منذ وُجدَ الإنسان في هذا الكون وهناك خطّان ترتبط حركته بهما: خطّ العدل، وينطلق من احترام الإنسان للإنسان الآخر ورعايته، وإعطائه حقّه، بل وإعطاء الحقّ لكلِّ مَن له حقّ، لأنّ هناك حقّ الله على الناس، وهو أن يوحّدوه في الربوبية، والعبادة والطاعة، وهناك حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) في الإيمان بنبوّته ورسالته والطاعة له في سنّته التي أراد الله تعالى له أن ينطلق بها في تفصيل ما أجمله القرآن، أو في ما لم يتحدّث عنه القرآن، وهناك حقّ الناس، فلكلّ إنسان حقّ وعليه مسؤولية، فهناك حقّ الأُسرة، فللأب حقّ على أبنائه، وللأُمّ حقّ على أبنائها، وللأبناء حقّ على آبائهم وأُمّهاتهم... وهكذا الأمر بالنسبة إلى علاقات الناس بعضهم ببعض، سواء في الأُمور الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، فلا يجوز للإنسان أن يأكل أموال الناس بالباطل، بل لابدّ من أن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه غير منقوص، وأن يفي بما عاهد الناس عليه: (إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء/ 34)، سواء كان من عاهده شخصاً أو جماعةً أو دولةً، فما دام الآخر يفي له بما عاهده عليه، فعليه أن يفي بعهده تجاهه. ولابدّ أيضاً من العدل، وأن يكون الإنسان مع العادلين لا مع الظالمين. والخطّ الثاني هو خطّ الظلم، الذي ينطلق من عدم إعطاء الإنسان الآخر حقّه، وتمتدُّ هذه المسألة إلى داخل العلاقات العائلية والزوجية وإلى كلّ العلاقات الإنسانية، سواء كانت علاقات اقتصادية أو سياسية أو أمنية، فهذا الخطّ هو الذي ينطلق الإنسان من خلاله ليظلم الآخرين في حقوقهم. وهذه مسألة لابدّ للإنسان من أن يرفضها؛ أن يرفض ممارسة الظلم، وأن لا يعين الظالم ولا يرضى بظلمه، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم».
من هنا، يعتبر المسجد الأقصى حقّ المسلمين، لأنّهم ورثة الرسالات السماوية السابقة، وهو رمز اصطفاء الله تعالى لرسالة الإسلام خاتمة الرسالات السابقة تصدّقها وتهيمن عليها، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة/ 48). فالمسلمون يؤمنون بجميع الأنبياء السابقين، ويعتبرون تبجيلهم وتوقيرهم ركناً من أركان دينهم، ومن ثمّ فإنّهم أتباع هؤلاء الأنبياء، الأقدر على حماية هذا المكان المقدس، ولن يسود السلام إلّا بعودة الحقّ لأهله. إنّ للمسجد الأقصى المبارك في نفوس المسلمين أهميّة خاصّة ومكانة عظيمة، يكنون له الود الشديد والحبّ العميق، اتفق على ذلك المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، فهو إجماع الأُمّة كلّها من أقصاها إلى أقصاها، ولا غرو أن يلتزم جميع المسلمين بوجوب الدفاع عن القدس، والغيرة عليها، والذود عن حماها، وحرماتها ومقدّساتها، وبذل النفس والنفيس في سبيل حمايتها، ورد المعتدين عليها، فاللقدس قدسية إسلامية مقدرة وهي تمثّل في حس المسلمين ووعيهم الإسلامي. يصادف الحادي والعشرين من شهر أغسطس عام 1969 ذكرى حزينة للمسلمين وخاصّة الفلسطينيين بالنكبة الكبرى التي أصابت أقدس مقدّساتهم، حيث ارتكب الكيان الصهيوني جريمة نكراء ضد المسجد الأقصى، بإضرامه النيران في جنباته. أحدثت هذه الفاجعة الأليمة، فوضى في العالم، وفجّرت ثورة غاضبة خاصّة في أرجاء العالم الإسلامي، في اليوم التالي للحريق أدّى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى، وعمّت المظاهرات القدس بعد ذلك احتجاجاً على الحريق. وتأتي ذكرى حريق المسجد الاقصى لتؤكّد أنّ مدينة القدس بمقدّساتها ستظل عربية وإسلامية الهويّة مهما حاولت سلطات الاحتلال تغيير معالم المدينة المقدّسة.
وعلينا نحن - كمسلمين - أن ندرك هذه الحقائق، ونعي أنّ أرض فلسطين هي أرض إسلامية، لا تخصّ شعباً مُسلِماً دون آخر. جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مطالبين بالدفاع عن حُرمتها وحُرمة المسجد الأقصى المبارك.. إنّ ما يجري في فلسطين اليوم يضع الأُمّة الإسلامية خاصّة والعالم عامّة أمام مسؤوليات جسيمة، ونحن تتطلّع بأمل وغبطة لهذا الشعب المجاهد الذي يصنع الملاحم من خلال التضحيات المضمخة بالدماء الطاهرة حيث إنّ كلّ هذه التضحيات الغالية ينظر إليها الشعب الفلسطيني بتواضع، لأنّ فلسطين تحتاج إلى الكثير من هذا الصبر هذه الجراحات من أجل استعادتها وتحريرها، وأنّ العالم الإسلامي اليوم يضج استجابة لنداء هذا الشعب المجاهد.. إنّ قضية فلسطين من القضايا الأساسية التي تشكّل أُولوية في اهتمامات الأُمّة الإسلامية من خلال التأكيد الدائم على عظمة هذا الفعل الجهادي والواجب الديني والإنساني والعقلاني في دعم أبناء الشعب الفلسطيني المظلوم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق