• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

(قد أفلح المؤمنون...)

أسرة البلاغ

(قد أفلح المؤمنون...)

 

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون/ 1-11).

قراءة واعية وتأمّل دقيق في عطاء الوحي، وامتداد يقظ مع آفاق القرآن يجعلنا نكتشف محتوى هذه الرسالة الالهية الخالدة، وندرك أهدافها ومنهجها اللاحب في الحياة.

ندرك أنّ القرآن مدرسة هداية ومنهج دعوة ودستور حياة، وفي ظلاله يجد الإنسان معنى الحياة، ويحيا فسحة الأمل، ويتنسّم شذى الأمن والسعادة. لنقرأ القرآن ولنقرأ معانيه، ولنكتشف خزائن القيم والفكر ومنهج الحياة في كلمة الله الداعية إلى هدى الإنسان وانتشاله من وهدة السقوط، وصحاري التيه، وحيرة الضلال. لنقرأ القرآن ولنتجاوز قراءة أولئك الذين يقرأون الحروف وصيغ الألفاظ، ويغفلون عن المحتوى وخزين الفكر والمعرفة، إنّ الذي يقف على ساحل البحر لا يدرك عمق الماء , ومن يسبح على سطح الماء لا يجني لآلئ البحر. آفاق القرآن مديدة، ومدرسته غنيّة، وعطاؤه ثر، وفي كل أفق من آفاقه يكتشف الإنسان معنىً جديداً للحياة وقيمة معبّرة عن معنى الوجود. وفي تصوير القرآن للمجتمع ولجماعة المؤمنين، وللإنسان النموذج، والشخصية السعيدة في الحياة، يرسم بأسلوبه الأدبي الرائع، وتصويره اللغوي الأخّاذ صورة ذلك الإنسان، ويشكّل صيغة تلك الجماعة، ويعبّر عن طبيعة الحياة والعلاقة والخصائص التي ينبغي أن تكون في الإنسان الحضاري المتسامي، إنّه يتحدّث في آيات عديدة، ويصوّر في موارد شتّى صفة ذلك الكائن الذي استطاع أن يكون إنساناً ( المؤمن )، إنّ الإنسانية في منطق القرآن لا تتحقّق بالشكل والهيأة، إنما تتحقّق بتكامل الذات البشرية،     وبتجسيد القيم والمثل العليا في وعي الإنسان وسلوكه ونوازعه فالإنسان إن فقد هذه القيم، سيكون شرّاً من الحيوان وأسوأ حالاً من الوحوش الكواسر:  (إن هُمْ إلا كالأنْعامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبيلاً) (الفرقان/ 44).  إنّ الحياة ستفقد قيمتها، وإنّ الإنسان سيفقد إنسانيته إذا ما غابت خصائص الإنسان وصفاته الحقّة من مسرح الحياة. إذا لنصغ جميعاً إلى كلمة الله، ولنقرأ بوعي ما خطّه قلم الوحي ورسمته ريشة القرآن ولنحي في ظلّ تلك الأجواء الروحية العميقة، ولنستنر بهدى ذلك السراج الدليل. لنقرأ صفة الإنسان المؤمن وصفة الجماعة المؤمنة، ولنجعل هذه الصورة هي صيغة الحياة وهدف الإنسان وغاية الدعوة في منهج القرآن. فها هو القرآن يتحدّث ويصوّر ويعرض لنا الإنسان النموذج في الحياة ويفاجئنا بمطلع سورة (المؤمنون) بالبشرى، فيثير الأمل وانفعال الرجاء في النفوس، ويبدّد سحب البؤس وضباب اليأس والقنوط بمطلع بيانه. (قد أفلح المؤمنون). من هم أولئك المؤمنون الذين أفلحوا وربحوا وفازوا؟ يا لها من بشرى، إنّها كلمة الرجاء وهبَةُ الغيب وعطاء الرحمن، يفتح بين يدي الإنسان أبواب السعادة والأمل، ويضم أمام عينيه صورة ذلك العالم الرحب، بعد أن حالت حجب المادّة بينه وبين الإطلال عليه. (قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون).  قد أدركوا المراد والمبتغى. والخشوع، الضراعة، والتواضع والخضوع والطمأنينة والسكون الذي تغشاه النفوس في رحاب الصلاة، وهي تطلّ من دنيا الشهادة على عالم الغيب والنور والجلال وتتسامى في معراجها إلى عالم القدس والجمال، وتتحسن معه متعة القرب والمناجاة. سويعة انفصال عن كدح الحياة ومعاناة الإنسان، لحظات مناجاة تتحلّل فيها النفوس عن ارتباطها المضني، وتذهل فيها القلوب عن نَصَبِها المرهِق وتتحرّر من أسرها المادّي الرهيب، لتسبح وتفنى في عالم الحب والقرب الإلهي المقدس، في تلك السوائح تنظر النفوس إلى الحياة والوجود من خلال ذلك الموقف، وتلك الأحاسيس الروحية المتعالية، فتعود ذاتاً غير التي بدأت الصلاة، بعد أن استحمّت في صفاء الحب والنور، وتخلصت من أكدارها وأوضارها، فعادت صافية تتجلّى في آفاقها حقائق الحب والصفاء، إن جلال الموقف وذهول الإعجاب والقرب، واستيلاء غمرات الحب والشوق يثير مشاعر شتّى، الحب والخضوع والضراعة والسكون والطمأنينة، تأتلف في نفحات الخشوع جميعاً فتشيع في النفس بشرى الظفر وإدراك الُمنى (الفلاح). ( قد أفلح المؤمنون) . كلمة بشرى تهتزّ لها القلوب وتقشعر لنفحاتها الجلود، وتتناغم مع وقعها نوازع الخلود، فتزداد النفوس خشوعاً إلى خشوعها، ويقيناً إلى يقينها، انّها تتلقّى كلمة الرحمن ووعده الحق بالفلاح وإدراك السعادة، وكأنّها تخاطب من غير واسطة، وتستمع للوحي يتدفّق إلى أعماقها البعيدة، وترى تلك القلوب خاشعة ضارعة مطمئنة ساكنة. أما لغو المسيئين وثرثرة العابثين فهي في منأى عنها، وفي تباعد عن صداها، لقد عرفت الحق فرفضت الباطل، وأدركت الهدى فأعرضت عن الضلال، وألِفت لُغة الحكيم فسدّت الآذان عن لغو العابثين: (والذين هم عن اللغو معرضون* والذين هم للزكاة فاعلون). لقد ألِف أولئك المؤمنون المفلحون عالم الحق والخير والعطاء، وعرفوا أنّ لكلّ شيء قيمة ومعنى في هذا الوجود، أما العبث والضياع واللامعنى فتطفّل خارج على منطق الخير. الكلمة اللاغية، كلمة عابثة مسمومة تفرز صديدها النتن في الآذان والنفوس، انها ظاهرة تعبّر عن تفاهة اللاغين، وتعكس حقيقة الذوات التي صنعت تلك الكلمات العابثة، إنّ النفس التي يسمو بها الكمال تتعالى على سفاسف الأمور، وتعرض عن التافه من القول والعمل، ولذا فهم لا يستعملون الكلمة إلاّ في مجال الدعوة إلى الله، وإيصال مفهوم الخير والإصلاح للناس، وهم عندما يبلغون كلمة الحق، ويُجابهون من الجهّال والمتخلّفين والحاقدين بالتُهم واللغو والأباطيل، تراهم معرضين مترفّعين. إنّ لهؤلاء المفلحين منهجاً ووعياً وطريقة تفكير ومساراً يحدّد علاقاتهم وآصرتهم بالخالق والوجود والأشياء، إنّ موقف الخشوع في الصلاة يجسّد علاقة المفلحين بالله سبحانه، ويمتد ليسري في كل قصد وحركة وسلوك يصدر عن هذا الانسان، فهم لم يبرحوا محراب الخشوع، ولم يفارقوا موقف التعلق والارتباط بالله والتسامي نحوه، لذا أعرضوا عن اللغو والكلمة اللاغية، ولذا كانوا معرضين عن حب المال والكنز وحرمان الآخرين. إنّهم يعرفون أنّ لكلّ شيء قدراً وقيمة وغاية، فللكلمة قدر وقيمة وغاية، يجب أن تستعمل فيها، وأنّ للمال قيمة وقدراً وغاية يجب أن يستعمل فيها، انّه أداة لخدمة الانسان وتيسير مطالب الحياة ليسلك دربه الموصل إلى الله، ويبتعد عن الانشداد إلى الدنيا أو الانسياق في دوّامة التكالب على المال، والتسلّل في طرق الحرام للحصول عليه. إنّ نظام المال والتعامل مع الثروة، لا ينفك في عرفهم عن نظام الأخلاق والعبادة، وروابط الانسان بأخيه الانسان، إنّ لكلّ إنسان حقّاً في هذه الثروة، حقاً في منطق الأخلاق والوجود والعبادة، وإنّ تراكم المال، ومنع الآخرين حقّهم وحرمانهم إن هو إلاّ نكوص أخلاقي يلوّث النفس ويعيق حركة التسامي نحو الله سبحانه، كما يعيق حركة النمو والإصلاح والسلام في مجتمع الانسان، لذلك كانت الزكاة طهارة ونماء للنفس والمجتمع والمال، ولذا كانوا حريصين على فعلها وأدائها.      (والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون). وطهارة الخاشعين الذين لا يفارق خشوعهم آفاق النفس، وإعراضهم عن العبث واللغو وإصرارهم على الالتزام بالكلمة الخيّرة النافعة، وتعاملهم المترفّع على المال والثروة ومتع الحياة، وحضورهم الدائم الخُشوع في ساحة القرب الإلهي، دائمة الفاعلية والأثر في حركة النفس واتّجاه السلوك وتسامي الذات، وداعية للطهر والنقاء من دنس السقوط والتلوّث بقذارة الزنا وممارسات الجنس الشاذّة، التي تعكس حالة الشذوذ والانحراف، وتحكي واقع السقوط والانحطاط في النفس البشرية، لقد التزم هؤلاء الخاشعون المفلحون بخط الطهارة، طهارة الكلمة والمال والجنس، ليضعوا مسيرة الحياة في رحاب الطهر والقدس الإلهي الذي غمر نفوسهم، وملك القلوب والأشواق فيهم. لقد عرفوا انّ لكلّ شيء قدراً وقيمة وغاية، إنّ للمتع والغرائز والعلاقة بين الجنسين قدراً وغاية وهدفاً نبيلاً في هذه الحياة، كما انّ لها نظاماً واحداً واضح المجال والمساحة. لذا فهم استجابوا لحدود الطبيعة، ولبوا حاجة الغريزة في إطار الطهر والالتزام، إنّ من يعرف الحدود لا يعتدي، ومن يعرف الغاية لا ينحرف عن تحقيقها، ومن يعرف القيمة لا يسقط في ضيعة التفريط،لذا أعطوا كلّ شيء قدره وقيمته، ولم يبغوا ما وراء ذلك القدر وتلك الغاية، ولم يسلكوا سبل العدوان والانحراف على منطق الحياة، ونظام الطبيعة الخيّر، لقد صاروا مثالاً للالتزام والانضباط، فأفلحوا وحققوا الفوز والرضوان. (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون). ويواصل القرآن وصفه الأخلاقي لتلك الفئة المؤمنة، ويعرضهم نماذج في الخلق الإنساني، وفي الالتزام الأخلاقي , فهم الأمناء على ما اؤتمنوا عليه، والمراعون الحافظون لما استحفظوا عليه، وكل شيء في عرف هؤلاء الناس هو أمانة بأيديهم، المال أمانة والكلمة أمانة، والحكم والسياسة أمانة، والقوّة والقدرة والعقول عندهم أمانة، والخيرات وما وهب الله، كل ذلك في عرفهم أمانة يجب رعايتها والحفاظ عليها، وردّها إلى أهلها، أو استعمالها وأداء حقّها، كما ينبغي أن يؤدّى ويحفظ ويستمر، فهم لا يخونون ولا يفرّطون، ولا يضيّعون.  وكما يحفظون ما أؤتمنوا عليه , فهم كذلك يحفظون ويؤدّون ما التزموا به، وعاهدوا الله والناس وأنفسهم عليه، إن للعهد والكلمة التي يقولونها والموثق الذي يعطونه، والعقد الذي يعقدونه و قيمة وقدراً وغاية يحافظون عليها، لأنّه اعتبار صنعوه بمحض إرادتهم، والتزام قطعوه على أنفسهم بخالص اختيارهم، وهم يحترمون إرادتهم والكلمة التي تصدر عنهم، لأنّهم أمناء على الأمانة، معرضون عن اللغو، انّهم مثال الصدق والوفاء والإخلاص والالتزام، وهم بهذه المبادئ يمثّلون صيغة الانسان الاجتماعي المتسامي الذي يحفظ الحقوق، ويعرف قيمة الأشياء ويؤدّي الواجبات ويستطيع بناء المجتمع الإنساني المتحضّر. لقد صوّر القرآن في هذه الاضمامة من آياته المباركة صورة المجتمع الفاضل السعيد، مجتمع الصلاة والخشوع لله وحده، مجتمع الدعوة إلى الله وخير الانسان، المجتمع الذي يعرف كيف يستعمل الكلمة الخيّرة البنّاءة، مجتمع الإعراض عن اللغو والعبث والضياع واللامعنى، المجتمع الذي يعرف أفراده كيف يتعاملون مع المال والثروة ويقتسمون مصادر العيش والسلع التي تسد الفقر والحاجة، وتوفّر الرفاه والحب والسلام، مجتمع الطهارة والنقاء الجنسي والغرائزي، المجتمع الذي يحفظ الأمانة والعهد،ويتمتع بالالتزام والصدق واحترام إرادته واعتباراته. (والذين هم على صلواتهم يحافظون). والصلاة: هي الدعاء والتبريك والتمجيد، وهي هوية المسلم وعلامة عبوديته وعرفانه لخالقه. وفي وصف القرآن للمؤمنين في هذا اللوح الألق من الآيات، جعل الفلاح ووراثة الفردوس بالخشوع في مقام الصلاة ابتداء، وبالحفاظ عليها ورعاية أوقاتها نهاية وخاتمة، ليوحي بعظمة الصلاة ويذكر بأهمية هذه العبادة، وانّ الفلاح ووراثة الفردوس، لا تكون إلاّ للمصلّين الخاشعين المحافظين على صلاتهم، إنّ الذين يحفظون صلاتهم ولا يسهون عنها، إنما يُعبّرون بذلك الحفاظ عن الحب والذكر والوفاء لله، ودوام التعلّق به، والانشداد إليه.  انّها ساعة الدعاء والتواضع وإظهار العبودية، وموقف الثناء والتمجيد والتعظيم لله وحده، تعبيراً عن التصاغر والضراعة، وإعلاناً عن الاستغفار من الغرور والكبرياء، واعتذاراً عن الغياب والذهول عن الحمد والثناء وتأكيداً للفقر والحاجة إلى الفيض والمدد، لذا كان التأكيد والتذكير بموعد اللقاء مع الله، ساعة المناجاة وفسحة القلب الوَلِه المشتاق. (أولئك هم الوارثون[1]* الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون). ويتابع العرض القرآني حديثه لبيان الجزاء وتوضيح معنى الفلاح الذي ابتدأ الحديث به، ووعد المؤمنين بانجازه. ففي هذه الآية نقرأ: انّ الفلاح هو وراثة الفردوس، والظفر بتلك القنية الهنيئة السعيدة، التي ادّخرها الله لهم، من غير تعب منهم في إنشائها ولا منّة عليهم في الحصول عليها. والقرآن حين تحدّث عن وراثة الفردوس وانتقى هذا اللفظ دون غيره، انّما كان يعرض صوراً شتّى في إطار لفظ واحد، لأنه الأقدر على الأداء والتعبير عن المعنى المراد إيصاله، يقرؤها المتأمّل في أجواء اللفظ والآية، ليعرف ثمن المعركة وصراع المؤمن وجهاده وجهده في عالم الفناء الذي يتكالب الناس على وراثته، ووراثة المال والسلطان والملذّات السائرة في طريق الفناء. امّا هو فقد وعد بوراثة الفردوس والخلود.   (ونفسٍ وَما سَوَّاها* فألهَمَهَا فُجورها وَتقوَاها* قدْ أفلحَ مَنْ زكّاهَا* وَقدْ خابَ مَنْ دَسّاها) (الشمس/ 7-10). ويتواصل النظم والاتساق في بيان الوحي، يتواصل بين سوره وآياته، ليتحدّث عن الفلاح، فلاح المؤمن ووراثة الفردوس، فيستحضر صور العذاب وأهوال القيامة في سورة البلد عندما يفتتح السورة بتصوير جهنّم وقد أطبقت مقابضها وأوصدت على المجرمين أبوابها، فلا مخرج ولا منجي ولا صريخ. يصف كلّ ذلك المشهد المروّع بقوله: (عليهم نار مؤصدة). ثم يواصل البيان في سورة الشمس التي تلي سورة البلد، بيان النجاة والخلاص من العذاب المؤصدة أبوابه المغلقة طبقاته. فيقسم بقدرته وعظمته المتجلّية في عظيم خلقه، فيفتتح السورة بقوله: (وَالشمسِ وَضُحاها* وَالقمرِ إذا تلاهَا* وَالنّهَارِ إذا جَلاّهَا* وَالليْلِ إذا يَغْشاها* وَالسَّماءِ ومَا بَناهَا* وَالأرْضِ ومَا طحَاها). يقسم بعوالم الطبيعة وما فيها من تجلّيات الإبداع والعظمة، ومظاهر القدرة والروعة والجمال. ثمّ يواصل قسمه بعالم النفس البشرية وخلقها وتسويتها وما حوت من دلائل القدرة والإتقان، تلك النفس التي انطوت على نوازع الخير والشر.  يقسم بما خلق، ويجعل جواب قسمه قوله: (قد أفلح من زكّاها* وقد خاب من دسّاها). انّها الرحلة المديدة والتجوال المتأمّل في عالم النفس والطبيعة، يرسم القرآن مشاهدها أمام الانسان، بياناً وتصويراً يحمل الدعوة والحثّ على تزكية النفس من فجورها وما حوت من نوازع الشر والفساد. انّه يقسم ويقابل في جواب قسمه بين الخيبة والفلاح، كما يقابل بين الفجور والتقوى، والطهر والدس الملوّث للذات. تزكية النفس وتنقيتها من بواعث الشر والبهيميّة، وتنمية اتّجاهها نحو الخير وقيم الكمال. انّ مأساة الانسان وخيبته تكمن في ظلمات النفس وقذارة الوجدان، انّه يُعذّب نفسه بالحقد والأنانية وحالات الهلع والظلم والفساد ويسوقها وراء الشهوات البهيميّة، عمياء لا تبصر الطريق، وقذرة ملوّثة يعاد صهرها في مطابق الحريق في عالم الجزاء. (قدْ افلحَ مَنْ تزكّى* وَذكرَ اسْمَ رَبّه فصَلى)(الأعلى/ 14-15). وفي سورة الأعلى يفتتح الوحي خطابه بالدعوة إلى تسبيح الربّ المتعالي في أسمائه وصفاته، وتنزيهه عن النقص والشرّ والعدوان، يفتتح الخطاب بقوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى). انّها دعوة للسير نحو الله , والاتجاه إلى مراتب الكمال والتسامي نحو تجلّيات الأسماء الحسنى والصفات العليا للرّب المنزّه العظيم . وهكذا كان الافتتاح ليتواصل الخطاب فيقرّر للإنسان حقيقة ما يراد له في عالمي الدنيا والآخرة، ليقرّر: (قد افلح من تزكّى* وذكر اسم ربّه فصلّى) , وليقرّر انّ الظفر والربح هو نتاج التزكية وتنقية الذات من شوائب الشرّ ومساوئ الأخلاق وأوحال الرذيلة . وليقرّر أن سعادة الانسان تنطلق من أعماق النفس وخبايا الذات ومطاوي الوجدان العميقة. ويعود الوحي كما بدأ يدعو إلى ذكر الربّ وتسبيح اسمه وتنزيه ذاته وصفاته، ثمّ الصلاة له والتعظيم لمجده، ليذكر الانسان ربّه حين تقوده الشهوة ونوازع الشرّ إلى الجريمة والفساد. وليذكر الانسان ربّه حين يرى آفاق الخير تتفتّح أمامه، ومسارب العطاء تفيض بالكرم عليه. ليذكر ربّه حين تتجلّى له آيات الجمال ومظاهر اللطف والعظمة في نفسه وعالمه. وليصلّي خاشعاً ضارعاً لعظمة الله، ليصلّي بقلب يملؤه الحبّ والشوق، وليقرأ في أفق القرآن والعوالم أجمع: أن الفلاح في تزكية النفس وذكر الربّ، والصلاة له بشوق وخشوع، ليواصل مسيرة التكامل نحو الله والتخلّق بأخلاقه.   [1] الوراثة والإرث: انتقال قنية إليك من غيرك من غير عقد، ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميّت، فيقال للقنية الموروثة: ميراث وإرث، ويقال لكلّ من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا، ويقال لمن خُوّل شيئاً مهنّئاً: أورث، وما روي عنه –عليه الصلاة والسلام – من قوله: (العلماء ورثة الأنبياء)، فإشارة إلى ما ورثوه من العلم، واستعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن ولا منّة.

ارسال التعليق

Top