيكم؟ من الطبيعي أنّ كلّ إنسان يحبّ أن يتكلّم الناس معه بالخير وبما يحفظ حرمته ويؤكِّد كرامته وينفعه في حياته، فإذا كنت تحبّ أن يقول الناس فيك مثل هذا اللون من الكلام، فإنّهم يحبّون أن تتكلّم معهم بمثل ذلك.

تقوى الله بالكلام:

وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع)، وهو يخاطب المؤمنين: «اتقوا الله، ولا تحملوا الناس على أكتافكم ـ لا تتصرُّفوا تصرّفاً يثقل علاقتكم بالناس، فيدفعهم إلى الاعتداء عليكم ـ إنّ الله يقول في كتابه: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)»، فالإمام (ع) يستشهد بهذه الآية لكي يؤكِّد للمؤمنين أنّ عليهم أن يختاروا القول الذي يحبّبهم إلى الناس.

ويقول الإمام زين العابدين (ع): «القول الحسن يثري المال ـ يجعل مالك في تزايد، لأنّه يحبِّب الناس إليك، فإذا أحبُّوك تعاملوا معك بما يحقِّق لك الربح ـ وينمّي الرزق، وينسأ في الأجل، ويحبِّب إلى الأهل»، فالقول الحسن يزيد في أجلك، ويحبّبك إلى أهلك، ويدخلك الجنّة. ويقول رسول الله (ص): «والذي نفسي بيده، ما أنفق الناس من نفقة أحبّ من قول الخير»، فإذا قلت كلمة الخير، فإنّها صدقة تتصدّق بها عليهم، وهي ممّا يحبّه الله تعالى ويرفع به درجتك ويحقق رضوانه لك. وقد ورد في الحديث: «الكلمةُ الطيِّبة صدقة».

التكلّم بالحقّ والصواب:

وعلى الإنسان إذا أراد أن يتكلّم، أن يتكلّم بالحقِّ والصواب، لا أن يتكلّم بالباطل والخطأ، وهذا هو قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ـ قولاً منفتحاً على الخير والحقّ، وهناك جائزة على ذلك ـ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/70-71).

وقد تحدَّث الله تعالى عن اللغو، وهو القول الباطل الذي يضرّ ولا ينفع، أو القول الذي تنسب فيه إلى الناس ما لم يتصفوا به وتتهمهم بما ليس فيهم، يقول تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ـ إذا تحداك شخص واتهمك بما ليس فيك أعرض عنه ـ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص/ 55). ويقول تعالى في صفة المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 3)، ويقول تعالى عن صفات عباد الله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان/ 72).

قيمة الكلام الأحسن:

وورد في قوله تعالى عن قيمة الكلام الأفضل، لأنّ هناك كلمة يمكن أن تجلب لك الخير، وهناك كلمة يمكن أن تجلب لك الشرّ، فربّما تطلق كلمةً تخلق مشكلةً وحالاً من الإثارة، وربّما تطلق أُخرى تحبِّب الناس بك وتحلّ لك مشكلةً، على طريقة المثل الشعبي: «كلمة بتحنّن وكلمة بتجنن»، فالكلمة التي تحنِّن هي التي تحبِّب الناس بك وتحلّ لك مشكلتك، سواء في البيت أو في مكان العمل أو في المجتمع. يقول تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي ـ مُرهم يا محمّد، كما تأمرهم بالصلاة والصوم والحجّ، أن ـ يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء/ 53)، ونحن نعرف كم من كلمة خلقت حرباً وهدّمت بيتاً وقتلت صاحبها.

كيفية ضبط اللسان:

وورد عن الإمام عليّ (ع)، حول ضبط الإنسان لسانه والسيطرة على كلامه، قوله (ع): «الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به ـ فما دمْتَ لا تتحدَّث به فأنتَ تسيطر عليه وتقيِّده ـ فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك ـ حاول أن تخزن لسانك في خزانة، حتى لا يقودك إلى ما قد يدمّر حياتك ـ فربّ كلمة سلبت نِعمةً وجلبت نقمةً». ويقول رسول الله (ص) عن الكلمة كيف ترفع صاحبها أو تضعه: «إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه».

ونحن نعرف أنّ من الكلمات المذمومة في الإسلام، كلمة الكذب والفحش، وقد ورد في الحديث: «إنّ الله حرَّم الجنّة على كلِّ فحّاش بذيء، قليل الحياء»، وكذلك كلمات اللعن، حتى ورد عن النبيّ (ص): «إنّي لم أُبعث لعّاناً وإنّما بُعثت رحمةً»، وورد عنه (ص): «لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعّاناً»، خصوصاً لعن المسلمين مقدّسات بعضهم بعضاً، والتي تؤدِّي إلى الفتنة بينهم.

استقامة الإيمان باستقامة القلب:

ويقول الإمام عليّ (ع): «إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه». كيف ذلك؟ قال: «لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شرّاً واراه ـ فالقلب، وهو العقل، هو القائد، واللسان جنديٌّ من جنوده ـ وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه، لا يدري ماذا له وماذا عليه». ويقول (ع): «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ـ لأنّ اللسان من خلال مضمونه يؤثِّر على عقل الإنسان ـ فمن استطاع منكم أن يلقى الله وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من أعراضهم، فليفعل».

إنّنا نعاني الكثير من فوضى الكلام، سواء في أوضاعنا العائلية في البيت، أو في العمل أو في المجتمع، في أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والدينية، وإن عدم تحمّل مسؤولية الكلام قد يوقع المجتمع في نزاعات وحروب من شأنها أن تدمّره، وعلى الإنسان أن يعتبر أنّ كلامه هو جزء من عمله، وأنّ الله سبحانه سوف يحاسبه على كلِّ صغيرة وكبيرة فيه، وإنّنا نسأل الله تعالى أن يسدّدنا إلى ما هو أحسن في القول والفعل، لكي نلقاه وهو راضٍ عنّا، إنّه سميع مجيب.►

ارسال التعليق

Top